في حدود ما أتيح لي أن أطّلع عليه، فإن الوقوف على ما في الإنتاج القصصي في الإمارات العربية المتحدة قبل ثمانينات القرن العشرين لن يكون إلا من قبيل التأرخة الأدبية التي ليست مما أهدف إليه في هذا البحث. ولذلك فإن الإنتاج القصصي المعني في الثمانينات هو ما سأحاول درس جماليته، حيث تتبدى النقلة السريعة والحاسمة – وربما المباغتة – إلى التجنّس والارتسام بقوة وجدارة في المشهد القصصي العربي. ويهمني هنا أن أشير إلى ما يورده مؤرخ الأدب من غلبة الشعر والمقالة، مقابل ندرة القصة – بالأحرى: مهادها – في الدوريات الخليجية الأولى بعامة. كذلك تأخر ظهور الصحافة والقصة في الإمارات، مما عنى أن الريادة قد تأخرت عقوداً عنها في أقطار عربية أخرى عديدة، ومما قد يعني أن هذا الإنتاج القصصي كأنما هو بلا رواد في بقعته العربية(1). فأنْ يعود الأمر إلى السبعينات قد يعني تداخل الأصوات والأجيال أكثر مما يعني مؤسسين ومتابعين. ولئن صحّ ذلك أو قدر منه، فإن الإحالة تكون على القصة العربية بعامة، وعلى المشهد القصصي العربي في ثمانيناته خاصة، سواء منها إنتاج الكتاب السابقين – ومنهم المؤسس – أو اللاحقين. ولسوف يلتفت هذا البحث إلى ذلك ما أمكن، كلما دعت الضرورة.
كما يهمني بدايةً أن أكرر الإشارة إلى شبه جمالية القصة بالرمال المتحركة(2). ولا بأس من الاستطراد إلى أن جمالية الأدب والفن بعامة قد تكون كذلك. ولكن هذا الشبه لا ينبغي أن يكون ذريعة للقصور في التحليل، ولا حائلاً أمام الدرس والاستنتاج والاعتبار. فعلى النقد أن يحلل ويركب، وإن كان ذلك سوف يؤذي إجرائياً الجمالية، ويصل به في المآل إلى حصيلة خلافية، قد يكون فيها ما هو صالح لزمن أطول، وقد يطرأ في النقد، وفي الإنتاج أصلاً، ما يتجاوزه أو ينقضه أو يبدّله، وليس وفي وهمي أن هذا البحث في منجاة من ذلك.
ولئن كان درس الجمالية في القصة ينطلق أو يتأهل في درس فنيتها أو تقنيتها – فكل يؤثر اسماً للمسمّى عينه – فإن الوقوف بالجمالية ها هنا، يهيكلها، يفقدها رواءها، يبخّسها ويعطّلها أياً كان المنهج المتبع. فهذا المنتج – بالفتح – الإنساني الذي اسمه القصة، مثله مثل غيره من المبدّعات، مثله مثل منتجه، كائن اجتماعي وثقافي وحضاري، فيه مكابدة وموقف ونظر وبشر وعلاقات وفضاء، فيه نسغ التاريخ بدءاً أو انتهاءً بالراهن الاجتماعي أو السياسي والذاكرة الجماعية أو الفردية وإيقاع الفنون الأخرى.. مما لا يفي بحقه أن يجري درس عنصر من عناصر تقنيته. فلا السارد وحده، ولا المسرود، ولا وسائل الخداع السردية أو الفعل أو النشاط التخييلي أو اللغوي أو الدلالي ينتج قصة، بل جملة ذلك وجدله وتخلقه في كيانه الحي – المقروء – هو ما يجنّسه بالقصة. وفي هدي من ذلك وما سبقه سوف يفصّل هذا البحث في عناصر القص في الإنتاج المعني بالقدر الذي يؤهله بعد ذلك – وخلال ذلك – إلى النظر فيه وإليه، كما هو، قبل وبعد أية قراءة أو أي نقد، كائناً جميلاً.
