بعد عناء يوم طويل حافل بالمهام والتكليفات التي أرقت القلب قبل العقل وبعثت الملل في الأوردة، مهام تصب في قالب الروتين القاتل لكل أشرعة الإبداع، وتكاليف تحطم أجنحة التميز، أعود مسرعة لغرفتي، استرخي فوق سريري الحنون، احتضن وسادتي الرؤوم، أمدد رجليَّ المتورمتين بكسل، تتمدد رجلي تارة وتنكمش أخرى، وكأنها تنفض عناء اليوم الطويل، أغمض عينيَّ عسى أحظى بغفوة لذيذة تنسيني أحداث يومي المضني، بتفاصيله المملة، وأوزاره التي يكفيني منها أنني عشت أحداثها وأنا أبتلع غضبي وأغمض عيني لكي أتعامى عن كل ما حولي، أرافق التجاهل تارة، وأصاحب الصمت تارة أخرى، سياستي المسايرة متحاشية الخوض في أي نوع من أنواع الجدل العقيم، أبحر في بحر السكون وأنشد الهدوء، أتعبتني أمواج اختلاف وجهات النظر التي تولد الجدال الشائك، فيعلو صوت العاطفة على صوت العقل، جدال لن يغير الواقع، غير أنه يفتح نوافذ لتهب رياح الغضب التي تتلاعب بنا، وتولد العداء في النفوس، ثم تقذف بنا إلى أرصفة الضغينة، تمتد رجلي في انبساط شيئاً فشيئاً، أغيب عن عالمي المادي، أغط، أسبح في عالم آخر، عالم تستيقظ ذاكرتي البعيدة المدى على نبضه، تمارس هوايتها باحترافٍ عجيب، تنبش في الدفاتر القديمة، تقلب الصفحات، تعود للوراء تقلب الصفحة السابعة عشرة فتلوح أمام عيني صوري، تختلف الألوان والإطارات ولكن لون التجدد والحيوية هو المهيمن، جميل محيّاي، عيناي براقتان تبرق فيهما البراءة، يعلوهما حاجبان تقوسا كحرف النون، ليبرزا ملامح الجمال الإماراتي بقولهم «حواجب مقرونة كهلال»، ترتسم الفرحة على شفتي، شمسنا الدافئة لونت بشرتي بحمرة خفيفة، شعري الأسود عقد كذيل حصان أصيل، أجمل الصور هي التي تعكس جمالنا الداخلي فينطبع جمالنا على وجوهنا، تسير ذاكرتي نحو الداخل فتلوح أمامي صورة العشرينيات الجميلة الزاهية، أزهو بجمالي الزهري وشذاي العطري، أتمايل كغصن فتان، أتضوع كزهر السوسن، ها هي صورتي صورة الأنثى الفاتنة، ابتسامتي العذبة تظهر شقاوة العشرين في عيني اللتين تتلألآن فرحاً وحيوية، أخطو كطاووس مزهو بجماله، كخرير ماء هامس، يعزف ألحان الصفاء، صورة أخرى تلوح، إنها صورة الثلاثين، صورة الأنثى الحالمة بالعاطفة، بالأمومة، تتخايل أمامي صورتي وشعري السرمدي الذي يتطاير كريح الشمال، ثم ينبسط على كتفيّ، ابتسامتي محملة بالأمنيات الحلوة، شيئاً فشيئاً تكتمل الصورة وما تلبث أن تكتمل حتى تغادرني سريعاً بلا رجعة، لتظهر صورة أخرى، صورة باهتة إطارها عتيق، صورة اصطبغت بالضبابية، ملامحها كئيبة، عيوني تمطر أسئلة ملحّة، شفتاي حُبليان بعلامات الاستفهام، صورة مشوشة حافلة بالتعرجات.
صوت العقل يطرق مسامعي، لسان الحكمة يؤنبني: هيا، خالفيهم الرأي، سيري عكس رياحهم الجارفة، وافقي، ستتبدل ألوان حياتك، وابل الفرح سيروي أراضيك القاحلة، هيا وافقي لينبت العشب وليورق الغصن، لتسعدي بالاخضرار، بموافقتك سيلوح البشر في سمائك، مع قدوم باكورة نتاجك، مع بكاء المولود الأول ستنعمين بدفء الأمومة، ستجرين في بحور العاطفة الصادقة، ستحلقين في عوالم الحنان، وافقي قبل أن يؤول نجمك إلى الأفول، وقبل أن تحصدي الندامة، (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) سيكون حصنك الحصين، سيقيك صقيع الوحدة وسيبدد عواصف الخوف، سيرد عنك أعاصير الغربة، سيشاركك فرحك، سيفتت أشباح عنوسة تجثم على صدرك، سيواريك بين جنبات قلبه.
