سعاد العريمي

بئر ناصر

ما أن غادرت المكان حتى ترصعت السماء بنجوم الوداع، وتناثرت الأمكنة في دمي وتلاشت الدروب. من الذي يتوهم السحاب.. ومن الذي سيصد الرياح التي تزمجر على دار سعد؟

قالت أروى: الأفق مليء بما ينذر بالجائحة.. استدار منصور، وقال سنتوسد الكفن.

كانت الستارة تتحرك، والنافذة مغلقة.. وعندما انفتح الأفق كان ذلك هو زمن الموت. أربعة جدران تشبه المغارة، والفضاءات مفتوحة مباحة لا تحمل سراً.. وقالت أروى: بل هي مستباحة والستر قد هتك.

عندما غادرت المكان، كان منصور يرافقني، لم أكن وحدي.. يحاذيني كتفاً بكتف ويداً بيد.

لقد جفت مياه بئر ناصر.. أهذه آخر الأخبار؟

عندما طرقوا النافذة كنت أغط في النوم أو هكذا شبه لي.. طرق النوافذ لا يوقظ النيام قالت أروى.

في ساحل أبين كانت المراكب تحمل الفارين وتجلب المياه المعقمة كانت أروى تجمع الشظايا.. أنظر هذه التي فتقت عيون المياه.. تمددت على سطح السفينة، وقلت لصاحبي إنني ساير إلى الموت.

كانت المدينة تنطلق عبر التقاطع والجسر، ورسمت له خارطة عبر الهاتف وأتى.. في المرة السابقة قلت له: أبعد عن المدينة ساعة وربع الساعة، وأتى بعد ذلك بكثير.. هذه المرة لن يجدني ولن يجد المدينة.

قلت لأروى نسيت كيف أبصر، وكيف أمعن النظر.. أهذه أرجل التي تتدافع عبر ثقوب الماء؟

كنت كمن أوصدت دونه جميع الأبواب، وفتحت له طاقة للنجاة.

عبر الأودية السحيقة والموغلة في القدم، كانت سيارة الجيب تهيم بنا.. وأنت تشعر بقمة رأسك تطرق سقفها وتقول لك أروى: كأنك تطرق سقف قبرك.

قلت لهم أنفاسي.. أكاد أختنق فكوا الرباط.. قال منصور: الدار أمان والتفتت أروى ساخرة: مازلت تستخدم هذه الكلمة.. أحقاً نحن في أمان!

قلت لهم إن ضاقت علي السبل سأنحشر في رحم الأرض، ولن أكون أبداً (وليمة لأعشاب البحر)*

قال منصور: هل سنبحر إلى البر المقابل أم سنحاذي الساحل؟

جفلت أروى ولم تقل شيئاً.

في ذلك الشتاء عندما حاصروا صديقي بالسؤال.. كنت وحيداً لا أستطيع الكلام لا أستطيع التنفس.. وكانت السماء مدلهمة، والنجوم تنذر بالوداع.. قالوا له: كيف مات؟ قال لهم لا أدري.. مات لوحده دون أن يخبر أحداً.. دون أن يقول إنه ساير إلى الموت.. قالوا هل هو مات قال لا أدري قالوا كيف عرفته…! قال…! قال.. هكذا وجدت نفسي.. ووجدته صديقي.. كان صديقي يغص يختنق وتتناثر الكلمات.. وتختنق الحكاية.

كان صوته مهزوماً وهو يطرق نافذتي، ويدعوني للنهوض.

كنا ثلاثة نسير بالاتجاه الموازي لفوهة البندقية.. وكان سعود يتوسطنا، وكان نحيل البنية وذا قامة مديدة.. ولم يعلم هو أن البندقية مصوبة باتجاه الرأس.. كان يقول لزميله خفض التصويب، ثم اجعل الماسورة بشكل أفقي.. اضغط.

جفلت لأول وهلة ثم أخذت التقط الرصاص الحارن على الأرض. كانت الطلقة أشبه بقذيفة اخترقت الرأس ثم ارتطمت بالحائط، وأخذت تنزلق ببطء وخيط من الدم يتبعها وعندما لمستها كانت باردة.

سرنا أنا وصديقي ولم يكن سعود يسير بيننا.. هذه المرة حملناه، وكانت الكلمات تنفر من فمه بشكل مرتب.. أيقول شعراً؟! قال صديقي إنها سكرات الموت.. كنا نحمله والدماء ساخنه.. وأنا على المقعد الخلفي، وهو كان واقفاً والطلقة معدة.. وهو على علم بها.. قال صديقي موته كان معداً ومرتباً.

لم نتناول الطعام في تلك الليلة قال (…) سوف ننظم إضراباً.. سكتنا وتكلم هو.. وكانت العيون مصوبة نحوه.. قلت له لا أريد الموت بالبندقية.. ضحك سعود وقال: تعددت الأسباب… أليس كذلك؟! وضعنا جسده على الأرض فترة طويلة حتى جفت الدماء.. وكان الثقب في رأسه يتسع.. لم يكن بحجم الفوهة.

أتى الحارس وقلبه على وجهه، ورأينا تلك الفتحة الكبيرة في منتصف الرأس.. رأيناها بعد أن صوب مصباحه اليدوي على رأسه.. رأس سعود الذي بدا منتفخاً.

حشرجة الليل تسري عبر مسام الجلد.. والمدينة متحفزة مستيقظة.. والمياه تندلق بعيداً عن أفواه العطاش، لم نستطع النوم في تلك الليلة.. قال صديقي:

۲۱

كيف نمضي الليل مع جثة في الصباح حملناه إلى ساحة الطابور.. حملنا سعود وأوقفناه على الحائط.. ضحك الحارس وقال: لن يستطيع الوقوف.. إنه جثة. حملناه ملفوفاً، وكنت أسمعه يتكلم، ونحن نقيم الصلاة كشفت عن وجهه رأيته يضحك.. قال الحارس: هيا ادفنوه. قال (….) لا ضعوه في الثلاجة وسلموه لأهله.. وعملنا إضراباً عند رفض الطلب.

قلت لمنصور هل تذكر؟.. وهل أستطيع النسيان. أروى تغالب دموعها، ثم قالت: كأننا نغادر للأبد، وهل لديك أمل؟ وهل تريدني أن أقطعه؟!

سرحت عيوننا في الظلام الدامس، ورائحة الرطوبة تنفر من أجسادنا، وشهوة الماء تركناها هناك ونحن نعبر أسيجة الحصار.

في قاع المركب أفرغنا ما في رؤوسنا، ولم نتبادل الحديث.. فقط أروى كانت تجهش بالحسرة وهي تتمتم وداعاً عدن.

  • إضاءة

وليمة لأعشاب البحر.. رواية حيدر حيدر 140/10/94م.

بئر ناصر

سعاد العريمي من المجموعة القصصية (حقل غمران)