القصّ:
ثمة من يقول: الحكي، بدلاً من القصّ. الحكي نسبةً إلى الحكاية وليس إلى الكلام بإطلاق. ولا أنكر أنني ممن يغويني ذلك. فالحكي نشاط بشري أساسي، ابتدأ شفوياً مع الاجتماع البشري، ولم تلغه الكتابة. والحكي الشفوي تخييلي وإمتاعي وتعليمي أحياناً، وفعل فني ما وممارسة جمالية ما، في الإنتاج وفي التلقي. تراه إذن – في غفلة أو في إدراك – شرط ملازم للإنسان؟
في النقلة من الشفوي إلى المكتوب، وبخاصة من الجماعي – أو الشعبي الشفوي إلى المكتوب الفردي – تلبّس الحكي بلبوس جديد منعوت بالقصّ، وصارت الحكاية – والخرافة والأسطورة أيضاً – تتلبس بهذا اللبوس: قصة.
هذه النقلة في تراثنا الأدبي العربي اختلط فيها الخبر بالنادرة، وكانت في أسّ المقامة والسيرة والرحلة، ومثلما كانت الكتابة والمتغيرات الحضارية فاعلاً أساسياً نحو ذلك، كان المعيش واليومي والراهن.
ثمة من ينعت هذا التجلّي الجديد للحكي في التراث الأدبي العربي بالقصّ الرسمي – توفيق بكار، شكري عباد.. – وتجدر الإشارة هنا إلى جديد البحث في هذا التراث، من هذه الزاوية، حيث العناية الأكبر والأدق بحكي وقصّ العيارين والشطار والمكدين والوعاظ(3)، وليس فقط بما خلف الجاحظ أو التوحيدي أو ابن بطوطة أو الهمداني…
الحكي أنتج الحكاية، والقص أنتج القصة، وقائمة الاصطلاحات النقدية تترى من بعد بتعدد المناهج وتراكم الجهود وتعاقب الزمن: العناصر الحكائية، المقومات الفنية، أدوات اللعب، مفردات التقنية، السرد، السارد، المسرود، المسرود له، الحوار، الفعل أو الحدث، الفاعل أو الشخصية، الفضاء أو المكان، الزمن، الرؤية أو الموقف، الدلالة، الحبكة، المتعة، الأثر.. ودوماً: الأدبية أو الجمالية، وبالطبع لست في مقام الحصر ولا الجرد.
لا تخفى الدلالة المركزية في القائمة الخصيبة على ضرورات بعينها كي تكون الكتابة قصة. فالكتابة التي ينتفي منها الفعل والفاعل والفضاء والسرد، قد تكون خاطرة أو نجوى أو نثيرة – كما يفضل بعضهم للشعر المنثور – أو نصّاً بإطلاق، له جماليته الخاصة، ولكنه ليس قصة، وإنْ أصّر صاحبه على أن يعنونه بذلك. كما أن اجتماع تلك الضرورات – ولست أميل هنا إلى التحديد الرياضي – لا يعني ميكانيكياً إنتاج قصة. فالجمالية هي النسيج، في اللغة أو التخييل أو الإشعاع الدلالي أو الحوار أو المكنونات النفسية للإنسان وربما المكان… ولا مقام على كل حال للادعاء بالقول الفصل في أيّ من هذه الأمور، شأن سائر ما يتصل بالأجناس الأدبية وأنواع الفنون والمسار التاريخي للإبداع وإمكاناته وآفاقه.
لقد فتّق القول النقدي وطوره دفق الإنتاج القصصي منذ تجنّس في القرن الماضي، فضلاً عن كنوز التراث الشفوي. وبالنسبة للناقد العربي، ينبغي إضافة أمر المثاقفة، بسلبه وإيجابه، منذ الرواد إلى اليوم، في غمرة ما يعصف على كل مستوى، منذ مطلع هذا القرن على الأقل، وأشد عصفاً في نهايته.
تلك هي النقلة القصصية التي أرمّز لها بالتامرية – نسبة إلى زكريا تامر – في ستينات وسبعينات المشهد القصصي العربي، قد اقتضت خطاباً نقدياً آخر، غير ما اقتضته النقلة السابقة مع عبد السلام العجيلي وسعيد حورانية ويحيى حقي ويوسف إدريس… وهذه هي النقلة الجديدة بعد التامرية، مع إبراهيم أصلان وعبده جبير وإلياس خوري وإميل حبيبي… قد اقتضت خطاباً نقدياً جديداً، ينهض على ما أنجز النقد الأدبي العربي، وعلى (فورة) المناهج النقدية الحديثة في مراكز الآخر العربي.
