مريم الساعدي

أنا أحبّ دندي

لا أعرفهم، سائقي التاكسي. وأحياناً لا أرى وجوههم، لكن لطفهم غمرني، خاصّة أني احتجت اللجوء إليهم كثيراً. لا أعرف أيّ مكان هنا، ولا حتّى هناك في الوطن. عانيت دوماً من فقدان الحسّ بالاتجاهات. في كل دولة الإمارات لا أعرف سوى موقع بيتنا، ومن الاتجاه ذاته فقط.

قد أقضي يوماً بأكمله في محاولة العثور على مكان ما، وأكتشف في النهاية أنه كان طوال الوقت أمامي في الشارع المقابل. ما السبب يا ترى؟ صراحة لست أدري. البعض يقول إنه نوع من ضعف حاد في التركيز (والبعض يلمّح إلى خللٍ عقليّ)، لكن زميلتي الألمانية تفسره بأنه أحد أعراض العبقرية. وذكرت أمثلة كثيرة لعباقرة غيروا وجه العالم بالرغم من عوارض عجيبة ألمت بهم. بدأت أحب الألمان، وبالمناسبة فهي فتاة عميقة التفكير، وبعيدة النظر جداً. صدقوني..

***

سائقو التاكسي في دندي ليسوا مجرد سائقي تاكسي. إنهم بشر لأقصى حد. رغم أني في البداية، أعترف، كنت مرتابة من كل هذا اللطف، ففي النهاية سائق التاكسي شخص غريب من المحتمل أن يكون قاتلاً متسلسلاً (صديقة مهووسة اعتادت ملء رأسي بأخبار الجرائم، ما علمتْ منه وما لم تعلم، والإنسان يتأثر، حتى أكثر ألأشخاص عقلانية ومنطقية مثلي)، لكن التجربة كانت لطيفة بشكل صادم تماماً.

يقول:

– ها نحن يا حبّي..

ويباغتني الوصف (حبّي)؟؟؟!!.. من يظنّ نفسه؟!.. أيّ حقّ يمتلكه؟ أية جرأة؟.. وتأخذني النعرة العيناوية، وأبتدئ في المفاضلة بين الرد العنيف لتلقينه درساً لا ينساه، وبين التجاهل التام مع وعد نفسي ألا أمتطي تاكسي مجدداً حتى وإن اضطررت لاستبدال مخي بآخر يستوعب الاتجاهات.

وفيما أنا في خضم معركتي العقلية المحتدمة إذ بابتسامة بريئة حد الطفولة يرسمها على محياه وهو يسألني (بعد أن لاحظ ترددي):

– هل أخطأت في العنوان؟

فأعيد أسلحتي إلى مكامن خلايا المخ. أتنفس وأطمئنه:

– لا.. أبداً.. لم تخطئ..

أسلمه أجرته، وأخرج بحمقي..

هو ليس ذنبي، فالعالم تطور منذ الخلق الأول، وصار ملوثاً جداً. لكن يبدو أن دندي سقطت خارج التاريخ. الناس في دندي ما زالوا يحتفظون بطينتهم البشرية الأولية، فهم يبتسمون لك دون أن ينتظروا ابتسامتك لهم في المقابل. هم يفترضون مسبقاً أنك إنسان مثلهم فهو (حبّهم) هم. يتصرفون بمنتهى اللطف مع فتاة جميلة (مثلي مثلاً) دون نية في التعقب أو إزعاجها بأي شكل. هم لا يريدون أيّ شيء من أيّ أحد. إنهم فقط أشخاص لطفاء جداً. شيء مذهل!

***

سائق التاكسي في دندي هبة جليلة، تماماً مثل علبة كوكا بعد وجبة دسمة، فهو يعينك على هضم صداع الحياة اليومية بسهولة.

***

كان يسأل إن أحببت دندي. كنت قادمة جديدة، وفي عقلي أقفال كثيرة ضد احتمالية أن تكون مدينةٌ صغيرةٌ عالماً بذاتها. أجبته بجفاء:

– لم أر الكثير بعد..

لاحظ امتعاضي، وبدلاً من اتخاذ موقف سلبي أو محايد أجاب:

– لا تقلقي يا صغيرة. ستكونين بخير تماماً..

ناداني بـ (صغيرة)، على الرغم من تجاوزي الثلاثين! (بأشهر معدودة). أراحتني نغمة التعاطف في صوته، وأرخت توتر أعصابي. ابتسمت وقلت:

– أنا بخير منذ الآن. شكراً لك..

وضحك من قلبه، تماماً مثلما كان يضحك أبي. يمكن لسائق تاكسي أن يكون أبوياً جدّاً..

أحسست بأني في الوطن.. بعيداً عن الوطن..

إشارات لطف صغيرة قد تكون لها آثار سحرية. إنها تحول القلب الثقيل إلى قلب خفيف مرح في لحظات. هذه إحدى معجزات دندي..

***

كان الوشم الغريب يغطّي كامل ذراعيه العاريين، يربط شعره الطويل المنفوش على شكل ذيل حصان. نموذج مثالي لبطل فيلم مرعب. انتظرني لأكثر من ساعة، ثم حين عدت فتح الباب، وحمل حقائبي دون أن يرفع حتى نظره إليّ، وحين وصلنا رفض أخذ أكثر من ثلاثة جنيهات أجرته الأصلية، وقال بنغمة تقطر امتناناً:

– شكراً لك.. اعتني بنفسك..

يشكرني بحرارة لمجرد إعطائي له أجرته الأصلية، رغم انتظاره الطويل دون تململ.

(المظاهر لا تخبرنا أيّ شيء).. من قائل هذه العبارة؟.. أيّاً كان فأنا أصدّقه..

***

يمكن لسائقي التاكسي أن يكونوا أكثر من سائقي تاكسي. يمكنهم أن يكونوا قوارب نجاة. وفي دندي هم قوارب نجاة متينة، فولاذية، ومصفّحة..

في دندي تأكّدْ أنك لن تغرق.. مهما كنت سباحاً جاهلاً.. ومهما صار بحرك أعمق..

***

ملاحظاً طريقة لباسي المختلف قال بسكينة:

– لا دخل للإسلام في كلّ هذه التفجيرات والفوضى. إنّه مثل المسيحيّة، كلمة الربّ، وكلمة الربّ رحيمة. هل أنا محقّ حبّي؟

أجبته وأنا أودّع دندي:

– محقّ تماماً حبّي..

_______

*مدينة أسكتلندية صغيرة.