فاطمة العامري

الصوتُ في رأسي يقول

أنتِ تكتبين هذا النص دون إرادةٍ منكِ. تكتبينه لأنني أمليه عليكِ كلمةً كلمة، جُملةً فجُملة، ولو أنني صمَتُّ الآن. لو أنني خرستُ الآن وتوقفت، لتوقفتِ أيضاً. تماماً كنقطةٍ في نهاية السطر.
لكنني لن أتوقف، لأنني في هذه اللحظة أريد أن أفرغ هذه السطور المحتشدة بداخلي فيكِ، أنفضها مني. لا لشيء سوى أن الصمت مدةً طويلة لا يروقُ لنا نحنُ الكتّاب الأموات، حتى بعد انتقالنا إلى الحياة الأخرى.  ولأننا لا نملكُ الجسد الفيزيائي، النابض، الحيّ الذي تملكونه أنتم الكُتّاب الأحياء. نزوركم بين الحين والآخر لنُملي عليكم حكاياتٍ، أو نفضفض قصصاً، أو نتخلّص من ثقل الأوزان الشعرية، أو نمنحَ أنفسنا متعة أن تُنشر لنا نصوص من خلالكم. لا يفوتنا أن نسمع آراءَ النُّقاد، لاسيما عندما يُبدون رأياً في نص ما؛ فيقولون: 
“تأثر في هذه القصة، أو في تلك الرواية بأسلوب فلان –رحمه الله-“، أو يلمّحون إلى أنكم لا يُمكن أن تكونوا بهذا القدر من الموهبة، ولا هذا المستوى من النضج الأدبي ما لم تقرؤوا نصاً نثرياً أو شعرياً كتبه ميتٌ في عامٍ من الأعوام! 
يُضحكنا أحياناً أنهم –في الجلسات الأدبية- وأثناء تحليل نصوصكم، يسألونكم عن قائمة قراءاتكم لمؤلفاتنا، وإذا ما فاتكم ذكر عنوان كتاب، أووه! يكملون عنكم القائمة، مع تفاصيل إضافية، مثل تواريخ كتابتها، وسنوات نشرها، وظروف تشكل مواهبنا، وأمزجتنا، ومستوى فقرنا، وأسماء أصدقائنا، وزوجاتنا، وأمهاتنا. ملعونون! يعرفون كل تاريخك الأدبي والفني بل وحتى الغرامي، ولا ينبشونه إلا بعد موتِك. الله يرحمُنا. “لا في الحياة مرتاحين ولا بعد الموت مفتكّين”!
مؤكّدٌ أن ما قُلته لم يُثر اهتمامكِ، ما زلتِ في حالةٍ من الشرود المحدّق بالشاشة البيضاء، لاويةً عنقك تنظرينَ إليها وتتساءلين عن سبب اختياري لكِ لأملي عليكِ نصاً. عليّ أن أصارحكِ بحقيقة أن الأمر حدث بالمصادفة، أو لنقل “المصادفة المقدّرة”. 
-ماذا تقصد؟
أصابتكِ قشعريرة في جسدك وأنتِ تسألين.
-أقصدُ أن الأمر يُشبه فكرة الخروج لنزهة، ومصادفة زميل عملٍ في المكان الذي قصدتِه. لم تخططي أنتِ ولم يُخطّط هو لهذا اللقاء. بل كان كمعظم حوادث القدر اليومية التي يمرُّ بها آلاف الأشخاص في مختلف الأماكن والأزمان. صحيحٌ أنني كنتُ بحاجةِ لتفريغِ قصةٍ ما عبر وسيطٍ (فيزيائي)، لكنني لم أخطّط لاختياركِ أنتِ بالذات.
– لكن هذا يعني أن احتمال مصادفة آخرين غيري كبيرٌ أيضاً! انظُر إلى تلك المرأة التي تجلس إلى الطاولة المحاذية وهي تداعب طفلها. وذاك الرجل الذي يمشي مسرعاً حاملاً كيساً من أرغفة الخبز وعبوّات اللبن! هناك أيضاً العامل الذي ينظّف السيارة على الشارع المقابل للمقهى. ماذا عن النادلة؟ النادلة التي تعمل في هذا المقهى الذي أجلسُ فيه الآن؟ هناك خياراتٌ كثيرة.. أشخاصٌ كثُر من حولي!