يعتور النقلة النقدية الأخيرة من الرطانة ما يعتورها، كما الأمر في النقلة القصصية، خاصة ما يرفع من هذه وتلك يافطة الحداثة والتحديث والتجريب. وفي معاينة ذلك والاعتبار به تنتهي هذه الإشارة إلى ما بين الإنتاج القصصي ونقده، وينفتح السؤال بجلاء أكبر وجدية أكبر، من عموم المشهد القصصي العربي اليوم إلى إنتاج بعينه لكاتب أو لجملة من الكتاب. فأي خطاب نقدي يقتضيه إنتاج عبد الحميد أحمد ومريم جمعة الفرج وسلمى مطر سيف ومحمد حسن الحربي وأمينة أبو شهاب على سبيل المثال؟ أي خطاب نقدي يحاور هذا الإنتاج بالأحرى، كما ينبغي للنقد أن يفعل، فلا يجافي الإنتاج أو يتعالم عليه، كما لا يتطامن أمامه، فيَفيد ويُفيد.
الصدى المتأخر للبدايات:
في الإشارة المبكرة إلى الريادة والرواد والمهاد والعمر القصير للتجربة القصصية في الإمارات تأتي بعض النصوص التي تتصادى فيها البدايات التي عاشتها القصة العربية. ومن ذلك أعد (الرحيل) لشيخة الناخي، (أحلام طفلة) لصالحة غابش، (الأمية) لعبد الله صقر.. ويأتي في مثل هذه النصوص صدى أبكر تلك اللحظات وأوفرها سذاجة. فما كتب علي عبيد علي تحت عنوان (ضحية الطمع) أقرب إلى فذلكة اجتماعية في غلاء المهور. وما كتب علي محمد راشد تحت عنوان (الباحثون عن لا شيء) أقرب إلى الخواطر في التدخين وأذيته وتكالب الناس عليه، وما كتب سارة النواف تحت عنوان (مفاجأة) أقرب إلى مقالة حول المرأة، على الرغم من الحبكة الساذجة والطريقة حين تكتشف سلمى أن من ستقابل صديقتها هو زوجها هي، والذي يفرض عليها الحجاب.
في نصوص أخرى يأتي صدى لحظة أخرى للبدايات. فهذه البدايات لم تنجز دفعة واحدة. وقد اقتضت عشرات السنين. ولأن الأمر على ما هو عليه في الإنتاج المعني، ترى مثلاً لعلي محمد راشد نفسه خطوة أجدر نحو القصة فيما كتب تحت عنوان (رجال في محنة)، حيث بعض العناية بالشخصية القصصية الخليجية الكبرى قبل المنعطف النفطي، شخصية النوخده الذي يقود الغواصين ويقضي في واحدة من رحلاته البحرية. إلا أن الاحتفاء بالصراع الطبقي وجهارة الخطاب ونبله، أثقل السرد ورهّل البنيان. ومثل خطوة الراشد تأتي خطوة عبد الرضا السجواني في (لقمة العيش)، حيث المبالغة – في المطلع الحواري – في تصوير فرحة الفتى علي بالوظيفة العتيدة، وحيث الحرص على حشر المعلومة تلو المعلومة عن الأب وموته. وليس الأمر بأفضل في (باقة ورد) لسعيد سالم الحنكي، حيث سطوة السارد – فضلاً عن نرجسيته – وذكورية المتكلم، المحب لزميلته في الوظيفة، والذي لا يجد غير السكر مع صاحبه وهو يتوعد المدير. فالمدير يراود الحبيبة، والحبيب يحضها على المقاومة، والمغادرة، والحبيبة مشدودة إلى لقمة العيش والأم التي تعيل، ولكن الحبيبة ترضخ بغتة للمدير، تم تنتحر تاركة وصيتها بأمها واعترافها للحبيب، وكل ذلك يساق فيما يشبه التركيبة المنفلوطية للقصة. على أن الحنكي نفسه خطا خطوة أجدر في (إلى عبد الله الصغير.. وصية)، هو ما رأينا مع الراشد، وما نرى مع إبراهيم مبارك في (عائد إلى الجنوب)، حيث التعويل على محمول السرد مما يتصل بالمقاومة في الجنوب اللبناني، بينما تكبر العناية بالسرد نفسه في (قبر الولي) على الرغم من المفارقة الساخرة الهجائية التي ترتسم بين قداسة المزار ومخبوئه وتحول قبر خادمه إلى ولي جديد. فقد سيقت هذه المفارقة بسذاجة لم تستطع أن تتابع محمول الذاكرة والتذكر من حكايات الجدة والشيخ الذي يخدم الولي والمكان – شجرة الأثل والنخلات العشر التي تسورها في دائرة – وحركة النذور.. فتأرجح السرد وعرج به المسار.