لماذا تكابرين؟ هيا وافقي، ألم يشرع البارئ في كتابه مثنى وثلاث ورباع؟!
تُقبل الخمسون، تغيب الشمس، تحبسني الوحدة بين دهاليزها، تعصرني الحسرات بين كفيها القاسيتين، يبتلع الزمن أمنياتي، أيامي جفاف يابسات، وسنواتي قحط، لا أخضر يروي وريقات عمري يوماً، دنياي لم تنفرج ولا أثمرت أغصان أمومتي، ضيعت الغرس فحرمت القطف، في وكر الوحدة الجائر أصارع هماً يبث سمومه بين أوردتي، لأنحصر في زاوية أحادية، وآه من الزوايا؟!
ضيعت نفسي كالتينة الحمقاء، غدوت إمّعةً يوم سمحت لهم أن يرسموا حياتي، انصعت لهم فشكلوني كالطين وكالصلصال، أعدوا اختباراً لكل متقدم والفائز من يجتازه بمهارة، تفننوا في تقييم الخُطَّاب، وبرعوا في تبرير رفضهم، ينخلونهم بمنخل قاسٍ ينقبون في ماضيهم، ويستحقرون حاضرهم، ليتنبأوا بمستقبلهم، إنهم يأكلون وأنا أضرس، ها هي الصورة تكتمل، تغطيها ضبابية تحجب ملامحها الغابرة، لا يصلح العطار ما أفسد الدهر، تسرب شبابي من بين يدي، غلفت أمومتي بالشمع الأحمر، رحل شبابي، بقيت الحسرة تنخر عظامي كسوس متطفل، أحزاني تلتف بي، توجعني، تطوي فرحي، وساوس الخوف تسربلني، تنشر ثوب العنوسة لتلف به جسدي، تلوح صور مخيفة فيها بعض من ملامحي التي غلفت بالقدم بالكبر، تمكن البياض مني فغدا كحلوى المنفوش التي نستمتع بأكلها، لماذا لم يعد البياض يروق لي؟! التجاعيد استوطنت وجهي، جراح القلب راعفة، أمنياتي سراب، وأحلامي أضغاث، ليتها تصرخ بداخلي يدوي صوتها يتغلغل نحو العمق، يؤرقني، تعاجلني بحربتها: ليتك لم تستمعي لكلامهم وآرائهم العقيمة!!
تقبل (لو) بخيلاء وعلى شفتيها ابتسامة سخرية، تردد: لو لم تستمعي لكلامهم لكنت اليوم ملكة في مملكتك، لو وافقت لسعدت، لو غرست لحصدت، لو تنازلت لكنت اليوم زوجاً وأماً.
«آه» وحدها القادرة على تخفيف وجعي الممتد كامتداد أرخبيل جزري اللامحدود، «آه» يتبخر معها حزني!
ميري تعرف دوائي، تعرف متى يهدأ ذاك البركان الثائر في نفسي كسيل يقتلع كل شيء أمامه، ذاك البركان الذي يفور كتنور شرره مجنون يأكل الأخضر واليابس، ميري تعرف كيف تتعامل مع هذه النار، تتوارى وتنسحب حتى أهدأ.
تسقيني الصمت، فلا تجادلني، تمتنع عن مواساتي على يقين هي بأن هناك جروحاً بلسمها الصمت، والوقت كفيل بأن يبري جراحها، ميري عاشت المأساة ذاتها حين لم يستطع والداها أن يقدما مهراً لخطابها، تقاليد غبية، زجت بنفسها للعمل في البلاد الخليجية لتهدي خطيبها مهرها، الصور تتوالى من سيّئ لأسوأ، ألوانها غير واضحة، خطوطها مشوشة فقيرة من الشخوص، تعرجاتها تزداد، المأساة تتسع والأمل يتضاءل، الفرص نادرة والخيارات صعبة، إما مطلق أو أرمل، والمتاح متزوج، والحسنة أصغر سناً، آه ما أقسى القدر حين تكون أفراحنا مرهونة بخيارات صعبة أحلاها مر كالعلقم، وأمرُّها حنظل!! أين هم من تصدروا الزعامة في بث آرائهم؟! الآن من منهم يستطيع أن يطلي لوحة حياتي بفرشاة الزهر؟ كم كنت غبية حمقاء حين صدقتهم واستمعت لهم، مر عمري كطيف، كحلم مضت السنوات سراعاً، وأنا بين عنوسة جبرية ووحدة أبدية، غدي أغبر، تنتظرني سنوات عجاف، بعد أيام سأحال للتقاعد وسأقضي عمري بين الأركان الأربعة والتي ترتسم على جدرانها طلاسم ألمي فتبدو تعيسة باهتة اللون ملمسها أقرب للخشونة، تلك الجدران التي فقدت رونقها تشبهني كثيراً، لا ترميم ينفعها، ولا
كولاجين يجدد شبابها، لماذا أصبح كل الناس أعدائي حتى مرآتي الصادقة؟ أصبحت أكن لها العداء، أولي هاربة منها؟ لماذا فقدت صداقتي معها؟ لماذا صرت أخشاها، أخافها؟!
