الليل في هذه القرية يأتي قبل أي مكان في العالم، وهو أطول ليل شعرت به..
ذلك ما أخذ الدكتور ناصر يردده منذ أن تزوج أحد زميليه في مركز الجبال الطبي، ثم انتقل للسكنى لدى أهل زوجته بالقرية المجاورة، وذهب الآخر في إجازته السنوية.. كان إذا ازداد ضغط الشعور بالوحدة على نفسه اتجه إلى كوخ حارس المركز في زاوية من زوايا الحديقة حيث يقدم له كوباً من الشاي لا يكاد ينتهي من شربه حتى يكون الرجل قد تثاءب عدة مرات تضطره إلى جرجرة قدميه مهموماً إلى السكن الخالي من سواه.. يدخل الرجل إلى زوجته، وولديه، ويلتقي هو بالفراغ، والصمت الموحشين في المركز الواسع النائي عن كل ما حوله كقبة مقذوفة في إحدى المجرات البعيدة …
إلى ما قبل أسبوعين كان بإمكانه فتح نافذة غرفته المطلة على حقول القرية ليستأنس بأي صوت يصل إليه.. صراخ ديك.. ثغاء شاة.. خوار ثور، أو حتى نهيق حمار.. يفعل ذلك متحدياً وحشة الظلام الضارب في عمق الحقول.. لكنه بعد أن أوغل الشتاء، وأخذت زخاته الباردة تحيل كل شيء في غرفته إلى جسم لاسع البرودة اضطر إلى إغلاقها.. تلك الوحدة، وتلك البرودة تذكره بأيام دراسته في إحدى الدول الأوروبية حين كان يسكن منطقة ريفية قريبة من العاصمة لعدم قدرته على دفع أجرة سكن في المدينة.. تلك الأيام حاول أن يجد صديقاً يؤنس وحدته، فلم يفلح، فقال له أحد أساتذته.. حاول أن تجد لك واحدة.. رفض هو ذلك الأمر.. رفضته تربيته الدينية التي تنهاه عن مرافقة أنثى لا يربطه بها رباط شرعي، ثم وجد تلك الواحدة ستأخذ حيزاً كبيراً من وقت دراسته، ومن مصاريفه المحدودة.. هنا أيضاً يرحب به الرجال طوال النهار، ويدعونه أغلب الأيام إلى طعام الغداء في بيوتهم، لكنهم بعد صلاة العشاء مباشرةً يختفون خلف أبوابهم، ويبقونه وحيداً مع الفراغ والصمت.. حتى السكن المخصص لممرضات المركز قد خلي أيضاً بعد أن استأجرت الممرضات القادمات من مناطق أخرى بدورهن بيتاً في القرية مع أن سكن المركز أكثر صلاحية، وحداثة من كل بيوت الناحية…
لم يتبق من أهله إلا عمة واحدة حاولت تزويجه بمجرد تخرجه، دون أن يكون لها مطمع في ذلك، فليس لها سوى بنت واحدة تزوجت قبل أن يكمل دراسته.. لكنه قاوم كل محاولاتها رغبة منه أولاً في متابعة تخصص أعلى، ولعدم ميله للزواج بالطريقة التقليدية ثانياً.. تلك الليلة أفاق على حركة مريبة تحت
نافذته، وكان قد نام قرابة الساعة على الأريكة حيث كان يقرأ بحثاً خاصاً بدراسته المقبلة للحصول على درجة الماجستير، ففاجأه النوم.. كان الجو عاصفاً في الخارج، وأخذت البرودة تتسرب من شقوق دقيقة تحيط بالنافذة، وظن في البدء أن الرياح قد جلبت جسماً من الأجسام المهملة في الطريق الضيق الفاصل بين مبنى المركز، وبداية الحقول.. لكنه لم يلبث أن سمع أنيناً، وهمهمة، فاندفع يفتح النافذة ملبياً ما ظنه استغاثة، فلم يجد سوى أفق دامس، وزخات من الهواء البارد، لكن ضوء الغرفة لم يلبث أن أظهر جسماً آدمياً ملتوياً على نفسه بهيئة حلزونية اتقاءً للبرد الشديد في القرية المرتفعة كثيراً عن سطح البحر:
… من؟.. من هنا؟.. من أنت؟..