-صحيح! لكنني عندما كنتُ ماراً، كنتِ أنتِ الوحيدة التي وفّرت ظروفاً ملائمة. منعزلة في زاوية مقهى. إضاءةٌ صفراء خافتة. ذهنٌ صافٍ نتَج عن شُربِ الشوكولا الذائبة بالحليب الساخن. شاشةٌ بيضاء، وأصابع متحفّزة على لوحة المفاتيح للكتابة. 
-هل تقصدُ أنه إذا قام أحدُ الجالسين في المقهى الآن بتوفير ظروف ملائمة، لاستطاع كتابة قصة من خلالك أو من خلال كاتبٍ ميت؟
-كلا! الأمرُ ليس بهذه السهولة! فعندما نُصادف وسيطاً فيزيائياً، أو (جسداً حياً)؛ فإننا لا نُملي عليه نصوصنا ولا نهمسُ له بشيءٍ من حكاياتنا أو أشعارنا مالم نتبيّن خصائصه. وأعني بذلك: حرارةٌ عالية في منطقة الأصابع.. عينان ذواتا مقلتين صافيتين.. آذانٌ حساسة مرهفة.. ثم يأتي التواصل الأوّلي لقياس مستوى اللغة والقدرة!
-مهلاً! مهلاً! توقف. هذا يعني أن ما تُمليه عليّ، يُمكن أن تُمليه لاحقاً على كاتبٍ آخر غيري له الخصائص نفسها!
قلتِها وأنتِ تحكّين خدّكِ بتوتّرٍ بالغ.
-أؤكد لكِ أن نزاهتي تمنعني من ذلك، رغم أن الأمرَ واردٌ جداً؛ فقد قام الكثير من زملائي الأموات بإملاءِ نصٍ على كاتبٍ أو شاعر، ثم أملوه على آخر مع بعض التعديلات والإضافات.
أسمعُكِ تضحكين الآن. يلتفتُ إليكِ عددٌ من الأشخاص في المقهى. وتتلَصَّصُ عليكِ العيون. تحاولين كتم ضحكتكِ وأنتِ ترددين في ذهنكِ:
-أوف! مرحباً بسلسلةٍ طويلة من قضايا حقوق النسخ!
أضحكُ أنا أيضاً من مجرّد تذكر وجوه الكتّاب المخذولين، وأقول:
-حقوق النسخ فقط؟ ألم تسمعي بأولئك الكتاب الذين خسروا سُمعتهم ووُصفوا بالزيف والانتحال عندما كتبوا قصصاً تبيّن لاحقاً أن فكرَتها وشخصياتها وصياغاتها مكرّرة لدى كاتبٍ من بلد ومنطقة ولغة أخرى؟ بل ومن حقبة تاريخية أخرى. يُقسم الكتاب الأحياء أنهم لم يسرقوا الفكرة. وهم صادقون. لم يسرقوها، بل ألقاها ميّتٌ عليهم كما ألقاها على كاتِبٍ من قبلهم.
ينطفئ بريقُ عينيكِ، وتهدأ أصابعكِ على لوحةِ المفاتيح، ثم تقولين:
– لكن.. لكن ربما يكون الكاتب قد كتب نصاً قبل تاريخ ترجمته إلى أي لغةٍ أخرى! هو لم يطّلع على النص أصلاً ليسرقه! 
وأقول:
– هاهاه! هذا ليس دليلاً كافياً للتأكيد على خلوص النيّة يا عزيزتي. في هذا العصر؟ كيف سيقنع الكاتب آلاف القراء أنه لم يقرأ نصاً لكاتب فرنسي أو ياباني أو ألماني؟ أو أنه لا يفهم لغةً من لغات العالم مع وجود آلاف وسائل الترجمة والذكاء الاصطناعي التي يمكنها أن تحوّل نصاً إلى لغةٍ أخرى بضغطة زر.
-لمَ لا يكونُ ورودُ خاطر؟
– ورودُ خاطر؟ ألم تفكّري في معاني كلمةِ خاطر من قبل؟ خاطر.. خطّار.. الضيوف.. الزوّار.. ورود.. ورَدَ خاطر.. إنه أنا.. ونحن.. زوّاركم. 
تنبعثُ آهة خفيفة من شفتيكِ، ثم تسألين:
-بالحديث عن الكلمات والمعاني. كيف يتفاهم الكاتب الميّت مع آخر حيّ لا يتحدّث لغته!
