«أبو أماني».. في الخامسة والثلاثين من العمر، متوسط القامة.. بض ممتلئ شاحب الوجه.. يعمل موظفاً بإحدى الدوائر المحلية ويقيم مع والدته وإخوته في منزل قديم «شعبي» في أحد الأحياء السكنية القديمة.. لم يتزوج.. ويخاف الزواج، ويعيش حياة مضطربة غريبة.. أما النساء فلا يشغل باله بهن.. برغم أنه يتظاهر أمام أصدقائه الذين يترددون على منزله كل ليلة.. بأنه يعرف النساء.. مع أنه لم يعرف في حياته إلا امرأة واحدة هي الساكنة بمحاذاته، والتي تقيم مع زوجها في إحدى الإمارات الأخرى. وتعود ما بين آن وآخر إلى منزلها القديم. وأثناء مجيئها، يلتقيها بعض المرات.. ويقول أصدقاؤه أنه لو كان يعرف النساء – كما يزعم – لأقدم على الزواج أو لشغلت المرأة جانباً من حياته كما يشغله تعاطي الكحوليات وتدخين التبغ «السجاير» الذي يواظب عليه كل ليلة!!
كان ضعيف الشخصية، لا رأي له، يتبع أي رأي يبديه أحد أصدقائه، وكان يحب القراءة ويحرص على اقتناء الكتب، ويرص هذه الكتب في صفوف تغطيها الأتربة في حجرة نومه وفي غرفة الجلوس.. ويتظاهر أمام أصدقائه بأنه رجل مثقف.. لكنهم يقولون من وراء ظهره انه لا يقرأ سطراً واحداً من هذه الكتب، لكنه يقتنيها حباً في المظاهر، وكل ما يقرؤه هو روايات «أرسين لوبين، وأجاثا كرستي، وهيتشكوك، وبعض مجلات الأطفال «سوبرمان» و«تان تان» وغيرها..».. وهو يلتقي أصدقاءه في حجرة الجلوس التي تضم مكتبة ومقعداً وصفوف الكتب الفائضة من المكتبة الصغيرة تغطيها الأتربة!!
كان يسهر كل ليلة حتى الفجر.. ويذهب إلى عمله شاحباً، محطماً، فلا يكاد يدخل إلى مكتبه ويقضي به ساعة حتى يغادره عائداً إلى منزله لينام حتى المساء.. ولأنه يعمل بالدائرة منذ سنوات طويلة ولأنه من مواطني هذه البلدة، فلم يستطيعوا فصله، لكنهم بعد أن ضاقوا من كثرة غيابه وإهماله، نقلوه من عمله الأصلي، وركنوه في قسم لا شأن له به يحضر متى يشاء وينصرف متى يشاء!!
… كثيراً ما كان يزعم لأصدقائه، رواد منزله الدائمين بأنه يأخذ مكافآت تشجيعية لكفاءته في عمله.. ويستعرض أمامهم ما يحمل من أوراق مالية وهذا المال يجيء له من ميراث والده أو من السيدة جارته التي تعطيه كلما حضرت في إجازتها المعتادة، كما أنها لا تضن عليه بشيء، فهي تقدم له المال والهدايا التي تجيء بها معها، لأنه كان يعطف عليها أيام الفقر..
… أصدقاؤه يعرفون أنه يكذب.. وأنه لا يذهب إلى عمله في الدائرة، ولا يمنح أي مكافآت ويقضي أياماً نائماً ولكنهم يسمعون له في صمت كأنهم يصدقونه حتى إذا انصرفوا من عنده قالوا رأيهم فيه بصراحة مريرة.. هؤلاء الأصدقاء ألوان شتى، عمال، وموظفون، وأفـاقـون.. لا عمل لهم ولا مسكن يقضون لياليهم معه يدخنون السجاير، ويحتسون أقداح الويسكي ويثرثرون في موضوعات تافهة حتى يمضي الليل، ومنهم شيوخ يدَّعون التصوف، ويقضون حياتهم متنقلين بين المساجد وهؤلاء الشيوخ كأمثال «أبي أماني» في أفعالهم، ويقولون أنه ليس حراماً!!.
