يتخذ عوض كل يوم ركناً هادئاً من المقهى، وينكب على كراسة صغيرة يدون فيها مقالاته وقصصه. في الحقيقة لا أحد يعرف ما يكتب في الكراس، إلا ما ينشره في إحدى الصحف كل أسبوع، إلا أن الواضح لكثير من أصدقاء شبابه أنه يحب الكتابة، ولذلك لابد أنه يكتب مقالات وآراء وقصصاً من معين ذاكرته، كان سابقاً قد اتخذ من مقهى عائشة في قلب ديرة مقراً لكتابته، يستمتع فيه بالأصوات والضجيج والأصداء وروائح التوابل، والشاي الطازج، وقهوة النسكافيه بالحليب، ومع تلك الضجة من حوله، كان يغيب عن الجميع، وينصرف إلى الكراسة يخط فيها ما تجود به القريحة، كان ذلك منذ أكثر من 40 سنة، حين كان على رأس عمله في الوزارة، وكان الوصول إلى المقهى الشعبي سهلاً، إلا أنه اضطر مع زيادة حركة السير والاختناقات المرورية إلى ترك مقهاه الأثير والتحول إلى آخر قريب من بيته، وهكذا كان (ستاربكس)، في أحد المراكز التجارية مقره الجديد منذ عشر سنوات، وقد وجد هذا المقهى الحديث أكثر هدوءاً، وهذا ما لم يعجبه في البداية، إلا أنه مع مرور الوقت تعود عليه، خاصة أنه لم تعد توجد مقاهٍ شعبية كالتي في باله، والوصول إلى بعضها في دبي القديمة صار صعباً عليه.
يبلغ عوض سالم من العمر اليوم سبعين عاماً، مع ذلك فإن ملامحه وبشرته لا توحيان بتقدم العمر، فهو متوسط الطول، خفيف الوزن، لم يراكم كالآخرين شحماً على لحم، له وجه مثلث فيه عينان صغيرتان لامعتان ترمشان على الدوام، وحاجبان أسودان، وشعر رأسه لا يزال يحتفظ بكثافته ولونه الأسود، وهو على ذلك يبدو في الأربعين أو الخمسين من عمره فحسب، وكثيراً ما أخطأ الناس ممن لا يعرفونه عن قرب في تقدير عمره، ويتفاجأون أكثر عندما يعلمون أنه جد لأحفاد وحفيدات كثر.
بعد أن انتهى اليوم من كتابته وإرسال المقالة، جاءه اتصال على هاتفه، عرف أنه رمزي السيد، محرر الشؤون الثقافية في الصحيفة، يعتذر له عن عدم مقدرة الصحيفة على نشر مقالته فسأله عوض:
- لماذا؟ إنها مجرد مقالة ثقافية عن كتاب قديم، رأيت أنه من المناسب أن أُعرف القراء، خاصة الشباب، به وبالكاتب؟
قال له رمزي على الطرف الآخر:
- المشكلة ليست في المقالة، بل في الكتاب الذي كتبت عنه.
- ما المشكلة؟ هذا كتاب قديم، صادر في الستينيات.
قال رمزي:
- آسف يا عوض لكن إدارة التحرير رفضت المقالة بسبب هذا الكتاب، يبدو أنه من غير المحبذ الكتابة عنه أو الترويج له.
قال عوض باستغراب:
- لكنني لا أروج للكتاب، أصلاً الكتاب غير متاح الآن، وغير موجود في المكتبات، فقط رأيت أنه من المناسب المرور عليه، لأنه في الحقيقة كتاب مهم!
- لا أعرف يا عوض، دعني أسأل وأراجع إدارة التحرير، وأرجع لك.
- طيب، شكراً لك، بانتظارك.
لم تكن هذه المرة الأولى التي يرفض له نشر مقالة أو وجهة نظر أو قصة، فقد تعود على الأمر، فذاكرة عوض سالم ملغمة بالكثير من الذكريات والصور والأحداث التي لا يمكن الحديث عنها، وهو يتذكر عدد القصص التي كتبها في بدايات ولعه بالكتابة، عن شخصيات حقيقية لكنها لم تر النور، فأودعها في الأدراج، وطواها النسيان.
