عبد الحميد أحمد

المطور العقاري

منذ ساعة وهو يتوسط الطابور، نظر إلى الأمام فرأى صفاً طويلاً، ثم نظر إلى الخلف فرأى صفاً أطول، وحمد الله أنه تمكن من المجيء أبكر من غيره.

قرر هذه المرة ألا ينسحب مهما طالت الطوابير ومهما انتظر، ومثلما ركب غيره قطار الثروة عليه أن يركب كذلك، فهو يسمع منذ فترة عن قصص لأناس اشتروا من هذه العقارات، وسرعان ما تضاعف سعرها وتثلث وترابع حتى جنوا ثروات في غضون سنوات وأحياناً شهور.

الشمس الآن تقريباً تعامدت فوق الرؤوس وبدأت حرارة الجو ترتفع، ومعها يرتفع الشعور باللهب في جسمه، والأجسام التي أمامه، والتي خلفه، وها هي روائح العرق صارت تفوح في الجو الصيفي وأصبحت الثياب ـ خاصة القمصان الخفيفة من دون فانيلات ـ تلتصق بالظهر، مال برأسه إلى الشخص الذي أمامه وقال: لماذا لم تختر الشركة سوى هذا الوقت من العام لتكشف عن مشروعها العقاري؟!! أجابه: لا وقت للبيزنس، كل الأوقات مناسبة، فالمشاريع لا تتوقف والمنافسة شديدة، وخطر له أن يسأله هل استفاد من أي من هذه المشاريع غير أنه توقف منعاً للإحراج، لكن زميل الطابور الذي أمامه، وكان من الجنسية العربية استرسل: هذه فرصة نادرة، لا تجدها في أي مكان في العالم، وأضاف: إن كفيلي الذي أمثله اليوم، أرسلني للحجز، استطاع أن يتحول إلى مالك عقارات بسبب هذه المشاريع التي درت عليه أموالاً وأرباحاً لم تكن في الحسبان.

مسح وجهه بطرف غترته من العرق المتصبب من جبينه وشعر ببرودة في ظهره من سيلان خيط من العرق ما بين الكتفين إلى أسفل الظهر، وقد بدأ الآن يشعر بالعطش وبجفاف الحلق، بعد أكثر من ساعة في هذا الطابور تحت حرارة الشمس، لكنه منى نفسه قريباً بالوصول إلى المظلة التي نصبتها الشركة لجمهور المشترين إذا ما تحرك الطابور بسرعة.

وإذ لم تكن هذه هي المرة الأولى له ولا المحاولة الأولى للحصول على نصيبه كالآخرين، فقد قرر الوصول إلى خط النهاية، في المرتين الماضيتين وصل أيضاً إلى خط النهاية في ظروف أحسن من هذه، لكن الحظ لم يكن إلى جانبه، تذكر أنه في المرة الثانية شجعه أحد زملاء العمل بالشراء من أحد المطورين المحليين قائلاً له: لا تفوت الفرصة بوعبد الله، فالمطور المحلي خصص حصصاً للمواطنين، لذلك فأمامك فرصة عظيمة للفوز بوحدة أو اثنتين من الوحدات ثم بيعهما والربح منهما.

قال له:

–         لكن ليس معي أثمان هذه الوحدة أو الوحدات.

رد زميله:

–    المهم أن تحجز أولاً، وسرعان ما تجد من يشتري منك بسعر أعلى، فالطلب على هذه المشاريع يفوق العرض، والربح مضمون.

–         وأنت هل اشتريت؟

–         نعم اشتريت مرتين، وفي كل مرة لم أدفع فلساً واحداً، إذ سرعان ما وجدت من يشتري بأعلى ثمن.

واسترسل:

–    في المرة الأولى لم أكد أغادر نقطة التسجيل حتى عرض عليّ أحدهم الشراء بربح لم أتخيله، فتنازلت له عن الوحدة التي اشتريتها، بيع وشراء طبعاً، في اليوم نفسه، شيء لا يصدق.

تمتم أبو عبد الله:

–         شيء لا يصدق فعلاً

–         نعم ماذا تقول؟

انتبه إلى أن الذي يسأله هو الرجل أمامه في الطابور، فرد عليه:

–         فعلاً لا يصدق، مثل هذا الطابور، على فكرة ما عرفتني على اسمك؟

–         أنا محمود، وكيل عقاري.

–         تشرفنا، وأنا صالح عبد الله، بو عبد الله.

قال محمود:

–    في مرات سابقة كان هناك من بات ليلته في موقع إطلاق المشروع، لكي يكون في أول الطابور ويفوز بالشراء، ومرة جئت في الثامنة صباحاً وهو الموعد الذي حدد للتسجيل، فرأيت أمامي طابوراً أطول من طابورنا هذا، فسألت نفسي متى جاء هؤلاء وعرفت أن أغلبهم قضى ليلته هنا.

تمتم بو عبد الله: يا لطيف ألهذه الدرجة؟

–         نعم وأكثر، فما وصلني الدور حتى عرفت أن الوحدات بيعت كلها في أقل من ساعة.

رد أبو عبد الله:

–         لقد حدث معي الأمر نفسه مرتين، في أحداها.

وعلى الرغم من تخصيص حصة للمواطنين، إلا أنني حين وصلت خط النهاية قالت موظفة شباك المبيعات:

لقد بيعت الوحدات المخصصة للمواطنين، بالكامل.