يقول «أبو أماني» لكل من يعرفه أنه هو الذي ينفق على أصدقائه، فهم يأكلون ويشربون ويدخنون السجاير على نفقته، وهم يقولون إن كل واحد ينفق على نفسه لكنهم لا يجدون مكاناً سوى بيته يجمعهم بعيداً عن العيون.. ولكن «أبا أماني» يعشق المظاهر، ويحب أن يبدو دائماً في مظهر السيد صاحب المال وصاحب الفضل على كل من يعرف.. و«أبو أماني» ليس عنده شيء غال عندما يحتاج إلى بعض النقود.. فهو يبيع بعض ما يملك من أشياء بأبخس الأثمان.. وحجرته تتغير كل شهر.. تظهر أشياء وتختفي أشياء.. يختفي الكثير.. ويظهر جهاز تسجيل ثم يختفي جهاز التسجيل، ويظهر تلفزيون وراديو وجهاز تسجيل يضم معاً جهازاً واحداً ويلتفت حوله أصدقاؤه المساطيل، يتأملون الجهاز في إعجاب وانبهار، وهم يكبرون ويهللون بينما يتيه هو إعجاباً وزهواً بنفسه.. وأحياناً تمتد سهراتهم حتى الصباح ثم يتفرقون منهم من يذهب إلى بيته أو إلى الأرصفة لينام.. ومنهم من يمضي إلى عمله ليقضي هناك ساعة ثم يعود إلى بيته.. ويأوي «أبو أماني» إلى فراشه محطماً لينام طوال النهار استعداداً لقضاء ليلة جديدة حافلة!!.
ومن أحب أصدقائه إلى نفسه «حاجي علي» وهو رجل في نحو الخامسة والخمسين من العمر يرتدي «دشداشة» رثة، وعمامة.. ويبدو كالهائم على وجهه يتظاهر بالعبط مع أنه يبدو أحياناً خبيثاً داهية.. ويزعم «أبو أماني» أن «الحاجي علي».. كان محامياً مشهوراً له بيت وزوجة وأولاد، ولكنه تصوف وهام في حب الله، فهو يقضي أيامه متنقلاً بين مساجد أهل الذكر، فهو تارة في مسجد «البطح»، وتارة في المسجد الكبير بالسوق، فهو دائم التنقل بين جميع الأحياء والقرى ليحضر خطب الأئمة والعارفين بالله.. كما يزعم أيضاً أن للحاجي علي معجزات رآها بنفسه فهو يمد يده في جيب دشداشته المخروق ويخرج أوراقاً مالية يعطيها لمن يكون في حاجة إليها دون أن يطلب منه ذلك.. وذات يوم جاء من بلد بعيد ودخل إلى حجرة «أبو أماني» وقال له أنه جاء خصيصاً من أجله، وكان «أبو أماني» جالساً على المقعد، والحاجي علي جالساً على طرف الفراش فقال الحاجي لأبي أماني:
- تعال يا «أبا أماني».. إني أريدك!!
ترك أبو أماني المقعد وجلس بجوار حاجي علي فوق الفراش.. وما كاد يجلس حتى سقطت من السقف كتلة من الأحجار في المكان الذي كان يجلس فيه من قبل، وكانت هذه الأحجار الضخمة كفيلة بأن تقتله فوراً لو سقطت على رأسه.. فنظر أبو أماني إلى الأحجار الضخمة مذعوراً غير مصدق ما حدث ثم انتبه على صوت الحاجي وهو يقول له:
… دعني الآن أنصرف.. فإن هناك مشاغل تنتظرني.. لقد أديت ما عليَّ، فإلى لقاء قريب.. وتناول أبو أماني يد الحاجي وأخذ يقبلها ويقول له:
… بارك الله فيك، وأطال في عمرك، لقد أنقذتني من موت محقق.. هذه الواقعة رواها أبو أماني لأصدقائه، ولكل من يعرفه، وكان مكان الأحجار الساقطة يبدو واضحاً في السقف فوق المقعد تماماً!!
من هذا اليوم زاد اعتزاز «أبي أماني» بالحاجي علي..