تمدد على سريره بعد الظهر، يفكر في المقالة التالية، فعوض بعدما تقاعد لم يعد لديه ما يشغل تفكيره ووقته سوى الكتابة، كان سابقاً يذهب إلى الشاطئ، عندما كانت قريته لا تزال قرية صغيرة هادئة حالمة على شاطئ الخليج، فيشارك أبناء القرية ورجالها (الضغي) مستمتعاً بجرّ الشباك وقدماه تخوضان في المياه الباردة، وكانت سعادته مثلهم لا توصف حيث تصل الشباك إلى البر وفيها أسماك السردين الصغيرة تلبط وتلمع كالفضة، وبعض الأسماك الأكبر كالقرفا وغيرها، فيأخذ مثلهم نصيبه سمكة أو سمكتين كبيرتين ويعود بهما إلى البيت. اليوم لم يعد يوجد ضغي ولا ضغاية، بل شاطئ مبلط يمارس فيه الهواة رياضة الجري والمشي والاستمتاع بمطاعمه ذات الوجبات السريعة ومقاهيه السياحية.
أخذته غفوة لكنه سرعان ما صحا على رنين هاتفه الجوال، كان رمزي على الخط:
- أهلاً يا عوض، آسف على الإزعاج، أردت إخبارك أن إدارة التحرير رفضت المقال تماماً للسبب الذي ذكرته لك.
- والحل؟
- أن تكتب مقالاً آخر، لكن الإدارة ذكرت أنها لن تمانع في نشر المقال في حالة انتقدت الكتاب، وسفهت بمؤلفه، لكن مقالك بوضعه الحالي قد يُعدّ ترويجاً للكتاب.
- طيب يا رمزي، سوف أرسل مقالة أخرى بعد غدٍ إن شاء الله.
في المساء قبيل الغروب خرج عوض إلى الشاطئ وهو يشعر بالاختناق والكدر، وصار يفكر في مقالة جديدة للنشر. تمشى سويعة على مهل، ومد بصره إلى البحر، كانت الشمس تميل الآن إلى الغروب فضرجت الأفق بحمرة الشفق، وهبت نسمة رطبة تحمل رائحة سمك البحر وأصدافه، هذه الرائحة التي طالما أحبها منذ نعومة أظفاره، حين كان يلهو مع رفاقه على الشاطئ صباحاً ومساءً، خاصة في أيام الشتاء، مع مجيء جموع النوارس، وهبوب رياح الشمال الباردة، ومرت أمام عينيه في تلك اللحظة خواطر شتى، وأطياف شاب في الخامسة عشرة من عمره يتسلل في عتمة الليل قبيل الفجر إلى الشاطئ حيث قوارب الصيد والشواحيف والقراقير تسترخي في دعة على الرمال، ويتسلم أوراقاً من صديقه عبيد، ليقوم بتوزيعها على البيوت، وذلك بوضعها خارج الأبواب، فكان إذا صحا الناس رأوها أول الأمر، عرف فيما بعد أنها منشورات سياسية تابعة لجبهة تحرير عمان والخليج العربي ضد الاحتلال البريطاني، ثم مع العمر انخرط أكثر من خلال نشاط النادي الذي انتمى إليه في الترويج للثورة، ولا يزال يتذكر أدبيات المرحلة من الكتاب الأحمر لـ (ماو تسي تونغ) إلى (ما العمل) لـ (فلاديمير لينين)، وعبرت ذاكرته صور مصاحبة لمقاتلين، وبالذات لمقاتلات يحملن البنادق بقبعات ماوية على قمم الجبال في ظفار.
