إبراهيم-مبارك

رتبة

عيد أكبر الطلاب في الصف الأول المتوسط، لذلك جعله مدرس الفصل رائداً لفصله.. الجميع يخاف منه فهو قوي البنية وقوي الصوت.. حيث إن صرخة منه في وجه الصغار تجعل الجميع يستقرون في مقاعدهم.. عيد يساعد الإدارة المدرسية في ملاحقة الطلاب الهاربين.. يجري خلفهم حتى منازلهم القريبة من المدرسة فكم من مرة أحضر حمدون من وسط منزله، لأنه كثير الغياب وقد اشتكته أمه.. عيد هو الذي قام بدهان جميع اللوحات المدرسية التي غيّرت لونها الشمس.. وهو أحسن لاعب سلة وأحسن لاعب كرة يد.. حيث إن كبر سنه يجعله يتفوق في معظم الألعاب المدرسية والمسابقات.. في مسابقة الكراسي الموسيقية لا يتحداه أحد. من المواد التي يحبها التربية الفنية، فهو ليس رساماً ماهراً، ولكنه أحسن من يجيد الدهان.. بارع جداً في النجارة.. والتربية الرياضية.. حيث يقضي أكبر وقته إما في ساحة المدرسة أو في المرسم.. نصحه مدرس فصله بأن يحضر المواد الأخرى، ولكنه كان يأتي بآلاف الحجج.. مدرس الفنية هو الذي لم يسمح لي بالحضور مدرس التربية الرياضية كلفني بتخطيط الملاعب. وكيل المدرسة طلب مني أن أتعقب الطلبة الهاربين..

ناظر المدرسة طلب مني أن أحضر حمدون من منزله.. الأخصائي الاجتماعي طلب مني تتبع الطلبة المدخنين خلف سور المدرسة.. سيارة مدرس العلوم غاصت في الرمل وذهبت لمساعدته في إخراجها.. مصلح أنابيب المياه بالمدرسة طلب مني أن أساعده في رفع الأنابيب فوق سطح المدرسة.. أعذار لا تنتهي وجميع المدرسين يحذرونه إلا أنه لا يبالي.. عيد يحس بحرج شديد عندما يخرج مع المجموعة الصغيرة التي لم تحل الواجب أو التي لا تجيد القراءة.. ويزداد إحراجه عندما يقوم بعض المدرسين بالتندر به.. خاصة عندما يقارن المدرسون بينه وبين أصغر طالب في الفصل والذي يقوم بواجباته على أكمل وجه.. لم يصمد عيد طويلاً..

كره المدرسة والمدرسين وكل شيء يتطلب قراءة وحفظاً وواجبات.. اشتغل مع والده صياد السمك.. وبعد فترة اشترى له والده سيارة أجرة أخذ يعمل عليها.. توثقت علاقته بالسائقين تعلم الكثير من تجاربهم.. كيف تستطيع أن تقوم بفك وتركيب أجزاء السيارة.. الزيوت التي تطول عمر المحرك.. أحسن البطاريات.. أحسن العجلات.. كهرباء السيارة.. دور المياه في تبريد المحرك.. أهمية تغيير الزيت.. السالب والموجب في بطارية السيارة.. كيف تولد الشرارة الكهربائية… أشياء كثيرة تعلمها عيد ولم يكن يعرفها من قبل.. في المدرسة أخبره مدرس العلوم أن السيارة تسير على أربع عجلات ولها مقود يمسك به سائق السيارة ليحدد مسارها ولها مقاعد لجلوس الركاب.. وعجلات السيارة مصنوعة من المطاط، والمطاط يؤخذ من الشجر.. كل هذه المعلومات كان يعرفها عن السيارة.. تعلم أيضاً أن يقضي سهراته مع أصدقائه السائقين.. كانوا يجدون لذة كبيرة في الجلوس على الكثبان الرملية الناصعة البياض.. كم هي جميلة أشعة القمر عندما تنعكس على علب البيرة وزجاجات الشراب.. شيء جميل ورائع أن تتسامر مع من تود في هذا الجو الهادئ البعيد عن ضوضاء المدينة..

