عبد الحميد أحمد

المزبلة – عبد الحميد أحمد

تتركك أفكارك الآن أو لعلك تهجرها ليس لأنها لا تصلح أن تكون قصة، لكن لأن هناك قصة أهم هي نفسك، أنت نفسك قصة، قصة مريرة ضاحكة حزينة، قصة قصيرة طويلة، قصتك التي كانت وتكون والتي لم تنته بعد.
وليس مهماً من أين تبدأ وكيف تنتهي القصة، المهم هو أن تكتبها أو تكتب جزءاً منها وسيكتب الآخرون الأجزاء الأخرى، أما أنت فابدأ من “كسارة البندق” التي كانت تأتي عبر الجدران، والبيوت، عندئذ كانت تتكسر فوق الرؤوس كالبندق، قذائف وصواريخ وأطنان حارقة ولهب. الهول.

وروث بقر وصراخ وعويل وعمارات تتهاوى وعيون تسقط فوق الأسفلت وبطون تدلق وأنين وحشرجات ثم لا شيء إلا العماء والصمت. ثمة حطام ودخان يعلو ورائحة حرائق وأشلاء.. قد بدأ خلق. الهول.
وامتد وحيداً عبر الأزمان يقلب النظر حواليه، وأينما اتجهت العينان ليس إلا الذعر والخوف والموت والعظام الناتئة، ولم يكن في الجمجمة إلا الفراغ والتساؤل والدهشة العظيمة من الأسرار والطلاسم والألغاز على شكل البرق والرعد والمطر والشمس والحجارة والناس والخنافس.
كل شيء بدأ من هنا ولم ينته بعد، واللعنة كانت مقيمة منذ الماء فتمطت الخديعة الأولى وكانت كبرى الخدائع قاطبة، وها هي تفترش الكون مثل الهواء والعشب والرمال، كانت الخطأ الأول، وكان طفله الصغير الجميل نائماً وزوجته ما زالت نصف مستيقظة والليل عماء صموت إلا من هدير السيارات الزاحفة فوق الشارع كالحشرات، والقرف ينساب من خارج البيت ويقتحم الجدران الأسمنتية ليمتص من الطفل الدم الشهي الساخن ثم يرفع اللحاف عن الزوجة نصف النائمة ليكشف عن الجسد الحار ويتسلل من ثم إلى مخدعها الغارق في الدفء الكاذب ويمارس معها فعل الجنون والكآبة.
وأنت ترقب المنظر المرعب في ذل لم تعرفه إلا حين ارتفعت الأسعار ومعه ارتفع راتبك وتدهور سوق البترول فيما بعد وتعطلت وتبدلت نظرتك إلى البيت الذي كان في يوم ما حلماً من أحلامك وعشّاً لعصفورك ثم صار كالأشياء الأخرى كابوساً وخديعة وأكذوبة.
كان كل شيء ضده، فتش في جيوبه عن شيء، عن حقيقة، لا شيء إلا الخديعة تشاركه النوم والأكل والشرب، لا شيء إلا القرف المزمن والزمن الطيني اللزج الغارق في الديجور والعبودية.
“كسارة البندق” كانت موسيقى جميلة، والعرس كان مليئاً بالوجوه الضاحكة الحسنة والبلهاء، لكنه في اللحظة التي رفع فيها العريس الخمار عن وجه عروسه الحليبية انسحب أكثر أكثر إلى ذاته المظلمة كالبدء.. حكّ أعماقه الشرسة ليستخرج الجدوى والمستقبل، لم يكن هنالك إلا ريح تصفر بين الجدران اللحمية الخربة، حطام وأشلاء ودخان وحشرجات وسيقان مبتورة وبطون مندلقة على الأسفلت وامرأة تضع وليدها على الرصيف لتفاجئ الجميع بأنه وليد كهل غارق في الشيخوخة، وثمة بومة فوق عود يابس تنعق وغراب أسود اللون يقشر تفاحة فرنسية حلوة المأكل والمذاق، في الداخل منذ البدء الخديعة تكبر وتتمطى كاللبانة في فم قحبة، تنتشر إلى الخارج لتشكل الكون ولتصير هي الكون من جديد.
