احتضار

احتضار

عزيزتي نوال…

لا أعرف تحديداً ما الذي جعلني أخصك برسالتي هذه.. ربما لأنني استعرضت الناس.. كل الناس الذين أعرفهم.. فلم أجد سواك.. ربما تستغربين هذا.. ولكن صدقيني.. كنت الوحيدة التي تلح على ذاكرتي.. تهطلين بقوة.. وتفترشين مساحات الذاكرة المتعبة.. لم أجد أحداً مثلك يغزو عقلي وقلبي.. شعرت برغبة قوية في أن أكتب لك.. أزعجني ذلك التراكم في أعماق نفسي.. وذلك الصخب الدائر في أروقة جروحي.. وحدك من يفهمني ويسافر معي بعيداً عن هنا…

هذا الأسبوع الثالث لي في المستشفى.. لقد صادرني المرض.. ودخلت في خانة الحالات الحرجة… لم يعد يفيد شيء.. كان يوماً مفجوعاً مثلي حين صدمني الطبيب الأجنبي:

غداً سنبتر الثدي!!

إنهم لا يعرفون كيف يدارون الحقيقة عن مرضاهم.. بصقها في وجهي مرة واحدة.. تبعثرت… انهارت حياتي.. وفجعت.. لم أقرأ في عينيه سوى لغة الحياد.. كنت أبحث في الوجوه صورة الرعب الذي سكن وجهي أنا.. أبحث عن عبارات عزاء أو مواساة.. كان عمري يركض بعيداً عني.. ينفلت رغماً عني.. وأنا أدور في دوامة الألم والقلق والخوف.. هل تعرفين معنى لهذا الخوف؟! الخوف من المجهول القادم!!..

وبتر الثدي…

وكانت ليلة.. كان الصمت فيها نعشاً من زمن منسي.. خارجاً من كهف الماضي العتيق.. صمت رهيب.. والظلام المتمدد كحفرة سوداء تفوح بروائح مختمرة.. كان السواد ينتشر كالمفجوع.. ينجذب نحو جسدي الخائر.. يلتف حوله.. ينسج دوائره المرعبة.. يكفنني كمومياء خرقاء هامدة.. كنت أشعر بالموت.. أحس به… أحس بأنفاسه وهو يفح في وجهي.. وهو يمر بأطيافه الثقيلة.. كان ينهمر فوق صدري بقسوة.. يصعد بأشواكه.. يتسلق شعابه ويمزق أوتاره وأعصابه المهترئة.. يلتحم مع القطع اللحمية الطرية.. يعجنه بالألم.. يعذبه.. يغرس أسياخه الملتهبة.. كنت أتعذب في وديانه ودهاليزه الخانقة.. أدلف معه في قنوات عروقي وأوردتي المنهكة.. كانت عروقي تتأوه وترتجف.. وأنا أترنح من شدة الألم…

استيقظت يدي المخدرة.. انتشلتها بصعوبة.. كانت تتلمس طريقها بخوف.. كنت متموجة… وكانت تتعثر.. زحفت أصابعي على تضاريس صدري.. أفزعني ذلك الانبساط المشوه. وفاجأتني الأرض اليباب.. حفرة كبيرة صامتة تثقب صدري الضعيف.

كم كانت الحقيقة قاتلة ومدمرة.. هرستني تلك الحقيقة الملموسة.. كنت أهوي إلى قاع سحيقة لا قرار لها.. ودوار يرجف برأسي.. يجتاحني كإعصار مجنون.. تيبست أصابعي وهي تلمس تلك اللفافات البيضاء.. كان كفن ثديي المبتور.. وصراخ هستيري ينمو ويتجذر في أعماقي.. وشيء يتمزق في داخلي.. يتفتت.. وأصابعي تصرّ على التقدم.. تزحف كدودة مسحوقة. يؤلمها الزحف على الشوك والحجر.. والانبساط يمتد ويتسع…

انطمست في دواخلي أشياء كثيرة.. صار صدري جثة جسد آخر.. صدر لا أنتمي إليه.. لا أعرفه.. جسد محروق ومشوّه يفقد ملامحه.. إنه جسم غريب يلتصق بي.. كنت مملوءة بالخوف والفزع… كان فزعاً متخماً.. اندلق من صدري المشحون.. انسكب على الأرضية الباردة.. امتد وصار سيلاً يجتاح العالم من حولي.. وليس حولي سوى الخواء والضياع.