لقد فعل محمول الذاكرة والتذكر العكس في (خطوط على جدار الزمن) لخليفة شاهين، حيث فجر السجن التداعي الذي تمحور حول المرأة. وهنا يطلع رجع آخر للبدايات في ذلك الترميز الساذج للوطن بالمرأة على يد الشاب المندفع من بيئته المحافظة إلى البيئة المتخففة من القيود، كي لا نقول: المتحررة، كما يرغب ذلك الشاب.
إن العناية بالسرد، أو بمكنون الفاعل الأساسي، أو بالوصف، أو محاولة الترميز، والسيطرة على جهارة الخطاب، هو خطوة بعد – أو مع – خطوة مما قطعت البدايات القصصية نحو القصة، وهو أمر مفهوم في تجربة غضة لكاتب ما، وإن كان ليس تعلّة ولا اعتذاراً ولا تبريراً، فالفن هو الفن، والقصة هي القصة، والتربيت على الكتف أمر آخر، لا ينسجم على الأقل مع ما حقق الإنتاج القصصي المعني في سنين معدودة، كما ستحاول الفقرات التالية أن تبيّن.
الصدى المتأخر للحظة التامرية:
مع اللحظة التامرية تضاعفت عناية الكتاب والنقاد بشعرية القص. وقد جر احتذاء زكريا تامر – مبدع هذه اللحظة وسيدها – شطراً غير هين من إنتاج كتاب كثيرين أواخر الستينات وأوائل السبعينات خاصة، إلى غلبة الإنشائية ووهم السيالة اللغوية والمبالغة في التداعي والكوبسة، فهذا ما أسفر عنه لدى أغلب المريدين العشى بالرائد والفهم الداني لشعرية القصة. ولئن كانت تلك هي الضريبة التاريخية للانعطاف والتجديد في القصة والفن عامة، فقد آلت الثمانينات إلى مآل آخر، أعطت فيه اللحظة التامرية أكلها التاريخي فيما يبدو. وما هو أهم أن القصة تخففت مما أرهقها على يد كثيرين من وطأة المجاز المجانين والتخييل المجاني، وحققت انعطافاً آخر، كان للتامرية فيه فضل لا سبيل إلى إنكاره.
لا يعني هذا القول أن التنويعات الأخرى السابقة للحظة التامرية قد انتهت في المنعطف الثمانيني، أو أن فعاليتها وحضورها كانا أقل فيما سبق. فليست القصة ولا الأجناس الأدبية أو الفنون وقفاً على تجربة واحدة أو تيار واحد. حتى العقم في الأدب والفن يتعدد ويتلون. والهم هنا أن تجربة تالية شرعت تتخلّق، سواء أعني ذلك اللحظة التامرية أم سواها.
في قصة (المزبلة) لعبد الحميد أحمد تبرز محاولة السيالة اللغوية التي ترسم الحياة علكة في فم قحبة. وتتصادى في القصة المحاولة في عنصرين بارزين من عناصر اللحظة التامرية: العنصر اللغوي السابق، والعنصر الوجودي.
وقد يحلو للمتحمل أن يسجل صدى آخر للحظة التامرية في قصة (هدهدة) للكاتب نفسه. ولكن الأمر لا يبدو كذلك. فهو أقرب إلى إعادة إنتاج لتلك اللحظة. فالصبي حمدون إذ يهرع إلى البحر، مأخوذاً بين الأب والعصا والقطة والحاسوم والنورس والماء – لنقل السلطة والطبيعة – فإنما يتأتى ذلك عبر سرد بسيط وحار، عبر بنية شفيفة، وتخييل ثر وطليق، وتجسيد للحظة إنسانية دقيقة هي لحظة الطفل – مواطن الغد – بين أفق محدد – من الحنان إلى القمع – وافق مفتوح أزرق وغاوٍ.