لكن يا عوض ذلكم زمن مضى واندثر. قال لنفسه بعد مرور هذا الشريط المشوش أمام عينيه. والحال اليوم تبدل كما ترى، حتى الزوجة التي حلمت بها يوماً في شبابك على نموذج طفول سهل أو فاطمة غنانة، لم تكن سوى عنفوان وقت الثورات العربية المندحرة، وها أنت اليوم صرت أباً وجداً ترفل وأحفادك في أثواب من الهناء والعيش الرغيد، ربما لم تكن الثورات قادرة على تحقيقها لك ولجيلك، قال يقنع نفسه.
صباح اليوم التالي وجد الطريق إلى المركز التجاري حيث مقعده اليومي في ستاربكس، خفيف الحركة وهو يقود سيارته في طرقات المدينة ويستمع لأغنية أحمد الجميري (من زمان تسولف الريح عن شاله) كان عوض هذا النهار في حالة من المزاج الجميل بعد كآبةِ الأمس، زادته الأغنية انشراحاً وهو يستمع لكلماتها الجميلة وموسيقاها البديعة. دخل المقهى وطلب قهوته المعتادة وزجاجة ماء باردة، ووضع كراسه المعتاد أمامه على الطاولة، وأخرج قلمه واعتدل قليلاً قبل أن يبدأ الكتابة متأملاً بداية المقالة. مع آخر رشفه قهوة أعقبها برشفة ماء بدأ يكتب، فغاب عمّا حوله، من حركة ونشاط في المركز التجاري، ومع أن المقال هذه المرة استغرق وقتاً أطول من المعتاد إلا أنه في آخر المطاف وبعد نحو ساعتين، وضع القلم والتقط الأنفاس، وفكر في رمزي السيد: هذه المرة لن ترفض المقالة يا رمزي.
أعاد قراءة المقالة وأجرى تصحيحات طفيفة، ثم حارَ في العنوان، وبعد تفكير لمع العنوان في رأسه: ضيف الشتاء، ثم صور المقال بكاميرا هاتفه، ثلاث صفحات، أرسلها من فوره إلى رمزي، وغادر المقهى يتمشى في المركز قبل انصرافه إلى البيت وهو يردد: هذه المرة لن ترفض المقال يا رمزي.
أما ضيف الشتاء فكان يأتي في جموع إلى شواطئ البحر في فصل الشتاء، وكان وأصدقاؤه ينصبون له المعاضي لاصطياده، ومن ثم قص أجنحته كي لا يطير، ويحبسونه في حوش الدار، كانوا يحبونه، فهذا الكائن الأبيض أو الرمادي جميل الشكل، وذكر عوض أنه طائر ذكي واجتماعي بطبعه ولديه القدرة على التعلم خاصة فيما يتعلق بالبحث عن الطعام والتفاعل مع البيئة، وهكذا استطرد في وصف ضيف الشتاء ومدحه، ولم ينس أن يذّكر قراء الصحفية بأغنية النورس الرحال لمروان الخطيب التي ذاع صيتها في سبعينيات القرن الماضي.
وهو يدخل البيت رن هاتفه الجوال، فإذا به رمزي السيد كما توقع:
- أهلاً يا رمزي.
- أيوه يا عوض كده المقالات ولا بلاش، غداً سوف ننشره، يا سلام أعجبني كثيراً.
- شكراً، حسبما أردتم كتبت مقالة أخرى غير التي لم تعجبكم.
- تصدق يا عوض، أول مرة أقرأ عن النورس، وقد عرفت من المقال معلومات كثيرة عنه لم أكن أعرفها.
انتهت المكالمة، ولم يذكر عوض أنه استعان على كتابة المقال بمعلومات استقاها من غوغل وتشات جي بي تي، أما المقالة المرفوضة فهو يعرف مآلها مثل غيرها من المواد التي كتبها في الكراسة الصغيرة، ثم أودعها ظلمات الأدراج، وهكذا كان.
وإذا ذهبنا اليوم إلى المركز التجاري وإلى مقهى ستاربكس سوف نجد عوض سالم هناك منكباً على كراسه يسوده بقلمه الأسود، بمقالات وقصص وحكايات على الأغلب لا ينشر إلا القليل منها مما يرضي صحيفته الغراء.