  • كيف سأبدو؟

إنهم لا يفهمون معنى أن يبتر ثدي المرأة.. لا يدركون أنها بذلك تفقد الكينونة الخاصة. الهوية التي تميزها.. شيء يا نوال لا أعرف كنهه ضاع من داخلي.. صرت لا أميز نفسي… لا أعرفها.. شيء كالجرح المملح يحفر أخدوده العميق في روحي وأصلابي.. كان مؤلماً بالنسبة لي أن يلقى الثدي في مكب النفايات.. هنا.. لا يعترفون بتلك المشاعر التي نرتبط بها تجاه خصوصياتنا.. تجاه أشيائنا وما ينتمي إلينا.. كنت أريد أن أبكيه وأدفنه في مكان يحفظ له خصوصيته.. إنه جزء مني.. أن يلقى بجزء منك في سلة المهملات يعني أنك فقدت نفسك… هويتك.. أضعت ملامح روحك ومشاعرك.. صدقيني.. بعدها تفككت.. كنت أشعر أني أمشي بالمقلوب.. وأن اسمي صار يقرأ بحروف أبجدية أخرى.. كنت مهزومة ومجروحة يا نوال ولا شيء أكثر.

رغم أني كنت أحمل ثدياً مريضاً لا فائدة منه.. إلا أني كنت أتعزى بوجوده.. كنت أحمل هويتي وتاريخي.. كنت قريبة من الحياة رغم آلامي الشرسة.. لا أحد يدرك مشاعر المرأة التي بتر ثديها.. ولا يعلقون على الأمر سوى أنها محاولة للانفلات من التمدد السرطاني. لكنهم يتناسون ما هو أشد ضراوة وفتكاً من المرض.. حين تنكسر الروح وتهجع النفس.. حين تنهزم المرأة من داخلها… عندما تفقد المرأة ثديها فإنها تتراجع للوراء.. تنكمش وتتكور…. تفقد حاسة تذوق الحياة.. تتساوى الألوان في عينيها.. يتساوى عندها كل شيء.. النوم واليقظة.. الليل والنهار.. الموت والحياة.. تصبح أسيرة نفس مطحونة لا يمسكها عن التهاوي سوى الإيمان الذي يبلسم الجراح.. ورغم ذلك كنت أنزلق رغماً عني نحو القاع… كلما امتدت أصابعي المشتعلة بالخوف نحو ذلك الانبساط، ابتلعني شعور باليأس والخزي والعار.. أشعر كأني مكشوفة للآخرين هكذا بلا مواراة.. تؤلمني النظرات التي تنقص من أنوثتي وتسلبني ملامحي وخارطتي.. أنا امرأة بلا ملامح ولا خارطة ولا انتماء.

ربما تتساءلين باستغراب عن زوجي.. كان معي.. في كل مراحل العلاج كان هناك.. لم أشعر به.. لم أحس بوجوده.. صدقيني.. في زياراتي المتكررة للمستشفى كان بجواري.. يستمع لحديث الطبيب.. يناقشه في العلاج.. ولكني أبداً لم أشعر به… فجأة وهكذا دون مقدمات وجدته يسقط من حساباتي… كنت وحدي يا نوال.. كنت وحدي.

كنت قد سقطت من حسابه منذ ولجت دهليز المرض.. في أشد لحظات الألم عندما كنت أتلقى العلاج الكيميائي، كانت عيناي تجوبان المكان بحثاً عنه.. كنت متعطشة لرؤيته.. لو كان بقربي… لو أشعرني بحبه لي ربما كنت قد صارعت المرض.. إننا يا نوال نعيش من أجل من نحبهم.. عندما نشعر برغبتهم بوجودنا.. بأهمية وجودنا.. نستميت في البقاء.. نحارب الكون من أجلهم…

…. ولكني لم أجده… دارت أيامي للوراء.. غاصت أحلامي وتعرت الحقيقة كأبشع ما تكون. أدركت فجأة أني لم أكن الشيء الأول في حياته ولا الثاني ولا الثالث.. هكذا.. سنوات وأنا لا شيء.. سوى زوجة للوجاهة الاجتماعية.. عذر شرعي لاستجلاب تعاطف الناس والأهل معه هل تذكرين يا نوال ذلك الحب الذي كنت أحدثك عنه.. إنها أكذوبة كبرى.. فقاعة صابون سرعان ما تتلاشى وتتبخر.. أحياناً.. أوقن أن الله أراد أن أستيقظ من سباتي الذي أسدر فيه.. أي ظلمة كانت تغشاني فأتعامى عن الحقيقة؟؟ عندما بحثت عن صورتي في عينيه لم أجدها، بل وجدت امرأة أخرى لا تشبهني أبداً.. كنت يا عزيزتي طوال تلك السنين أتجرع من كأس الخديعة والكذب.. لم أكن أعنيه في شيء سوى ما يستلمه من راتب آخر الشهر.. وعندما تزوج.. لم أحتج لوقت طويل لأروّض نفسي المتعبة لهذه الحقيقة.. فكل الأشياء والشواهد تقول إنها من المسلّمات مع زوج له امرأة مثلي.. امرأة ناقصة.. وميتة بين الأحياء.. ولكن الذي آلمني هو التوقيت الصعب.. عندما تكون عاجزاً وكسيحاً فإنك لا تحتاج أن يدوسك الآخرون بنعالهم.. ولكن ما أكثر ما نفجع بالآخرين في المحطات الأخيرة!!