في هذا الخط من تجربة عبد الحميد أحمد ثمة أيضاً قصة (حالة غروب) وقصة (بعد الخامسة مساءً) لظبية خميس، ولكن الخط لا يمتد هنا، ولا في الإنتاج القصصي عامة، حيث تنبغي الإشارة إلى (الاتجاه) لمحمد ماجد السويدي، على الرغم من أن الشبهة بالخاطرة قائمة، وإلى (الوجه الآخر) لعلي أبو الريش الذي رسم بشاعرية الهوة بين الكاتب والكادح في مداريهما المتنائيين في مجتمعنا.
إن الشطر الأكبر والأهم من الإنتاج القصصي المعني يسير في خطّ آخر، عسى أن تبلوره في جملته وتلاوينه وتعرجاته الصفحات التالية.
إنجاز اللحظة السردية:
ضاعفت وطورت القصة، عبر عقودها وتنويعاتها، من الاشتغال على السرد والفعل والشخصية. وكانت ثمة تقاطعات جمة هنا وفي عموم المشهد القصصي العربي، كما هو مفترض. فالشعرية في القص – على سبيل المثال – ليست حكراً على تيار. إن الإنشائية والخيال المبدع للصور والخيال المزخرف والمنسق للمدركات، كل ذلك جعل للسرد في قصص حيدر حيدر أو وليد إخلاصي – على سبيل المثال، وعلى بعد ما بينهما – لونه الخاص. كما أن الاشتغال على الذاكرة الجماعية – أو الشعبية كما يؤثر آخرون – والتراث عامة في قصص جمال الغيطاني وزكريا تامر – على بعد ما بينهما – جعل للسرد ولشعرية القص معاً تلوينات خاصة أخرى.
أغلب من أنجز اللحظة السردية منذ الخمسينات لا زال حاضراً في المشهد القصصي العربي. ربما صمت بعضهم – سعيد حورانية مثلاً – أو استأثرت الرواية ببعضهم – حيدر حيدر، جمال الغيطاني.. – ولعل آخرين كانوا سيخصبون المشهد لولا أن قضى – عبد الله عبد مثلاً -، إلا أن الحضور لم ينقطع. وقد يكون في ذلك – للوهلة الأولى – ما يعقد تجربة الكتاب اللاحقين، ممن تأسس إنتاجهم فيما أنجز السابقون المقيمون، إلا أن التجربة أسفرت في العقد الأخير عن عطاء جديد ومتميز، وفي سورية على الأقل بوسعي أن أدلل بقصص حسن م. يوسف، حسن صقر، نيروز مالك، نجم الدين السمّان، جميل حتمل… كما آمل أن يكون بوسعي بعد الخطا التحليلية القادمة، أن أدلل على ذلك بأغلب الإنتاج القصصي في الإمارات.
ديمقراطية السارد:
في هذا الإنتاج تقل القصص التي يكون السرد فيها ذاتياً، أو بعبارة بعضهم: الحكي الذاتي، كما في الأوتوبيوغرافيا أو السيرة، وحيث يكون السارد هو الفاعل الأساسي.
في (على حافة النهار) لعبد الحميد أحمد يقص السارد علينا أيامه الثلاثة في المدينة البحرية. يرسم عالم المدينة من خلال علاقته بالمرأتين. مريم ونبيلة. ولا تستغرق السارد، المتكلم بضميره، ذاتيته وهو يقص. لا تصيب ذاته لوثة التضخم التي تهدد مثل هذا اللون من القص. أي إن السارد لا يحجب الفاعلين الآخرين أو يهيمن عليهم، وإن تكن سانحتهم محكومة به.
