ايمان اليوسف

قميص بطعم الفراولة

«بَهِدّ البيت»

 سقطت قطعةُ آيس كريم حمراء على قميصها، فتركتْ بقعةً كبيرةً أسفل الياقة وأخرى تشبهُ الوَحمة على ذقنها تذكّرت أن البقع الحمراء لا تزول؛ تقتلُ الملابس. قبل أسبوع وتحديداً الثلاثاء الماضي، عادت من المدرسة بآثار دماءٍ من أنفها على قميصها وكمّيها. صرخت فيها أمها ثم جعلتها تتخلّص من القميص في سلّة المهملات. بقيت ليلتها بلا عشاء.

تساءلتْ إن كانت ستصرخ فيها هذه المرّة أيضاً. هنا في محل المثلّجات وأمام هذا الكَمّ الكبير من الناس. كان الجو حاراً ومن قدر الآيس كريم أن يذوب.

لم يلمح أحدٌ ذقنها أو قميصها أو قطعة آيس كريم الفراولة الكبيرة التي تذوب وتنتشرُ على ياقة القميص، تُعلن ولادتها حين تُطلقُ الألوان البكماء، كالعصافير. لم ينتبه إليها أحد رغم جلوسها بين أختها وأخوها وأمام والدتها على طاولةٍ صغيرةٍ مستديرةٍ وسط المحل. أخذَتْ العبارةُ الأخيرة التي لفظتها والدتهم قبل قليلٍ أخويها ورحلت ذابتْ ملامحهما كما الفراولة المثلجة الآن. نفذت عميقاً إلى عنقها عبر القميص. بدأ الأمر بقشعريرة ثم انتشر نملاً كالذي يدبّ على قدمها عندما تجلس عليها مدّةً طويلةً أمام التلفاز.

بعد حادثة الدّم الثلاثاء الماضي، لم يبقَ لديها سوى هذا القميص. ما الذي سترتديه للمدرسة يوم غدٍ يا ترى؟

«ليش.. أمي العودة مريضة؟»

تمنّت لو أنها سمعت العبارة التي سبقتْ هذا الخَرَس والسؤال الغريب. استغربت عدم ملاحظة أحدهم للبقعةِ الكبيرة الحمراء أعلى قميصها الأبيض المخطّط بالكحلي. بدَت مثل إشارة مرورٍ يُشعّ فيها القرص الأحمر، تصرخ بهم «توقفوا» فلا يلتفتون. من الجيّد أن شعار المدرسة على جيب القميص لم يتأثّر. يمكن الآن أن تقصه والدتها وتلصقه على قميص أختها القديم؛ إذ تغيّرَ شعار المدرسة منذ أربعة أعوامٍ دون أن يتغيّر نوع القماش ولونه. دون أن تتباين تفاصيل جسدها عن جسد أختها سنتيمتراً واحداً، لحسن الحظ.

«لا حبيبي.. أنا مب رادّة البيت»

«انتي ما تحبّينا خلاص؟»

«لا يا الغبي.. هي تكره بابا»

انتشرتْ صبغةٌ حمراء قانية على وجه أختها. التفتت إلى أخيها الذي غطّى أنفه بيده وعاجلَ يمسحُ قطراتٍ لزجةٍ من الدّم بكُمّ قميصه. لم تعد تسمعُ ما يدور حولها وسط طنينٍ مجنونٍ من الضحكات والهمسات الحادّة. العشرات من المتفرجين اقتربوا من بوابة محلّ المثلجات الصغيرة، تدافعوا ليشيروا بأصابعهم التي تطول باستمرارٍ كأنف بينوكيو ويصوروا بهواتفهم.

على الطاولة أمامهم بقيت أطباقُ الآيس كريم الثلاثة جامدة. بلا موقفٍ أو حركة. لا شيءَ يحدث سوى اختفاء الآيس كريم بالتدريج. كأنّ القطعة الباردة تذوب في سائلٍ من عرقِ خجلها. اقتربتْ أصابعُ الناس منهم حتى أحسّتها تلمس جبهتها. يضحكون فلا تسمعُ ما تلفظه شفتا والدتها اللتين تبدوان كمغارةٍ مظلمةٍ كبيرةٍ لأوّل مرّة. تخرجُ الحروف أسماكاً نافقةً من بين أسنان أمها، فلا تصلها سوى رائحة العفونة وزفَر البحر.

اختفى الآيس كريم وحلّ محلّه سائلٌ أحمرُ لزجٌ أمامها تقلّبُهُ بملعقتها البلاستيكية البيضاء تيبّسَتْ الوَحمة الحمراء على ذقنها فبدأتْ تحكّها. مدّت يدها نحو علبة المناديل الورقية الصغيرة إلى جانبها. ارتطمت أصابعها القصيرة بكفّ أمها التي كانت تعبثُ عميقاً في أحشاء العلبة. تُدَوِّرها ثم تهزّ العلبة بقوّةٍ وتخرج يدها منها بآخر منديل. نفختْ بقوّة في القطعة البيضاء بعد أن مسَحَتْ دموعها وأثَراً من كحلتها جيّداً. طوتها ثم حشرتها بين أصابعها. احمرّ جفناها وجانبا أنفها.

ما زالتْ لا تذكر العبارة التي بدأت بها أمهم حكمها القاسي بالخرَس الطويل وأصابع بينوكيو، ولا حتى تفاصيل ذلك اليوم بوضوح. لا يمكنها وصف محلّ المثلجات أو الشارع الذي كان فيه، لكنها كلّما رَعَف أنفها – كما يفعل عادةً في أيام الصيف القائظة – يحكّها ذقنها ويصعد النّمل إلى صدرها من تحت ياقتها فتغلبها قشعريرة برودة غريبة بطعمِ الفراولة.

قميص بطعم الفراولة  – من المجموعة القصصية (بيض عيون)