ووصل إلى حد التقديس فهو يحمل له كل الإجلال، فما أن يحضر لزيارته حتى يعد له أفخر الأطعمة.. فيذبح له الدجاج البلدي، ويدس في جيبه الأوراق المالية وهو منصرف.. ويروي أبو أماني معجزة أخرى من معجزات الحاجي علي.. ففي مسجد «البطح» توجه ومعه الحاجي وبعض الأصدقاء إلى موقف السيارات المتجهة إلى «دبي».. وكان الموقف مزدحماً، فلما جاءت إحدى السيارات ركبوا كلهم وتأخر الحاجي عنهم.. فلما حاول أحدهم أن يترك مكانه للحاجي أمره أن يركب وأن يمضوا فلا شأن لهم به ولم يستطع أحدهم أن يعصي له أمراً، وطارت بهم السيارة إلى دبي.. وهناك أمام باب مسجد في أحد الأحياء السكنية.. وجدوا الحاجي علي واقفاً ينتظرهم.. فما أن رأوه حتى هللوا وكبروا وهم غير مصدقين عيونهم وسأل أحدهم زميله في عجب:
… كيف سبقنا الحاجي وقد تركناه واقفاً في موقف السيارات برأس الخيمة؟!
فأجابه زميله مكبراً:
… الحاجي من أهل الخطوة.. بخطوة واحدة كان هنا في دبي.. إنه قطب كبير!!
… ذات مساء أقبل الحاجي علي لزيارة «أبي أماني» وما كاد يجلس حتى قال له:
… يا سيد أبو أماني.. أنا حضرت من «البحرين» خصيصاً من أجلك..
… فاهتز أبو أماني من النشوة وقال:
… هذا شرف كبير لي يا مولانا الشيخ.. أتحضر خصيصاً من أجلي في هذه الساعة من ذلك البلد البعيد.. فقال الحاجي علي وهو يتناول يدي «أبي أماني» ويربت عليهما:
.. اسمع يا «أبا أماني».. أنا جئت من أجل سبب هام يخصك.. لقد رأتك فتاة لا تعرفها ولا تعرفك في الرؤيا.. بشكلك واسمك، وجاءت تسرد عليَّ رؤيتها لأفسرها لها.. فلم أدهش فهذا غيب لا نعرفه!!
فزاد انتباه «أبي أماني» بحديث الحاجي وقال له:
… تكلم يا مولانا الشيخ، لقد زدتني شوقاً إلى حديثك فما هو الأمر؟!
… فقال الحاجي علي:
… قالت لي الفتاة أنها رأت في المنام شاباً يرتدي دشداشة بيضاء، ووصفت لي الشاب.. فإذا هو أنت.. وقال لها الشاب أنا اسمي أبو أماني وقد جئت لأخطبك من أهلك.. هكذا كتب في لوح القدر.. دهش أبو أماني أشد الدهشة وقال كالمذهول:
… ما أعجب ما تقول يا مولانا!!.. فقال الشيخ:
… اسمع يا «أبا أماني».. هذه هي الزوجة التي كتبت لك في الغيب.. ومعها السعادة فلا تتردد وقم بنا إليها!!
… فقال أبو أماني في دهشة تزداد:
… الآن يا مولانا، في هذا الليل؟!.. الآن لا تأخير ولا لحظة. من يعرف ماذا يحدث غداً.. لقد قال لها الشاب الذي رأته في الحلم، أنا اسمي «أبو أماني محمد».. اسمك الكامل أتريد برهاناً أكثر من ذلك على أن السعادة تنتظرك مع هذه الفتاة؟!..
… وفي دقائق ارتدى أبو أماني «دشداشته» وخرج مع الشيخ إلى المطار ثم إلى البحرين. وكان وصولهما الساعة السابعة والنصف صباحاً، استقلا سيارة أجرة.. اقتربت السيارة من قرية صغيرة لا تكاد تظهر مبانيها الحديثة حينما أمر الشيخ علي سائق السيارة بالوقوف.. نزلا وأبو أماني يسأل نفسه:
… كيف عرف الحاجي القرية وعلى الطريق عشرات القرى؟! وفجأة سمعا نباحاً.. وأحاطت بهما الكلاب.. كادت تمزقهما ولكنه قال للكلاب في هدوء:
… انصرفوا كل إلى بيته.. انصرفوا!