لأنها تصورني بصدق لا تخدعني، تهمس لي: عجوز ما عدت أرغب بالنظر فيها، تفضحني، تبرز الخطين اللذين أخذا في البروز، تعكس صورة ذاك الأبيض الذي أخذ يستعمرني فسيحقني بانتصاراته، ليذيقني ويلات هزائم، حربي معه كحرب البسوس نارها تضطرم، لا فكاك منها، لم تعد تخلصني منه صبغة ولا حناء، لقد تأصل بين جنبات شعري حتى فقدت الأصباغ مقاومته، استسلمت له مرددة: «عيرتني بالشيب وهو وقار».
لماذا غدت التواريخ تؤرقني، وكأنها مطارق فوق رأسي؟!
كل شيء يشعرني بوحدتي، آهات وآهات ترافقني في سريري، في صحوتي وفي حلمي، ألتحف الهمَّ وأتوسد الحزن، شبح العنوسة يحوم كطائر يبحث عن ثأره، يموج يهدر بي: أنثى عانس عقيم لا تعرف معنى السعادة، ولم تتمايل على همسات زوج، ولم تتراقص على أوتار الدلال، الدنيا التي أذاقتني أفاويق الفرح في شبابي تغدو اليوم حزناً، مشرط تساؤلاتهم يقطعني، كلماتهم ميسم يكوي جسدي، تقرع أذني كلماتهم ما من جديد؟! لمَ تأخر زواجك؟
طرقات الباب تزداد
هند هند.. افتحي الباب
الساعة التاسعة
تأخرت كثيراً في نومك
ما الأمر؟
تزداد الطرقات
صوت أمي يوقظني من هذا الحلم الغاشم، أفتح عيني، أين أنا؟ ومن تلك التي ألمح؟ صورتي أنا في الخمسين؟ هل هذه أنا أم امرأة لها بعض ملامحي؟
تزداد طرقات الباب
أفتح عيني، أنهض لفتح الباب
يعاجلني صوت أمي ينادني:
هند هند
الساعة السابعة لقد تأخرت كثيراً في النوم، استيقظي
أفيقُ من حلمي
أين أنا؟ أين تلك الصورة؟
من صاحبة الصورة الأخيرة؟
صوت أمي يعيدني لواقعي
هند ابنتي ما بك؟ أأنت مريضة؟
لم الشحوب ينطبع على وجهك؟
دقائق مرت وكأنها دهر
أين أنا؟
أكنت أحلم، أم هذيان حمى؟
أتأمل كل ما حولي، إنها غرفتي، هو سريري
أنا بخير يا أمي لا تقلقي
يومي كان مرهقاً، فغرقت في النوم دون أن أشعر
أتنفس بعمق، أطرد الوساوس من رأسي
أذن أمي ترتقب إجابة
وجهها تكسوه حيرة وقلق
لا أجهل أسبابها
أمنحها ردي عن قناعة:
موافقة يا أمي، لا ضير كوني الزوجة الثانية
تحاول أن تخفي ابتسامة الرضا تكشفها عيناها
خيراً يا ابنتي
ولا نعلم أين الخير.
أنهض من سريري أرفع يدي إلى السماء: حمداً لك يا ربي أن ألهمتني قدرة اتخاذ القرار
شكراً لك أيها الحلم
نظفت عقلي من أوهام أوشكت أن تلوثه
حررتني من قيود تقاليد بالية، ومن أساطير بالية
زواجك برجل متزوج جريمة!!
لم تحرمه الشريعة، فلماذا؟؟؟
بعد أيام سأطير كحمامة بيضاء، بزواجي سترفرف أجنحة السعادة في سمائي، سأودع التعاسة دون رجعة….