تضحك.. تمزح ما وسعك ذلك، دون تدخل من الآخرين.. عيد وزملاؤه لا يشعرون براحة في «البارات» الليلية، فهي مليئة بالأغراب والدخان والعيون المتطفلة.. كل شيء هناك بحساب.. تتسامر بهمس.. تخنق ضحكتك حتى لا تزعج الآخرين.. دائماً معرّض لمشاكل المخمورين.. أما هنا فأنت على السجية.. لن تزعج أحداً.. حتى لو صرخت بأعلى صوتك.. في المناسبات السنوية يوصي عيد زملاءه بأن يذهب معهم إلى أحد الفنادق للسهرة.. فهو بعد أن سحب منه والده سيارة الأجرة، التي عرّضها للعديد من الحوادث… أصبح عاطلاً يقتله الفراغ، لذلك أخذ يعتمد كثيراً في تنقلاته على زملائه.. العديد منهم تهرب منه إلا سعيد أعز أصدقائه..

والذي أسدى إليه بنصيحة أخوية.. قال لعيد: عليك أن تجد لك عملاً.. أي عمل.. إن شاء الله صيد السمك أو فراش في إحدى الدوائر الحكومية.. رد عليه عيد بأنه لا يحب الصيد فهو يخرج مع والده منذ أن كان صغيراً، لقد كره هذه المهنة المتعبة.. أما فراش فهي للعجزة وكبار السن.. إذاً لا بد أن تلتحق بالجندية فهي في نظري تناسبك تماماً.. وافقه عيد والتحق بالجندية.. أخلص في عمله فهو لا يفارق المعسكر إطلاقاً، يجد لذة كبيرة في التدريب، دخل العديد من الدورات العسكرية، تنقل بين جميع الوحدات والمراكز. كان يستهويه أن يشرف على المجندين الجدد.

خشن، قاسي المعاملة مع الرتب الأصغر منه.. العديد من المجندين يزحفون على الأسفلت في عز الظهاري.. وذلك لأنهم لم يؤدوا له التحية كما ينبغي.. أما الفراش أبو بكر فإنه يهب مفزوعاً رافعاً كلتا يديه بالتحية عندما يدخل مكتبه.. الحياة الجديدة أعطته شعوراً غريباً، حيث إنه ينتظر دائماً من الجميع أن يهبوا واقفين عند قدومه مثل أبي بكر الفراش. الدفعة الجديدة من المجندين تحتوي على مجموعة من الشباب.. الكثير منهم من خريجي المعاهد والجامعات وعيد يحدثهم عن الحياة العسكرية.

يجب أن يكون الفرد قوي الشخصية.. أنا لا يعجبني الإنسان بدون شخصية.. لا بد أن تسيطر على أفرادك وتكون حازماً معهم وشخصيتك قوية.. حديدية.. ابتسم سالم وهو خريج علم نفس وفلسفة من التعريف السطحي لمفهوم الشخصية.. لمحه عيد. قطب جبينه ثم نظر إليه وأمره أن يتقدم خطوتين إلى الأمام عن الجنود.. أمره بملء كيس رمل فيما استمر يتحدث إلى جنوده وبعد أن انتهى سالم من تعبئة الكيس.. أخذ يطعن الكيس بحربة بندقيته حتى أحدث فيه عدة ثقوب.. ثم أمره بأن يضع الكيس فوق رأسه وأن يدور في ساحة التدريب أمام زملائه الجنود. كانت لديه عادة أخرى فهو لا يذهب إلى السوق إلا مع أصدقائه العسكريين.

نادراً ما يشاهد منفرداً.. أصحاب المحلات يقفون له جميعاً.. يحصل على خصومات لا تصدق، كل شيء يباع له بنصف الثمن بالإضافة إلى الهدايا الخاصة، عيد لا ينزع بدلته العسكرية إلا نادراً..

اجازته السنوية يقضيها خارج البلاد.. في أحد الشهور اضطر لأخذ اجازة لمدة قصيرة وأثناء الاجازة دخل إلى دكان أقمشة كان هناك أناس يشترون.. سأل البائع عن نوع من الأقمشة إلا أن البائع أشار إليه أن يصبر قليلاً دون أن يفتح فاه.. استشاط غضباً.. فهو لم يتعود أن يعامل بهذه الصورة.

مد يده إلى عنق البائع.. أنت لا تعرف من أنا.. لم يعرفه.. تدخل الزبائن.. من تكون.. أجاب عيد أنا.. أنا، نظر إلى كتفه الأيمن ثم الأيسر، لم يكن يرتدي حلته العسكرية.. انسحب من الموقف بخجل.. منذ ذلك الوقت أصبح لا يخرج إلا ببدلته العسكرية.. ويتنقل بسيارة الحكومة.

رتبة
16/3/1986

إبراهيم مبارك.. من المجموعة القصصية (رياح الشمال)