واستيقظت في الليل.. كان الوقت بعد منتصف الليل بقليل فتذكرت ما مضى وكأنني في حلم اليقظة.. بينما يداي ظلتا قابضتين على الدفتر الصغير وهو يحاول جذبه مني.. تمزقت جلدته في أيدينا، فهويت بغمّي على يده أعضها.. صرخ في ألم ولطمني على رأسي.. وقفت ألهث بوجهي الشاحب المستطيل ودفتري في يدي.. نهرني أبوه من ورائه شاتماً:
يا عضاض.. يا آكل لحوم البشر!!
هززت رأسي له متوعداً:
… سوف أحاسبك فيما بعد..
زعق أبوه في وجهي:
.. امشِ من هنا!
استدار إلى البيت بينما تحركت من مكاني «بدشداشتي» المرقعة، ونظرتي تحتوي جلدة الدفتر الممزقة في اتجاه الزقاق..
… قالت أمه التي كانت واقفة ترقب على الباب مؤنبة:
… تريد أن تأخذ ما ليس لك!!… وأبوك الآخر.. يكسر خاطر الولد؟!
… هدر قائلاً:
… لم أكمل قراءته..
… عشرة أيام والكتاب عندك.. ما ذنب صاحبه؟!!
… قولي لنفسك!!
ماذا؟!.. أعطيك النقود لتشتري كتباً؟! قل لأبيك الذي لا يعطيني فلساً واحداً للبيت إلا بعد أن ينشف ريقي!!
… مالي أنا؟!
صاح أبوه من داخل المنزل.. بينما يدق على لوح خشب الباب:
… ما هذا الزعيق يا ولد؟!
أدار ظهره غاضباً لباب البيت المفتوح، وانسل ليغيب في عتمة الفناء العميق ومن خلفه صوت أمه – احمد ربك أنك لا تجوع مثل صاحبك.. كان يحلم بالكتب الكثيرة التي أمتلكها..
غرفتي هناك ممتلئة بها مختلفة الأشكال والأحجام..
منذ ماتت أمي التي لا نراها من ساعة أن تدخل البيت في وضح النهار، إلا في الصباح الثاني.. كنت أردد دائماً!!
… كتب أمي.. كيف أفرط فيها.. أحب أن أقرأ.. أعشق القراءة.. كنا نتشاجر ونتخاصم عندما يأتي إلى البيت متحمساً ليطلب مني كتاباً، كان يراني صغيراً مثله فيتصور أنه بالإمكان أن يخدعني، لا لأعطيه ما يريد من الكتب التي تروق له وتستهويه.. كنت أقابله في الطريق وهو عائد بقطعة المخدر إلى أبيه، فأقول بوعي:
… لماذا لا تشتري بدلاً من هذا الشيء كتاباً.. لو كنت مكانك.. أصمت فجأة كنت أتذكر أمي.. كنت أحكي له:
… مرة تسللت في غيبة أمي إلى حجرة الكتب، وفتحت دولاب الحائط أقلب في الكتب التي لم أرها بعد.. أمسكت بكتاب سماوي الجلدة.. قرأت عنوانه.. بدت لي الكلمة غامضة حين جاءت أمي!!
أمي.. تخليت عن حذوي وسألتها:
… ما معنى «الأدب الصغيم»؟!!
رددت أمي الكلمة وقالت فاهمة:
… هل امتدت يدك إلى الدولاب أيضاً؟!
تناولت الكتاب ووضعت اصبعها على «الراء».. موضحة..
.. إنها مكتوبة بشكل جعلك تقرأها «ميماً».. وقرأت لي العنوان:
«الأدب الصغير.. لابن المقفع..»!!
من يومها زاد سحر الكتب عندي.
وكثيراً ما كان يحسدني يتخيل حالما، أن يمتلئ دكان أبيه بمثل ما تمتلئ به حجرة أمي!!
قال لأمه يوماً: هل سأل «علي» عني؟!
قالت: إنه لم يجيء.. وسألت
… هل تصالحتما؟!
قال: لم أره في المدرسة!!..
أتى إلى البيت، ناداني عند النافذة الذي أطل إليها منها ردت أمي تدعوه أن يدخل إلى… كانت الصالة الضيقة المستطيلة مزدحمة بالأخشاب، تكاد تنفتق بما في داخلها، متراصة لصق الجدار الذي تنشع منه الرطوبة.. كنت أجلس وسط الكنبة العارية أمام المرحاض المعتم.. وفي قدميّ النحيفتين شبشب أبي القاتم المتهتك.. وكانت رقبتي النحيلة متدلية من بين كتفي، وذقني المدببة لاصقة بعظم صدري.. قلت ذاهلاً:
… أمي باعت الكتب!!
قرقرت عربة السوزوكي على أرض الزقاق.. انتفضت وقمت أجر قدمي بالشبشب الزاحف. بمؤخرته الخالية على اسمنت الصالة.. نظرت من الباب.. والتفت في مكاني إلى الأخشاب بنظرة مذبوحة.. مرق الرجل داخلاً من جواري.. ووقف عند الأخشاب متفحصاً.. ونادى النجار.. ارتجفت ملامحي.. وحدقت في العربة الواقفة.. فجأة انقذفت خارجاً.. رفست بقدمي مخلاة العلف من أمام الماعز.. واختطفت المفتاح المعلق داخل العربة.. سقتها.. ركض صديقي وركب بجواري.. واصلت المسير!!
جرى النجار ورائي صارخاً بالشتائم.. التفت إليه بوجه مذبوح، وقذفت صدر الرجل بفردة الشبشب، ورميت الثانية من قدمي.. واستمررت في المسير.. ارتفع صوت أمي من النافذة متوسلة النجار، فتركني وظل يجري خلف السيارة، انحرفت داخلاً الحارة وتوغلت في عمقها ناحية منزل صديقي.. حمل فردتي الشبشب واتجه إلى البيت!!
… قالت أمه:
… إنه هنا!!
كان راقداً على فرشة الكنبة العالية.. يكسو العرق وجهه كطبقة من الشمع. ويده المعروقة ملاصقة لرأسه.. وكانت تنتفض بجانب الباب المسند خلفه!!
دخل أبوه متعلق النظرة بوجهي.. بينما يمسح يديه المشققتين بفوطته الداكنة على صدري في صمت وضع الشبشب تحت الكنبة ووقف يتأملني واجماً!!
واستيقظتُ في الليل ذاكِراً
جمعة الفيروز.. من المجموعة القصصية (علياء وهموم سالم البحار)