وأوضّح لكِ:
-الأمرُ أبسطُ مما تتصورين. عندما نموت ونتحوّل إلى كياناتٍ أكثر شفافية وأخفّ وزناً، نصلُ إلى مستوىً روحانيّ أعلى مما كُنّاه في الجسد الفيزيائي. تجعلنا تلكما الخصيصتين أكثر ارتباطاً بالمحيط من حولنا، وأكثر إحساساً بحرارة أجسادكم، وأكثر قدرةً على قياس مستوى صفاء أذهانكم، وهذا ما يسهّل عملية تواصلنا معكم. الأمرُ يتجاوز مستوى اللغة المنطوقة، والحوار اللفظي، والترجمات الفورية. نحنُ ننسابُ إليكم تماماً كالأوامر العصبية.  في ظرفِ ثوانٍ تسمعينني كصوتٍ يتردّد في ذهنكِ. تظنّينني –كما يظننا العديد من الكُتّاب- صوت عقلكِ أو ضميركِ أو موهبتكِ رغم أنني صوتُ كاتبٍ ميّت!
من الواضح أن المعلومة أثارتكِ، أشعرُ أن الحرارةَ تدفّقت إلى خدّيكِ، وها أنا أسمعكِ تسألين:
-لحظة! إذا كنتم تتصلون فعلياً بكاتبٍ ما، لِمَ تُمْلونَ النص لاحقاً على كاتبٍ آخر؟ ولِمَ تتسببون بقضايا الاقتباس وحقوق النسخ؟
-يحدثُ أحياناً أن بعض الكتّاب الأحياء يبدؤون بالكتابة ثم يتركون مكانهم. أو يصلهم اتصالٌ هاتفي عاجل مثلاً. أو تدخل عليهم زوجاتهم أو أطفالهم. ننزعِج.. ينفدُ صبرنا ونغادر. يصرخون هم لاحقاً بأقذع الشتائم ويلحقونها بعبارات مثل: “انقطع حبل أفكاري.. طارت الفكرة.. نسيتُ العبارة.. ذهبت عن بالي!”. ولهذا السبب تلاحظين أن أغلبهم يفضّل إغلاق الباب على نفسه، أو الاختلاء في الحمام، أو المشي لمسافات طويلة، أو السفر إلى مكانٍ معزول. الأمر ليس متعلقاً بانقطاع حبلٍ أو طيران فكرة أو نسيان عبارة، بل بالرغبة في الإنصات لصوتٍ ما.
-لكن.. لماذا لا تعودون لإملاء الحيّ مجدداً؟ إنها لحظة تشتت قد تمتد لدقائق فقط!
-لأن لحظة التشتت القصيرة تلك يُمكن أن تكون السبب في تحويل النص إلى مسارٍ آخر لم يكُن كما أردناه؛ ولهذا نتركه باحثين عن كاتبٍ أو وسيطٍ آخر.
-هل تقصدُ أنكم تريدون أن يُكتب نصّكم تماماً كما تملونه علينا؟
-نعم! وربما نتدخل أحياناً في تغيير مسارات الشخصيات وحبكات القصص التي تكتبونها. تصطلحون –سذاجةً- على تسمية هذا الفعل “تمرُّد الشخصيات”. وتوهمون القرّاء والصحفيين بأن الشخصية باتت حية واختارت مصيرها تسويغاً لعدم نجاحكم في تطويعها كما أردتم. والحقيقة أنكم ارتبكتم واستسلمتم لما خططناه نحن لمصير الشخصية أو تلك.
-ألا يُعدُّ هذا نوع من الإجحاف في حقّنا؟ نحن في هذه الحالة لسنا أكثر من دمى ماريونيت بالنسبة لكم. جسد خائر بالٍ متخشّب متصل بخيوط إرادتكم.. وأصواتكم!
-عفواً؟ ماذا قلتِ؟ إجحاف؟ من أين جئتِ بهذه الكلمة ذات الإيقاع الناشز؟ ألا يمكنكِ استخدام مفردة أفضل؟  ثم دعيني أوضح لكِ أننا لا نزوركم كثيراً، وإن زُرناكم فإننا –تفضُّلاً – نمنحكم تجارب وأفكاراً فريدة؛ فجذور خبراتنا تمتدُّ إلى ما يزيد عن 20 أو 50 أو مئة عام أو 300 عام حتى. تنالون التصفيق والأضواء والشهرة وتكتب عنكم الصحُف مانشيتات عريضة: “الكاتب الذي تجاوز أسلوبه”، وكليشيهات صفراء: “الكاتبة التي خرج إبداعها من رحم المعاناة”. وحينما تُستَدْعَوْن إلى لقاءات صحفية أو تلفزيونية. يسألكم الإعلاميين بانبهارٍ متكلّف: “كيف استطعتم تخيّل هذا المكان التاريخي الممتد إلى ما يزيد عن مئة عام؟ كيف كتبتم بهذه الدقة عن أشياء لم تروها؟ كيف وصفتُم؟ كيف أبدعتُم؟ كيف ألّفتم؟”.