مثل هذا السارد الديمقراطي إلى مدى يقصر أو يطول، قد يكون كذلك، أو لا يكون، بما هو ذات لها مكوناتها وممارساتها وشرطها العام، لها عيشها القصصي، وهذا أمر آخر غير كونه سارداً ديمقراطياً في العملية السردية، إلى درجة أعلى أو أدنى. وسارد (على حافة النهار) نفسه يخاطب مريم: أنا لست كالآخرين… إنه حريص على ما يميزه عن سواه أو يرفعه فوقهم درجات. وعبد الحميد أحمد نفسه – ككاتب – يتدخل في قصة (الأرصفة العربية) دون أن يجور على السارد، وربما كي لا يدع السارد يجور على سواه، وهي تجربة لا زالت نادرة على كل حال، إنْ في الإنتاج القصصي المعني أو في عموم المشهد القصصي العربي. لقد تدخل الكاتب علانية في القص الذي يرسم حالة المهاجر الفلسطيني على هذا الشاطئ الخليجي. لم يمارس الكاتب السرد الذاتي، ولم يكتف بقنوات الكاتب التي بلا حصر في العملية السردية. وقد يكون هذا التدخل – هذه الوسيلة السردية الأخرى – ما جعل النبرة جهورة في الوقفة مع الشابة الفلسطينية ندى وذويها، وقد يكون ذلك ما ألوى حيناً باللغة إلى الخطابة، ولكن دون أن يضيق من حدود اللعبة الديمقراطية في القص.
تقل في الإنتاج القصصي المعني أيضاً الحالة التي يخاطب فيها السارد الفاعل الأساسي أو سواه في شطر من القصة: أما الحالة التي يكون فيها الضمير المخاطب وحيداً فلم أقع عليها، وهي نادرة عموماً في المشهد القصصي العربي.
قد يفترض استخدام هذا الضمير التخفف من حيث المبدأ من الإنشائية، إلا أنه على العكس من ذلك، قد تلبس بها في قصة (فيروز) لمريم جمعة فرج، وربما أغوت بذلك شخصية العامل الذي يتلبسه الجنون تحت وطأة الشغل والشيخ الهاشمي، الثلج والدين.
وهذا الضمير قد يفترض من حيث المبدأ أيضاً سيطرة كلية للسارد، إلا أن هذه السيطرة بدت في قصة (فيروز) على العكس محكومة بفسحة الديمقراطية، إذ توفرت للعيش القصصي رحابته، فكان دور السارد أن يسرد أكثر مما يمكن له أن يوجّه كما ييسّر له ضمير المخاطب.
في قصة (امرأة من الشرق) لإبراهيم مبارك، ثمة أيضاً المقطع الأول الذي يستخدم فيه السارد هذا الضمير، مخاطباً الفاعل الرئيسي ليسرد رحلته الجوية السياحية إلى الهند، مخلفاً عقده الصحراوية.
المقطعان الثاني والثالث من هذه القصة ينوب فيهما السارد بالضمير الغائب، فيعرفنا بالقروية الهندية آم نون ومواطنتها القوادة آنو. أما المقطع الثالث فيتمازج فيه السرد الذاتي بالغائب ليصف حالة التوحد بين الفاعل الأساسي وآم نون، لا البغاء. ويأتي في المقطع الأخير الخامس السرد الذاتي ليرسم الفاعل المتعاطف مع البغي المسكينة، ولكن رحلته السياحية قد انتهت، فودع وغادر إلى عقده الصحراوية، وإن لم يصرح أو يعترف بذلك.
السرد بالضمائر الثلاثة كان إذن في هذه القصة، ولكن على نحو استعراضي، ينوء تحت وطأة المعلوماتية من جهة – معلومات الانبهار السياحي والتعاطف الذكوري مع البغي الضحية- وتحت وطأة مماهاة السارد بالفاعل في المقطع الأخير، فجاءت فسحة السرد الديمقراطية مشتبهة بديمقراطية الفاعل الأساسي/ الذكر، محكومة بزيفها.
إن النمط السردي بضمير الغائب هو الغالب في الإنتاج القصصي. وقد يفترض هذا النمط من حيث المبدأ فسحة أكبر لديمقراطية السرد، ما دام السارد طليق اليد، هو الذي يقص، والمسافة الموضوعية بينه وبين الكاتب قائمة.
تغدو تلك الفسحة المنشودة أكبر في هذا النمط حين تتوفر أيضاً المسافة الموضوعية بين السارد والفاعل أو الفاعلين، وبين كل من أولاء، فلا يكون الصوت أحادياً.
في قصّة (عبار) لمريم جمعة فرج يُساق على لسان الصبي ما هو أكبر منه، ينطق بغير لغته ولو لمرة، فتضيق المسافة بينه وبين السارد، وبالتالي بين السارد والكاتبة. ويتكرر ذلك حين يشخص السارد الهوة بين بلال العبار والعالم، ملبساً إياه عباءةً وجودية فضفاضة.