لم يتلق جواباً.. لكن صوت اصطكاك أسنان مصحوباً بارتجاف شديد للجسم بلغ أذنيه.. لم يكن الجسم واضح المعالم في الإضاءة الضعيفة الساقطة من نافذته.. لكن هيئة الثوب كثير التمزقات، والرقع أظهرت أنه لأنثى، ثم رجحت ذلك القدمان الحافيتان صغيرتا الحجم.. فهب يسحب الدثار من فوق سريره ومنامة صوفية معلقة على المشجب.. ولما أطل مرة أخرى رآها تهم بمغادرة المكان:
… هاك.. خذي.. خذي هذا الدثار.. تدفئي جيداً.. لوت نحوه وجهاً جميلاً مرتجفاً، وانسكب في عينيه من عينيها الواسعتين تعبير غير محدد، ثم لفت اللحاف حول جسمها والمنامة حول شيء في حجرها، وأخذت تغادر دون أن تنطق بأية كلمة.. حاول هو أن يستوقفها حتى يحضر من المطبخ شيئاً تأكله:
… انتظري.. انتظري قليلاً
لكنها لم تلتفت وهي تغذ نحو الأفق الأسود:
… تعالي غداً صباحاً.. من البوابة.. اسألي عن الدكتور ناصر.. أسمعت؟..
قال ذلك بعد أن يئس من إيقافها، وأخذ يراقبها مدبرة دون أن تلتفت، أو تومئ بأية حركة حتى أخفاها الظلام عن عينيه..
منذ أن جاء إلى تلك الناحية لم ير امرأة تشبهها في المركز أو خارجه كما لم يشاهد امرأة متسولة.. أغلب سكان القرية، والقرى التي تحيط بها كانوا أصحاب حقول، أو عاملين بها، فمن أين ظهرت تلك الشابة الجميلة المتسكعة في الدروب، والطرقات الموحشة شديدة الظلام!…
لم يستطع تجاهل الأمر، أو نسيانها طوال الليل، واليومين اللاحقين.. وأضطر حين لم تأت كما طلب منها.. أضطر إلى سؤال زميله:
… دكتور حسن.. قبل ليلتين فوجئت بامرأة متميزة الملامح تتحرك تحت نافذتي..
ظهر على زميله خوف حاول مداراته بضحكة مفتعلة:
… هل جاءتك أنت أيضاً!.. جاءتني أنا الشتاء الماضي، فهربت إلى غرفة بعيدة..
… دكتور!.. لم أفهم.. عمَّ تتحدث بالله عليك؟..
… إنها تبحث عن العزّاب من أمثالك.. أمّا أنا ولله الحمد فقد تزوجت، وخرجت من دائرتها.. جميع أهل القرية يعرفون عنها، فلا تجد في الليل شاباً يسير في أزقة القرية وحده.. إنها في الحقيقة بسم الله الرحمن الرحيم.. أغلق نافذتك جيداً، يا دكتور..
البسملة في مثل تلك الحال تعني أن من يدور حوله الحديث من الجن فأخذ الدكتور ناصر يضحك من خوف زميله:
… يبدو أن أساطير الهند قد أثرت فيك كثيراً يا زميل.. أتظن لو أنها شبح، أو من الجن كما تحاول إيهامي هل ستصدها عن دخول غرفتي نافذة، أو أي عائق.. أي خزعبلات!..
… لست وحدي من يقول ذلك..
ثم أردف حين لاحظ ابتسامته الساخرة:
… لقد حذرتك، والخيار لك..
