فجأة تألقت في عينيه اليانعتين نجوم، وللحظات ران عليه الحزن وهو ينظر إلى صديقه الذي راح يلعب في ظلال “الصندقة”([1]) ، رأى فيه طيفاً يوشك على التلاشي. هذه النجوم التي سهرت في عينيه منذ ولادته، كيف تألقت في هذه اللحظة؟ … أرجلهما ملطخة بالوحل والغبار، وأوحال الحزن انداحت في قلبيهما منذ ولادتهما.. يا لهذه الحياة!
اتجه إلى صديقه وقال له :
– دعنا نذهب إلى “الصنية”([2]) نبحث عن مجلات، أو لعب مرمية.. ودون أن يجيب صديقه مشى معه ساحباً خلفه سيارته الصفيح..
– قال لي أبي إنه سوف يشتري لي “هافاً” ([3])جديداً.
هو يقول لك ذلك من زمان..
ونظر إلى صديقه، فحسده على “هافه” المرقع، وخرجا من الحارة في اتجاه الكنز الواقع هناك، تحت عمارة شاهقة حديثة، وبدت الحارة خلفهما مجموعة متناثرة من “الصناديق” تغرق في الغروب الزاحف .. عود ثقاب واحد يفنيها ولا يبقي لها أثراً تحت الشمس..
– دعنا نسرع قبل أن يحل الظلام.
واستحثّا.. ولما عادت النجوم تلمع في عينيه قال :
– ألا ترى تلك العمارة.. انظر إليها كيف تشع أضواؤها في المغرب.
– يقول أبي إنهم بنوها من الحديد..
– وهل صدقت ذلك؟
– ويقول إن بإمكان “الطيارة” أن تحط فوقها.
– أبوك مجنون.
– لا تقل ذلك عن أبي.. هو سمع ذلك أيضاً فأخبرني به.
– وماذا قال لك أيضاً؟
قال إن الناس يسكنون فيها.
– أحقاً؟
– نعم.
وساد صمت قطعه الآخر :
– وهل نسكن نحن فيها ؟
– لا تكن أحمق، نحن لا نستطيع ذلك.
– لماذا ؟
– سوف نسقط من فوق.
وكانا قد شارفا حدود الكنز “الصنية”.
– البارحة قبل أن أنام سمعت أمي تتأوه بصوت خفيض، وتطلب من أبي أن يحضر لها تفاحاً، فصرخ فيها أبي أن تتركه وحده، وقال يكفيه ما به من قهر.. أتعرف ما هو القهر؟
– لماذا لم تسأله.. أظن أنه مرض يعاني منه أبوك..
– ها هي “الصنية”.. ابحث أنت في هذا الجانب وسأتولى الجانب الآخر..
وراحا كشبحين يبعثران الأشياء غير عابئين بالروائح النتنة، وظلال الغروب بدأت تغمر المكان بينما في الجانب الثاني من العمارة تلمع الأضواء التي بدأت تتدفق من النوافذ العالية…
وفجأة صاح أحدهما :
– وجدت صندوقاً جميلاً.. انظر!
– إنه بديع.. لماذا تريده؟
– سأضع فيه القواقع البحرية التي جمعناها أمس..
وعادا ينقبان .. في صمت.. ثم صاح أحدهما :
– انظر !
– يا إلهي .. هذا “هاف” جميل..
لكن الآخر سرعان ما رماه متأففاً .. فقفز إليه زميله.
– دعها .. إنها ملوثة .. ألا تشم الرائحة؟
– لن أدعها .. سأغسلها بماء البحر، ولن أعتمد على أبي حتى يحضر لي “هافاً” .. هيا نرجع.
– دعنا نبحث عن أشياء أخرى..
– كفى .. الظلام يتكاثف.
وسارا صوب البيوت متجاورين، وفجأة اعترض طريقهما ولد بائن البدانة.
– أعطني هذا الصندوق.
– إنه لي .. وجدته هناك.
لكن البدين بادر الصبي بصفعة وخطف الصندوق وجرى صوب العمارة.. ترقرقت دمعات في عيني الصبي.. بينما أطبق الآخر بيديه على “الهاف” ..
وتابعا كـ”عصاتين” تنغرسان في أحشاء الظلمة، وقبل أن ينفصلا كل إلى أهله قال أحدهما :
– لا تنس أن تسأل أباك عن معنى القهر..
وكانت النجوم قد بدأت تبرق في السماء وهما يفترقان …
[1]) “الصندقة” : الغرفة الخشبية (المأوى الخشبي).
[2]) “الصنية” : مكان القمامة.
[3]) “الهاف” : سروال قصير : (الشورت).
منشور ضوئي