 ترددون بزهوّ: “قرأنا وبحثنا كثيراً!”
 وحينما تُسألون: “من أين استوحيتم الفكرة؟ من أين جاءتكم هذه الفكرة العميقة المؤثرة؟”
تبتسمون ببلاهةٍ وترددون: “إنه إلهام!”.
إلهام؟ نحنُ الإلهام يا عزيزتي! نحنُ الأصوات التي تسمّونَنا إلهاماً.
واضحٌ أنكِ ارتبكتِ من قولي، ترتعشُ رموشُ عينيكِ عدّة مرات، تُحرّكين فأرة الحاسوب لزيادة سطوع الشاشة البيضاء، ثم ها أنتِ تقولين بانفعال:
– كفّ عن هذه الترّهات. ألا يُمكن أن نُنتِجَ نصوصاً أصيلةً مالَم تتفضّلوا علينا بزيارتكم وحضوركم المبجّل!
-ما هو مفهوم الأصالة في نظركِ؟ أن يُنتج المبدع عملاً ليس له مثيل؟ ألستُم تقرؤون كتبنا؟ وتشاهدون آلاف الصور والرسوم واللوحات؟ وتعبرُ ذاكرتكم آلاف الوجوه؟ وتأخذون من الطبيعة مشاهدها وألوانها وانفعالاتها؟ ثم إننا –كما قلتُ لكِ- لا نزوركم بشكلٍ دوري. أنتم تملكون اللغة والأدوات وتكتبون أيضاً قصصكم وأفكاركم ونصوصكم. لكننا نلتقيكم في لحظاتٍ تشبه اللحظة التي التقيتُكِ (رغبتي في الفضفضة واستعدادكِ التام للكتابة).
تهزّين رجلكِ بانفعالٍ واضح، فأكملُ لكِ:
– يُمكنكِ عدّ هذا اللقاء نوعاً من التعاون الذي يختلف على أثره أسلوب الكاتب الحي، وتزداد سرعته في الكتابة، وتتدفق الأفكار في رأسه بغزارة. وبسبب ذلك الاتصال المتواتر والإصغاء العميق يتمكّن من إنجاز مجموعة قصصية كاملة أو رواية في ظرفٍ زمني أقصر نسبياً. يُلاحظ النقاد تطوّره.. أو.. أو انحدار أسلوبه.
-انحدار أسلوبه؟ هل تقصد أنه يُمكن أن يُملى على الكاتب شيء أقل من مستواه الأدبي؟
-تماماً.. يقعُ بعض الكتّاب في فخّ الاستماع لصوتِ كاتبٍ ميّت ضعيف اللغة. قد يملك فكرة جذابة، لكنه لا يملك الصياغة ولا الأسلوب؛ فتضيع الفكرة في هيكلٍ متهالك. ولهذا، لا يمكن وصف الكاتب الحي بأنه دمية “ماريونيت” كما وصفتِ؛ لأن الحِمْل الأكبر يقعُ عليه هو للوصول إلى نصٍ أدبي جيد. إنّ جزءاً كبيراً من مهمّته يتمثّل في انتخاب الأصوات التي تعبرُ ذهنه؛ فكثيرٌ مما يعبُر الذهن لا يكون إلا صدى.. صوتٌ مكرّرٌ خائر!
أراكِ تحدّقين في الشاشة البيضاء، تزدادُ حرارة أصابعكِ، فأسألُكِ: 
-كنتِ تنوينَ كتابة قصة قبل لقائي؟
اتسعت حدقتا عينيكِ:
-كيف عرَفْت؟
-كما وضحتُ من قبل. بيني وبينكِ اتصالٌ ذهني عميق.. يمكّنني من معرفة ما تريدين قوله أو كتابته.
-هل هذا يعني أنه بإمكانكَ أن تملي عليّ قصةً الآن؟
– سأمليها عليكِ بشرطين.
-شرطين؟ أنت لم تقل إن ثمة شروطاً من قبل.
-لم تكن ثمة شروطاً حتى قابلتكِ؛ لأننا –نحن الأموات- لا نجري عادةً حوارات من هذا النوع مع الأحياء، لكن درجة حساسيتكِ العالية لصوتي جعلتني أبوح لكِ بكل هذه الأسرار، وأظنه من حقي أن أحظى بمقابل.