فسألتها:

وكم حصة المواطنين؟

قالت: عشرة بالمائة بيعت في الحقيقة من أمس.

وأردف يكلم محمود:

 وهكذا حتى ضمن حصة المواطنين لم أحظ بالنصيب.

قال محمود:

لكن بإمكانك أن تشتري دائماً من السوق، فهناك من يقوم بالحجز مسبقاً ثم يبيع بسعر أغلى في اللحظة نفسها كما قلت لك.

قال بو عبد الله:

في المرة الأولى هذا ما فعلته، قمت بالحجز مسبقاً، ومع ذلك حيث وصلني الدور عند إطلاق المشروع قيل لي إن الأولوية أعطيت لمن دفع عربوناً وأنت لم تدفع العربون.

وأضاف: أتمنى فقط أن أحصل على المطورين العقاريين، أي مطور منهم، على وحدة أقوم ببيعها فوراً لكي أربح منها مثلما حدث مع الآخرين، ولكن يا للأسف.

–         اليوم أنت هنا، نتمنى أن تحصل على هذه الفرصة، مفهوم، قل إن شاء الله.

–         نعم لأن هذا المشروع ضخم ولا يمكن بيعه في ساعة، أو ساعتين، كما حدث معي في المرات السابقة.

تحرك الطابور قليلاً وصارت المظلة قاب قوسين من بوعبد الله، فقال في نفسه هانت، إلا أن حرارة الشمس اشتعلت أكثر، حتى شعر معها أبو عبد الله بالإرهاق والتعب، كان الجو ساكناً بلا نسمة هواء، وروائح الأجساد الآن فاحت أكثر، مع ذلك تمسك بالدور، وقطع الوقت بالحديث مع محمود.

–         وأنت يا محمود هل تحصل على ما تريد في كل مرة من وراء إطلاق هذه المشاريع.

قال محمود وقد أخذ يمسح العرق عن رأسه وجبهته ووجنتيه: نعم، قلت لك أنا وكيل عقاري، إذا لم أحصل من المطور مباشرة لا أغادر المكان إلا وقد اشتريت بالنيابة عن وكيلي من الآخرين الذين حصلوا على نصيبهم، وإن كان بسعر أعلى، لأن في هذا السوق الموازي دائماً الأسعار في صعود، لذلك نحن نربح وإن اشترينا عن غير طريق المطور.

بعد نحو ثلاث ساعات وصل الدور إلى بو عبد الله، ومحمود، وتفاجأ بلافته على كل طاولات البيع (سولد أوت).

 فهتف محمود:

–    أرأيت؟ لقد بيع المشروع بالكامل، والآن ليس من فرصة إلا الشراء من الآخرين، ممن حظوا بالحصول على وحدة أو وحدتين، ما رأيك؟

بوعبد الله الذي اكتفى من الغنيمة بالإياب، رد شاكراً لمحمود، وغادر المكان على وجه السرعة، وتوقف عند أول سوبر ماركت ليقتني زجاجة ماء باردة ليطفئ بها لهيب ظمأه، ثم قاد سيارته في طريقه إلى البيت، وهو يرى لافتات المطورين العقاريين تعلن عن بيع وحدات سكينة وأراضٍ وفلل وشقق، على طول الطريق، تسد عليه الأفق.

صباح اليوم التالي استيقظ عكر المزاج، عابس الوجه، إلى درجه أنه لم يشعر بالحاجة إلى حلق لحيته لأجل الذهاب إلى العمل، وعندما دخل على زملائه في المكتب، رأوا جميعاً سحنته المتكدرة، وهو يسلم عليهم ببرود، فقال له أحدهم: صباح الخير بو عبد الله، وأضح أن الأمور لم تكن في صالحك أمس، مثل كل المرات، هذا حظ ونصيب، سبق أن قلت ذلك، رد آخر: لا حظ ولا نصيب، الموضوع يحتاج إلى واسطة، فرد ثالث: الواسطة أيضاً حظ ونصيب.

انزوى بو عبد الله خلف شاشة كمبيوتره صامتاً، وفكر أنه إذا تقاعد الآن بعد أن شارف على الخمسين مع عمره، فإن راتبه بالكاد سوف يكفيه بعد استقطاع العلاوات منه، كان يتمنى أن لو أنه حظي بفرصة لامتلاك وحدة أو حدتين ثم بيعهما ليكوّن ثروة صغيرة تساعده على ما تبقى من عمره، لولا أن الرياح جرت بما لا تشتهي سفينته، وها هو يعود إلى سجنه الوظيفي قانعاً خانعاً.

قبل نهاية الدوام وصلته رسالة على هاتفه النقال، يعلن فيها مطور عقاري عن مشروع جديد الدفعة الأولى فيه لا تزيد على خمسين ألفاً، والمشروع سيسلم بعد خمس سنين من الآن، وإن باب الاشتراك والشراء يفتح بعد أسبوع في مقر الشركة المذكور عنوانها في الرسالة الهاتفية، ولما أخبر زملاءه عن الرسالة قالوا:

هذا أبليس يلعب في عقلك يا بو عبد الله، لا تسمع كلامه..

لكن بو عبد الله بعد أسبوع كان يقف في الطابور للمرة الرابعة في حياته.