كان قد لاحظ من أحاديث زميله وذكرياته السابقة تأثره بمثل تلك الأمور لطول المدة التي قضاها في الهند لدراسة الطب حيث تكثر هناك مثل تلك الخرافات، ورغم ذلك فقد أقلقه إلى حد ما هاجس أن تكون زائرة الليل الجميلة مجرد شبح.. أمّا الخوف فلم يكن له تأثير عليه.. إنه مؤمن بالله متوكل عليه، يؤدي جميع فروضه كما اعتاد النوم وحيداً، وفي أماكن خالية مذ كان صبياً في بيت عمته حيث تيتم صغيراً…
حاول أن يراها خلال يومين آخرين بين مرضى المركز، ورواده فلم يفلح، لقد طبعت صورتها في مخيلته، ولن يخطئها أبداً لو جاءت.. احتار ماذا يفعل، وانطلق أثناء النهار عدة مرات إلى عمق الحقول، فلم يجد لها أثراً.. لقد شغلته الجميلة الطائفة حافية بدروب القرية المرتفعة شديدة البرودة، وجعلته يتمنى ألّا تكون جنية.. أمّا الليل فقد تردد أن يدخل فيه تلك المنطقة خشية أن يصبح هدفاً غير مباشر لبعض حوادث الثأر المنتشرة بين القبائل هناك، وتجنباً أن يثير وجوده فيها أقاويل هو في غنى عنها.. ثم أدرك أن احتمال عثوره عليها في الليل أقل منه في النهار.. وبعد أن أدى صلاة فجر اليوم الخامس في مسجد القرية أبدل طريقه إلى المركز بالاتجاه شمالاً نحو التلال المطلة على الحقول من الجهة المعاكسة.. حتّى إذا صعد التل الأول كان الضوء قد شرع بالسفور، فأتاح له رؤية قمة كوت على التل الثالث، فغذ السير نحوه.. حتى إذا بلغ أسفل الكوت سمع بكاء طفل، فأخذ يدور بحذر بحثاً عنه.. كان ضوء النهار لحظتها قد صبغ قمم التلال بلون برتقالي، فشاهد شاتين رابضتين قريباً من بابه الذي بدا مهجوراً، ثم طفلاً يقارب العام، ونصف العام ملفوفاً في نفس الدثار الذي أخذته المرأة المجهولة منه منذ خمس ليال…
اتجه نحو الباب المفتوح.. لكنه ما كاد يصل إليه حتى صفق في وجهه، وسمع عقبه همهمة مستنكرة، ثم تدلت من كوة صغيرة فوق رأسه مباشرة عصا طويلة أخذت يد خفية توجهها نحوه لتمنعه من دخول الكوت، فارتد حذراً:
… جئت للمساعدة فقط.. لن أؤذيك..
عادت الهمهمة حادة محتجة، ثم انفجر صوت امرأة باكياً، فتقهقر عائداً حتى بلغ المركز قبل بداية الدوام بنصف ساعة.. لكنه كان سعيداً أن تأكد بأن زائرة الليل لم تكن شبحاً.. لقد لمح يداً آدمية بيضاء رقيقة بها زغب أحمر جميل رغم قلة النظافة، والعناية.. ترى من تكون هذه المرأة الجميلة التي ترعب قرية كاملة، وتجعل رجالها يختبئون خلف أبوابهم ليلاً؟.. أهي شبح كما حاول زميله أن يقنعه؟.. ذلك هراء.. هل للشبح طفل، وشياه؟.. هل يحتاج الشبح ثوباً يصد عنه برد الشتاء؟.. وهل للشبح عيون جميلة يخضّبها الخوف، وأسنان تصطك برداً؟.. لا بد أن لتلك الحسناء حكاية مختلفة عما قاله زميله، ولا شك أن أحداً هنا يعرف هذه الحكاية.. فمن هو؟!
… يا خالة شيخة.. أتعلمين شيئاً عن امرأة تسير ليلاً في أزقة القرية؟..
نظرت رئيسة خدم المركز نحوه بعينين كابيتين، ثم هزت رأسها نفياً دون أن تنطق.. بدت له رغم صمتها بأن لديها حكاية أخرى، لكنها لا تريد أن تخبره بها.. فاتجه إلى واحد ثالث.. إلى موظف شاب يدير قسم الأرشيف:
.. سعيد.. رأيت قبل عدة ليال امرأة تسير ليلاً قريباً من نافذتي.. أسمعت عنها شيئاً؟..
ارتبك الشاب رغم أن الدكتور ناصر يعتبره شاباً واعياً، ويفضله على أغلب موظفي المركز
… أنا شخصياً لم ألتق بها، يا دكتور.. لكنهم يقولون إنها ليست من جنسنا..
… أنت أيضاً، يا سعيد تحاول أن تقنعني بأنها جنية!..
ثم ضحك، وترك الشاب كما ترك سواه دون أن يخبر أحداً عن رحلته إلى الكوت.. فضل أن يبقي ذلك السر لنفسه، وظل كلما سنحت له فرصة يسلك دروباً بعيدة عن عيون المزارعين، ثم يجلس على آخر تل مواجه لتلها متخفياً عن عينيها بصخرة كبيرة.. لم يحاول قط أن يذهب إليها، أو أن يقترب حتى لا يثير
خـوفـهـا منـه.. وبعد ساعتين من أدائه صلاة العشاء في الليلة العاشرة سمع نقراً قلقاً على خشب نافذته، ولم يكن معتاداً أن يأتيه أحد من تلك النافذة.. لذا تذكرها مباشرة، وتوقع أن تكون هي، ففتح النافذة بثقة أكبر بعد أن أزال ذهابه إليها الكثير من الغموض في شخصها …
وجدها أمامه مباشرةً في عينيها دموع غزيرة، وعلى الشفتين رجفة قلق أليمة، وقد مدت نحوه بطفلها الغائب عن الوعي، فشعر بهلع عليهما معاً، وباشر بتناول الصغير من بين يديها دون أن يقول كلاهما شيئاً، وبعد أن وضعه على السرير مد يديه نحوها، فتلفتت عدة مرات، ثم أسلمتهما إليه.. وبعد أن غدت في جوف الغرفة عاد فحمل الطفل، وأسرع به نحو غرفة المعالجة، وهي في إثره صامتة، لكنها كفت عن البكاء:
… ممّ يشكو؟.. ما الذي حدث؟..