حتى الأهل والصديقات يا نوال.. لا أكذبك.. التف الجميع حولي… خففوا مصابي.. واسوني بعبارات المواساة والتصبير.. ولكنهم لم يشعروا بألمي.. بأوجاعي.. فرق بين أن يشعر بك الآخرون وبين أن يشفقوا عليك.

كانت رسائلهم ومكالماتهم تسرد تفاصيل الحياة التي يعيشونها.. يتزوجون.. يحبلون.. يلدون.. ينجحون.. إنهم يتحدثون عن الحياة وجمالها لمن سيموت بعد ساعة!!.. كنت أقف بمحاذاة الحياة والزمن.. أراه وهو يعبر أمامي.. يدور حولي.. أراقبه وهو يتمشى في الشوارع… في ضحكات الزوار وهمساتهم.. في بطن منتفخ لامرأة تنتظر مولودها الأول.. في نظرات زوج يمسك بيد زوجته الصغيرة.. في ركض الأطفال في ممرات المستشفى.. في وجوه الممرضات والطبيب وهم يتشوقون للعودة إلى بيوتهم.. صدقيني كنت أراه ولكني لم أجرؤ على ملامسته أبداً.. كنت بلا روح.. خاوية وحزينة يا نوال.

هل تعرفين يا نوال؟؟ لقد أعاد المرض تشكيل أفكاري وفلسفتي في الحياة.. نحن أبناء القدر… نسلك الدرب الذي يرسمه لنا حتى لو خيل لنا أنه اختيارنا.. لشد ما أحتقر هذه الحياة!!… عندما أخبروني بمرضي الشرس كانوا كمن ينعون موتي.. لا أحب أن أتهجى حروف هذا المرض.. تشعرين بشيء يشبه الأخطبوط يلتصق بحوافه اللزجة على جسدك.. يتمرغ بأحباره الزرقاء.. ويقضمك بشراهة.. لم يدع لي فرصة أن أحب الحياة.. أو أن أتمسك بخيوطها الواهنة.. صحيح أنني في كل مرحلة علاج كنت أحقق تقدماً، ولكني من الداخل أنكسر وأهجع وأشيخ.. وسرعان ما أعود إلى نقطة البدء.. النقطة الصعبة.. كان جسدي يفاجئهم في كل مرة بخلية سرطانية جديدة تتموج وتتمطى في مكان لم يتوقعوه.. كان يتحداهم.. يسخر من علاجهم الضعيف أمام جبروته وتسلّطه.. يمدّ بلسانه وهو يتبجح باستباحة جسدي الخائر. كنت في صراع مع هذا الوحش الكاسر.. ولكني قررت أن أستسلم.. لم أحاول أن أتشبث بالحياة… أشعر بها تنفلت من جوانبي.. تسيح وتتسرب من مسامات جسدي المنخور والمثقب…

كنت أسمع زوجي وهو يحادث أهلي.. توهم أني نائمة بفعل المخدر.. هل تعرفين ماذا سمعت؟؟ كانوا يرتبون أمر جنازتي.. يبحثون في تفاصيل دفني.. أي حب يحتفظ به هؤلاء لي؟؟.. أن تجدي نفسك يا نوال رخيصة في عيون من تحبين أمر مفجع وقاتل.. فعلامَ أتمسك برقاقة الأمل الواهية في الحياة؟؟ علامَ يا نوال؟ كنت أبكي نفسي الفقيرة والخاوية.. كنت أبكي بصمت مجروح.

لم يعد الأمر يهمني.. أنا هنا ملقاة في زمن الوحدة والغربة والوجع.. وهو يتسوق مع زوجته الحية.. يستمتع حتى في لحظاتي الأخيرة في هذه الحياة…

كل شيء يغيب بعيداً عني.. حتى أنت يا نوال.. عندما رحلت من هذه الدنيا كنت أظنني نسيتك.. ولكنك عدت لتستيقظي في أوردتي.. في خيالي.. في عقلي ووجداني.. رغم المسافات الشاسعة التي تفصلني عنك والزمن البعيد.. رغم اختلافاتنا وتعارض أفكارنا.. رغم كل الفوارق التي بيننا إلا أن شيئاً واحداً جمعنا يا نوال. شيء واحد.. إننا نموت بالطريقة ذاتها… نموت محزونين.. ومبتورين.. وغرباء..!!..

القصة الفائزة بجائزة غانم غباش الدورة الحادية عشرة 2004