هي ليست قصته وحده، وليست قصتك وحدك، وحين حدَّث زوجته نصف النائمة ذات مرة ضحكت، فضحك حتى المرارة من غبائها المستتر وبصق في باطن يده ولطم مؤخرتها المتدحرجة ككرة البلاستيك ودخل الكهف من جديد يبحث عن الجدوى فلم يعثر إلا على الأكذوبة الأولى والخطأ البدئي الذي انسل في غفلة ذات يوم لا يبصر إلا نفسه كما انتشر كالطاعون في الكون ولوث الأشجار والهواء والماء والجبال والقرى والمدن، وصار خبزاً يومياً للناس البسطاء يأكلونه موتاً وجوعاً وظمأ وقهراً ، والأشلاء هذه المرة كانت منتشرة أمام ناظريه في كل مكان والدخان يصعد إلى السماء يحمل رائحة الجثث التي انبعثت قوية لتملأ أنف الدنيا النائمة على مخدة الأكاذيب والنسيان والجهل والخرافة الحقيقية، وسبحان الذي سيّر الغمام، لكن الغمام لا يحمل إلا الهباء، وتلك جملة أحد أجداده البلهاء ممن كانوا يركبون البحر ويرتادون آفاق المستحيل والخطر بحثاً عن الرغيف، ألم تبدأ الخديعة في الظهور والتفجر منذ رحلة البحث الأول عن الرغيف؟
وكانت “كسارة البندق” ما زالت تأتي عبر الجدران صادحة والدماء كذلك لطخت جدران المدينة الثائرة وسربلت الوجوه العنيدة الباحثة عن حياة لأطفالها الذين يولدون كباراً يحملون كلاشينكوفاتهم، لكن لم يهزك الخروج الكبير، بل إنك قلت لطفلك الصغير الجميل :
“يا ولدي إنه الخروج للدخول من جديد، للدخول ليس في أرض، بل في الحياة كلها”. وخرج مع الخارجين، رغم أنك كنت أمام التلفاز مسمراً كالخشبة الميتة، عيناك ليس فيهما إلا الدمع والذهول والقسوة والعناد، جرت الأمور وتجري وأنت تصحو شيئاً فشيئاً من الذهول الأخرس الذي أحاط بك مثل اللزوجة والطمي وحاصرك كما تحاصرك الجهات الأربع، وخرجت من ثم مع الخارجين عن ذاتك، ووقفت على حافة البحر الواسع ولم تر شيئاً إلا نجمة وحيدة تبرق من بعيد ، ولما رفع يده ليقطفها هدية لطفله كاد الشال المبرقش أن يسقط من فوق كتفيه.
هربت، وقالت في دلال ساحر سرمدي النبرة والجرس: “لم يحن وقت قطافي”. وضحك منه الأصدقاء، إذ حدثهم عن النجمة، لكن شاباً يضع على عينيه نظارة صغيرة مستديرة قال إن أحد أجداده، وكان ذا لحية كثة خالطها بعض الخيوط من الشعر الأبيض الوقور، وكان فقيراً معدماً، قال إن جده هذا تنبأ ذات مرة بالانقسامات، وسألوه في عجب: الانقسامات! قال جدي هذا إن العالم سينقسم وينقسم وينقسم حتى لا يبقى هناك إلا اثنان يتحاربان وأحدهما منتصر لا محالة بعد أن يشبع الآخر عفونة وتصدعاً وتفسخاً، أمسك رأسه وأطرق ملياً ثم قال بصوت قوي لا أثر فيه إلا للوعد، قال يا ولدي: أنت المنتصر ، عليك منذ الآن اجتياز الحريق، اجتياز المزبلة، لكن زوجته ضحكت حين أخبرها بعد أن عاد من عند أصدقائه بالنبوءة مكشرة عن أسنان صفراء كأنها الكتب الصفراء والعالم الأصفر الميت فداخلته المرارة للغباء البشري المستفحل كالوباء، لكنه طمأن قلبه الصلد وقال : كلا .. نحن جميعاً أبناء خديعة واحدة.