ظلت بعض الدموع عالقة بأهدابها الطويلة شديدة السواد، وبعض منها استقر على الوجنتين المكتنزتين الموشاتين بحمرة كالشفق، وأخذت تشير نحو بطن الطفل دون أن تنطق كلمة.. لم يتنبه حتى حينها لعدم حديثها.. كان حينها منشغلاً بالطفل، ومحتاجاً إلى الوقت، فباشر بحقنه بمنوم خوفاً أن يصل صراخه
إلى الحارس، وزوجته…
كانت هي قد توثبت على الأرض واضعة وجهها بين كفيها، وأخذت ترقبه بابتسامة شكر جميلة أذهلته، فلما التفت نحوها هربت بعينيها بعيداً بصورة خجلة:
… سينام الآن.. لا تقلقي، إنه بخير.. اجلسي على هذا الكرسي..
ثم اتجه إلى المطبخ، وعاد بعد دقائق بكوبين من الشاي ليجدها تحضن صغيرها، وتقبله:
… هاك هذا الشاي.. سيدفئك..
تناولت منه الكوب شاكرة بهزة من رأسها، فأشار نحو الطفل:
… دفئيه جيداً.. الصغير مصاب بمغص كلوي جراء البـرد.. فهمت؟ ..
هزت رأسها دون أن تقول شيئاً، وحينها تنبه إلى أنه لم يسمعها تقول شيئاً منذ أن رآها:
… ما بالك لا تتكلمين؟.. هل أنت خرساء؟..
هزت رأسها إيجاباً، وعادت إلى عينيها الدموع، فلوى وجهه نحو الطفل حتى لا ترى مدى الحزن الذي كساه:
… حسناً.. اهدئي.. لا تبكين.. أرجوك لا تبكين..
ثم غادرها لبعض الوقت، وعاد بمجموعة من ثيابه، وأحد
أحذيته، وجوربين صوفيين:
أنظري.. أريدك أن ترتدي هذه الثياب حتى أحضر لك ثياباً نسائية.. موافقة؟..
هزت رأسها باسمة:
… لا تأتي أنت إلى هنا.. سأحضرها أنا إليك هناك.. هل آتي، أم ستضربينني كما فعلت في المرة السابقة؟..
منحته ابتسامة جميلة جعلت قلبه يثب من مكانه، وجعلته يتأكد بأنه قد أحب تلك المرأة، وأنه لن يكف عن ذلك الحب مهما كانت نتائجه…
حين رأت عمته الثياب النسائية، وثياب الطفل التي ابتاعها لحافية الشتاء، وابنها، لجأ إلى الادعاء بأن زميلاً له في المركز قد كلفه شراءها، ولما عاد إلى المركز أخفى مشترياته عن العيون.. وبعيد صلاة الفجر من اليوم التالي انطلق شبه مهرول إلى الكوت، لكنه وجده خالياً من كل أثر، ووجد الأرض جدباء لا علامات تدل على أن حياً كان بها.. لم تكن هناك سوى شجيرات برية متفرقة تعاني الموات من أثر الصقيع:
… لا بد أنها انتقلت إلى خلف التل..
قال لنفسه، وانطلق منحدراً في الاتجاه المعاكس للقرية، وقال ذلك أيضاً حين لم يجدها خلفه ثم خلف الذي يليه.. وخلف الذي يليه.. وفي اليوم الثالث أفاق ليجد نفسه ممدداً على أحد أسرة العناية المركزة بمركز الجبل الطبي، ثم سمع وهو بين النوم واليقظة إحدى ممرضات المركز تهمس لزميله العائد من إجازته
السنوية:
… لحسن الحظ أن لمحه أحد المزارعين متجهاً إلى تلك التلال بعيد صلاة الفجر.. ثم وجدناه مشرفاً على الموت بعد أن اشتدت عليه حرارة الشمس على بعد عشرة كيلومترات…
العين
20/10/1995
حافيةٌ في الشتاء
علي أحمد الحميري.. من المجموعة القصصية (شيء من هذا القبيل)