قريباً من ذلك تأتي قصة (الريح) للكاتبة نفسها. فالنجار أبو ربيع يُقول بالاغتراب، والتعبير عن أزمة هذا الفاعل يأتي فيما لا ينسجم ولو جزئياً مع وعيه.
لا يعني هذا القول بالطبع أن نجاراً أو عباراً ما، لا يحسّ بفجوة بينه وبين العالم الذي لا يتوفر فيه لهما الشرط الإنساني. لا يعني هذا القول أن عباراً ما أو نجاراً ما لا يحس بالغربة والاغتراب. إلا أن بين الإحساس بذلك ووعيه مسافة. بين الحالة ووعيها والتعبير عنها مسافة. ويثقل ذلك حين يأتي بتعبير المثقف ذي المفردات الوجودية المكرورة في القصة العربية منذ الستينات. وهذا ما يطلع أيضاً في قصة (ظهيرة حامية) لأمينة أبو شهاب، إذ سرعان ما يغدو سائق التاكسي خميس مثقفاً وجودياً (عربياً) بلغته وإدراكه. والكاتبة نفسها تنطق (مهرة) بغير لغتها في القصة التي تحمل اسم هذه الطفلة – المرأة، أثناء مواجهتها للشيخ سليمان، وبينما تعود العملية السردية إلى مجراها الطبيعي في قصة (الحفلة)، يعود السارد إلى دوره الطبيعي في القصة، ومن ورائه الكاتبة، فلا يتداخل في صوت العجائز ولا شمسة بنت سعيد ولا حميد الأهبل، كما لا تتداخل أصوات هذه الشخصيات، بل تتعدد وتتجاور، فتأتي قصة أمينة أبو شهاب هذه مثالاً ناصعاً على ديمقراطية السرد، شأن قصة سلمى مطر سيف (النشيد)، والعديد من قصص الكتاب والكاتبات الآخرين والأخريات، مما سنرى في فقرات تالية، ومما يؤكد هذه العلاقة الهامة من علامات إنجاز اللحظة السردية واستواء الجمالية القصصية والمهارة في اللعب بمفرداتها التقنية. وفي قصص (عبّار، الريح، ظهيرة حامية، مهرة) نفسها من ذلك أيضاً أقدار متفاوتة، على الرغم من الانكسارات التي أشرت إليها. وقد يهون بعضهم من شأن هذا الذي رأينا من أنماط السرد بالضمائر الثلاثة، المتكلم والمخاطب والغائب، منفردة أو متعددة في القصة الواحدة، فينظر إلى ذلك على أنه لعبة بارعة أو متواضعة بالضمائر وحسب.
وإنها لعبة حقاً، ولكن ليس بالمعنى المزدرى، بل بمعنى لعبة الفن، والفن اللعب، بمعنى النشاط البشري الباني والجميل، كما الشأن في المفردات السردية الأخرى التالية، وفي رأسها: الزمن.
الزمن:
وربما كان ينبغي أن يبدأ التحليل هنا، لا بالفقرة السابقة، فعبره ينتظم ذلك المعطى التخييلي: القصة. والتقري فيه يجلو ما يمارس فيها من إيهام وكسر للعادي والأليف، ومنتجة وتوليف وتلوين وتداع. ومن هنا يكون الانطلاق من مستوى القصة كقول، كخطاب، إلى مستواها الآخر- كما يميز تودوروف- كوقائع وأفعال وعلاقات، كتاريخ.
وفي زعمي أن القراءة الأولى والأخيرة للقصة تكون على المستوى الأول. وفيما بين هاتين القراءتين تجري القراءة الثانية على المستوى الآخر. ولا ينفي ذلك أن تكون القراءة الأخيرة لحظة عيش مع القصة التي قُرئت حرفياً مرة أولى ووحيدة، كما هو الشأن لدى أغلب القراء. أما تثنية القراءة والإعادة والتقري في المكتوب، فمن شأن النقد وشبهه، وأضيف: من شأن بلوى النقد. فأن تعيش القصة أو النص أو الأغنية أو اللوحة أو الرقصة هو الأوْلى. ولكن ليس بذلك وحده يحيا الفن، بل بالنقد أيضاً، ومعذرة لهذا الاستطراد الإشكالي، فهو من هواجسي الدائمة المبهظة.