-أسرار؟ 
-أو اعترافات. سمّها ما تشائين. لكنني بُحتُ بها. ولو أنني لم أفعل، لبقيتِ إلى آخر يومٍ في عمركِ تظنّين –ككلّ الكُتّاب الأحياء- أن ما يُملى عليكم مجرّد إلهام، وأن تلك الأصوات في أذهانكم ليست إلا أصوات عقولكم أو ضمائركم أو مواهبكم أو.. هه! شخصياتكم.
-هل ستحمّلني جميلَ اعترافك؟
-ألن تصغي لشرطيّ؟
-طيب. هات.. ما هما!
-أولاً: أن تكتبي القصة تماماً كما أمليها عليكِ، دون إضافات وزيادات، وثانياً: أن يكونَ في عنوانها إشارة لي، اعترافاً بوجودنا نحنُ الكتّاب الأموات. وأن تأثيرنا عليكم أنتم الأحياء لم ينته بعد وفاتنا. مازلتم تنالون مجداً ممتداً منا. تسمعوننا في كثير من الأحيان، وتكتبون نصوصاً جديدة منبعثة من بطوننا. نحن المنسيّون في ظُلمة الموت وغياهب القبور.
هوّني عليكِ.. لا تضغطي على أسنانكِ بهذه القوة. لا تطوي الشاشة. هل تقولين إنني لئيم؟
-أنت لئيمٌ فعلاً! تستغلّ عجزي الحالي في صياغة القصة. كيف لي أن أجعلك جزءاً من قصتي؟ ماذا سيقول القراء والنقاد عني؟ ساذجة؟ مجنونة؟
– لن يقولوا عنكِ ساذجةً أبداً، ربما يقولون مجنونة، لكن أليس الجنون محموداً فيما يتعلق بالفنون والكتابة وتأليف القصص؟
-سأذكرُكَ في إهداءٍ سابقٍ للمجموعة القصصية! أخبرني باسمكَ و…
-لا! الشرطان كما طلبتهما!  
-هذا صعب جداً. 
-إذاً يبدو أننا لن نتفق! وداعاً!
-مهلاً.. اصبر.. لحظة لحظة!
-هاه؟
-هل تعدني ألا تمليها على قاصٍ غيري؟
-أعدك. 
-طيب.. ألا تخشى أن تُملي عليّ القصة ثم أخلف أنا وعدي عند نشرها؟
-فكّري ألف مرةٍ قبل أن تخلفي وعداً مع ميّت؛ لأنكِ ستصابين بلعنة صوتي. بل سأحرّض كل كاتبٍ ميتٍ عليكِ، ثم استعدي لصدى الثرثرات المزعجة في رأسك كلما أردتِ الكتابة. سنلاحقكِ أصواتاً مضجرة تافهة بلا عمق ولا معنى حتى نلقاكِ كياناً ميّتاً يُشبهنا!
أسمعُكِ تتنهدين، ثم بيأسٍ تقولين:
-هل ستمليها علي مع مراعاة علامات الترقيم والإملاء والنحو؟
-لم يحدث هذا من قبل، لكن سأحاول.
أسمعكِ توافقين قائلة:
– اتفقنا.. أملِ القصة عليّ.
– أصغي إليّ.. أصغي إلى صوتي.. صوتي أنا فقط.. واكتبي:
” أنتِ تكتبين هذا النص دون إرادةٍ منكِ. تكتبينه لأنني أمليه عليكِ؛ كلمةً كلمة؛ جملة فجُملة. ولو أنني صمَتُّ الآن. لو أنني خرستُ الآن وتوقفت. لتوقّفتِ أيضاً. تماماً كنقطة في نهاية السطر…”.
                                                                                             
                                                                          *
– ها أنتِ قد انتهيتِ من القصة.. لا تنسي شرط العنوان!
– ألن تسألني إذا أعجبني النص؟
-كلا! ولا تكوني مفتونةً جداً بما تكتبين، أو بما كتبناه سوياً. ما زلتِ في بداية الطريق.
-لحظة! ألن تخبرني باسمك؟
-ربما.. في ظروفٍ أخرى ملائمة: إضاءةٌ خافتة.. ذهنٌ صافٍ.. شوكولا بالحليب الساخن.. وأصابع متحفزة للكتابة.

الصوتُ في رأسي يقول