ثم خرج ملبياً طلبها ليشتري البامبرز والحليب لطفله والكوتكس لها، ورأى من جديد الجثث والأطفال الجياع دون قطرة ماء واللهب الحامي ينصب فوق الرؤوس ويحرق الأجساد العارية والنساء الصارخات اللاطمات كأن جهنم كانت مقيمة هنا بينما الجنة كانت مملوءة بهم بعد أن خلقوها لأنفسهم ينعمون بالطاس والكأس وأكل الهريس والثريد واللحم المشوي والثياب الرافلة والأسرّة الناعمة والعيون الكحيلة والضفائر المحشية بالطيوب والأرائك التي فوقها يضطجعون كما تضطجع الجواميس على حواف الماء تأكل العشب وتتبرز فاتحة فمها للهواء والذباب وعيونها للفضاء دون تساؤل أو دهشة: لماذا وكيف وإلى متى؟ يأكلون الخديعة أو الخديعة تأكلهم منذ الماء الأول، ولولا بقية من حياة – أدرك فيما بعد أنها من رواسب الأكذوبة ليس إلا – لفتح أنبوبه السفلي وصب سائله الحار فوق الوجوه ليغرقها كما أغرقوه وبني جلدته في العذاب والعناء أبد الآبدين، لكنه أغلق الجهاز المثرثر وخرج، وفي خروجه كاد يقع متذكراً حديث أحدهم، إذ كان في جلسة أنس كاذب : هل تصدقون ما ترون وتسمعون؟ الحياة كلها ليست إلا بصقة بصقها أحدهم ذات يوم وتركها ومشى تاركاً الناس يتخبطون في وحلها، وبصقت أنت بدورك أيضاً ودست على البصقة في غضب بعد أن توحلت طويلاً فيها، واستفحلت تحت جفنيك الأكاذيب، حتى صرت ترى الأشياء على غير واقعها وصدقها ولولا النجمة التي أعطته وعداً بقطافها الشهي حين يأتي أوان القطاف لحفر لنفسه لحداً في بطن الصحراء الهجيرية وهال الرمل فوق جثته ومات، وأوان القطاف ليس إلا بعد الانقسامات حتى الانقسامين العظيمين اللذين لا ثالث لهما والنصر حليف أحدهما شاءت الهوام والدواب والجواميس أم أبت، وما بين هذه الحقب الحرائق والدمار والركام والجثث والقنابل والفانتوم والبدع العجيبة وآلات الفتك وحبوب الفاليوم وأرطال الحشيش وزجاجات الجوني ووكر ولحم النساء الحار اللذيذ والجوع والعطش والبرد والحر والعذاب والبكاء والعناء والكوتكس والحلم أيضاً..
ورفع رأسه وشرب قطرة شاي أسود وجلس مطرقاً في صمت عظيم، وقال محدثاً نفسه : حقاً، إنها ليست قصتي وحدي، إنها ليست قصتك وحدك، إنها قصة مريرة طويلة مشبعة بالأحداث والهول، مثقلة بالعناء والتعب الممتد عبر الأزمنة، الأمس واليوم وغداً، لكن الماء الذي كان يتشوف له كان ممسوكاً في الغيم الأسود الجبار الذي غطى سفوح السماء وانتشر كالعباءة القاتمة فوق الأرض ولما هطل المطر بعد طول انتظار مقيت دامٍ وعصيب كانت بركة صافية من الماء الشفيف قد تكونت على مقربة أمتار منه في عقر داره، كانت “كسارة البندق” قد توقفت عن الانسياب البطيء والعرس انتهى لحنه ومزاميره، وأردت أن تهم بالاقتراب لتكرع كرعة سكرى من الماء العذب الزلال بعد أن جفَّ حلقك وامتلأ بالملح والرماد، لكن وجد أمامه مزبلة كاملة وزنها آلاف آلاف السنوات القاحلة والظامئة والضائعة وحجمها آلاف الأكاذيب والأحابيل والخدائع والمؤامرات، أدرك أنه كي يصل إلى حدّ الماء الأول عليه اجتياز هذه المزبلة العظيمة، وليس ثمة طريق آخر، لكنك اندهشت كيف أمكن للمزبلة هذه أن تتسلل إلى عقر دارك لتفترش الأرض، وتماماً توقفت “”كسارة البندق”، لكن الحطام ما زال هنا، والدخان ما زال هنا، والتوجع والأنين ما زال هنا، أدركت أنك واقع ومتورط كالآخرين في لب الأكذوبة المحبوكة الصياغة والصنعة.
ولم يكن ثمة مجال إلا الصهيل والزمجرة والقعقعة لتسمع الدنيا بأنك آتٍ، عابر المزبلة التاريخية لتصل إلى حافة الماء، وأنها ليست قصة عادية تخصك وحدك وليست قصته وحده، وما دام أنه قد كتبها من “كسارة البندق” فالآخرون سيكتبون حتماً الأجزاء الأخرى وسيكون واضحاً جداً كيف يمكن أن تنهيها نهاية يرضى بها النقاد والأدباء والمحررون الثقافيون في الصحف والمجلات، ثم قام من إطراقته الرهيبة وخلع ثيابه بينما زوجته تقف مشدوهة من فعلته، وعارياً تماماً مشى، بدأ يسير صوب المزبلة تماماً أما زوجته فمشت نصف المسافة ثم توقفت وحبلت وولدت طفلها الثاني وكان مستيقظاً لما وصل هو إلى بداية الاختراق الكبير للمزبلة، وهنا كان لا بد من التوقف وإمساك القلم المتوفز المنساب على الورق كاتباً فاضحاً باكياً، وكان لا بد أن تكون نهاية القصة هنا، وإلا فجميع ورق الأرض لن يكفي للانتهاء منها، لأنها ليست قصته وحده، أو قصتك وحدك رغم أنها قصة مريرة طويلة قصيرة، قصة كانت وتكون ولم تنته بعد ما دام الحلم يأتي متدفقاً كالشلال.