… كفت الكلاب عن النباح.. ووقفت ساكنة، ولم يصدق أبو أماني الذي كان يرتجف من الخوف.. عينيه وهو يرى الكلاب تنصرف هادئة، ثم تختفي بين الأشجار.. ودخلا بيتاً من بيوت القرية.. وقوبلا بكل ترحاب.. وانحنى صاحب البيت وقبل يد الحاجي وأطال التقبيل.. هذا الرجل والد الفتاة.. وفي لحظات
أعد الطعام وقدم إلى الضيفين..
قال الحاجي علي للرجل:
… هذا هو السيد أبو أماني.. موظف كبير.. وقد جئت به عريساً لابنتكم «سعيدة»:
… قال الرجل في خضوع:
… وهل أستطيع أن أرد لك طلباً يا مولانا الشيخ؟!.. إن أمرك مطاع.. ودخلت الفتاة فسلمت وخرجت.. وكانت آية من آيات الجمال الريفي الجذاب.. وقرئت الفاتحة ونام أبو أماني ظهريته وهو من أسعد خلق الله.. وفي اليوم التالي عقد القرآن وعادت الفتاة مع «أبي أماني» زوجة له، وصحبهما الشيخ علي وأعدت حجرة الجلوس له ووضع له سرير ووسادة وسجادة الصلاة.. وانفرد الرجل بنفسه.. وعندما دخل أبو أماني على عروسه في الليل.. لم يجدها عذراء فلم ينم الليل، وظل جالساً على المقعد مطرقاً يدخن، وظلت الفتاة تبكي، وهي صامتة لا تنبس بكلمة.. وفي الصباح دخل أبو أماني على الشيخ شاحباً مرتجفاً، وصارحه بما حدث.. فأطرق الشيخ ملياً، وساد صمت عميق، ثم رفع الرجل رأسه وقال في هدوء:
… لا تعترض يا «أبا أماني»، هذا قدرك.. فاقنع به واصفح.. ولم يستطع أبو أماني أن يرد، ولاذ بالصمت وأطرق يفكر، واستمع إلى نصيحة شيخه.. فغفر وصفح وأخفى السر في بئر عميقة!!
ومضت الحياة وعاش أبو أماني في حياة زوجية سعيدة لكنه لم يتخل عن أصدقائه وعن السهرات معهم كل ليلة، وكان الشيخ علي يزوره كعادته بين الحين والآخر، فيقابل بكل ترحاب وإجلال.. وكانت الزوجة تقبل يده، وتسأله أن يدعو لها بالتوفيق ولزوجها بالهداية والتقوى، ومر عامان، ولم ينجب أبو أماني طفلاً، وذات يوم صارح شيخه بالأمر.. قال له:
.. يا مولانا.. مر عامان، ولم أرزق بطفل.. وأنا أحب الأطفال جداً، وأتمنى أن يكون لي طفل يملأ عليَّ حياتي.. أين دعواتك وكراماتك يا مولانا؟! فأطرق الشيخ مفكراً ثم قال:
… سأذهب إلى السوق لأشتري بعض البخور.. ثم أعود، وعاد الشيخ في الليل وطلب من «أبي أماني» أن يعد له مجمرة «كوار»… وأطلق البخور في حجرة النوم.. وجاءت الزوجة فجلست أمامه وطلب من «أبي أماني» أن يتركهما وحدهما.. وألا يضيء نوراً في البيت حتى يبخر زوجته ويقرأ على رأسها بعض التعاويذ المباركة.
تسلل دخان البخور من تحت باب الحجرة.. فملأ المنزل برائحته العطرة.. وعندما نادى الحاجي علي «أبا أماني» الذي كان قابعاً إلى جانب النافذة في حجرة الجلوس يتطلع إلى الشارع قال له وهو يربت على كتفه:
… كل شيء بأوان يا «أبا أماني».. فلا تتعجل شيئاً..
وعاش أبو أماني طوال حياته دون أطفال، فقد عرف أخيراً أنه ضحية خدعة دنيئة!!
الطيورُ على أشكالِها تَقَعُ
جمعة الفيروز.. من المجموعة القصصية (علياء وهموم سالم البحار)…