تمارس القصة في الإمارات غالباً شتى صنوف اللعب بالزمن، مما كرست القصة عبر تاريخها المعقد الطويل، إذ يندر أن يحافظ على استقامته وتصاعده.
المزاوجة بين الاتجاهين المتعاكسين للزمن: إلى الأمام وإلى الخلف، هي الغالبة. والتداخل لا المزاوجة تأتي أيضاً، خاصة في القصص التي مرت بنا في الفقرة المخصصة للحظة التامرية، حيث ينشط التداعي، دون أن يعني هذا أنه وقف على هذه الفئة – المحدودة – من القصص. ففي لعبة المزاوجة يمارس التداعي أيضاً (قصة هياج لأمينة أبو شهاب، وقصة بدرية لمريم جمعة فرج..) إلا أن التكسير شبه المنتظم، وإن تفاوت، هو السمة الراجحة.
ففي القصة (الريح) المذكورة للتو، لا تفتأ مريم جمعة فرج تكسّر النهار الذي تستغرقه القصة من حياة (أبو ربيع) حتى توفر وتضفر من الماضي الأشتات اللازمة. وتذهب الكاتبة في قصة (صالح المبارك) أبعد، إذ توقف الفاعل الأساسي في الحاضر. تحت تأثير الحمى والتخدير، توقفه في (اللحظة) من عبارة (اللحظة والسنون) التي فتحت حالة الهذيان والهلوسة، مفجّرة الماضي، ومتلوية بالمسار بين الطفولة والزواج والإنجاب وضنك العيش. وتمارس الكاتبة بعض ذلك أيضاً في قصتها (ثقوب)، عبر ما يتصادى في حياة عبد الله من الماضي، من صوت المطوع إلى صوت الوكف إلى صوت الأقران، كما تنبق من حياة الوالد مكابدة القرية..
حالة التكسير هذه، والتي تجد تألقها في التداعي، وتتطامن حين تشتبه بالانتظام، أو حين يشتبه التداعي بالخواطر المجانية، تبدو أحياناً ضرورة يستدعيها المكان، كما في القصص التي جاءت مساحتها محدودة بحدود السجن، أو رحبة ومحدودة في آن بحدود مكان الآخر الغربي. ومن ذلك أعد (الزنزانة رقم 2) لعبد الرحمن الصالح، و(أغنية بيضاء في ليل دامس) لعبد الحميد أحمد، وللكاتب نفسه (جيني)، ولمحمد حسن الحربي (إنهم يطاردون العصافير) و(عصافير الشتاء) و(هيطل والعفرى)… والسجن على أية حال مفجر الذاكرة، كما أن باريس (الحربي) ولندن (أحمد) مفجّر ولائب على ما مضى في الوطن.
الفعل:
في مجرى تحديث القصة، تحت لواء الحداثة، ومع اللحظة التامرية خاصة، مالت على يد عديدين عن الفعل القصصي، تارة إلى عناية لغوية أكبر، تارة إلى عناية صورية والمحاولة في الترميز، كردة فعل على عناية آخرين بإفراط في الحديث، وكحد للفعل القصصي في حدود الحدث. وقد تكرر ذلك مع الفاعل أو الفاعلين الأساسيين والثانويين، مع الشخصيات القصصية الأساسية والثانوية.
هذا الأمر نأى بالقصة في حالات كثيرة عن جنسها، أو خلخلة، ولعل ذلك قد انطوى – ولا زال ينطوي – على نزوع، ليس فقط إلى التجديد والتجريب في الجنس نفسه، بل في ابتداع كتابة أخرى، ابتداءً من هذا الجنس، ولكن نحو جنس آخر ربما، فالإبداع دوماً يرود الآفاق، والمستقبل البعيد في الأدب والفن يبدأ من الآن ومن الأمس. ولكن ذلك لا ينبغي أن يكون دريئة للموهبة القاصرة ولا الخبرة المحدودة أو الدراية المتواضعة بجنس القصة، كي لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وتختلط الأوراق، وتغدو (النية) القصصية مثل القصة.
قد يكون الفعل القصصي فردياً لواحد أو لأكثر من الفاعلين. قد يكون فعلاً جماعياً، أي لكتلة بشرية – ومنها النكرات في القصة – وقد يكون لمكان الفعل نفسه. وفي سائر الأحوال ليس للقراءة أن تتقفّى الأفعال والأحداث، فمثل هذه القراءة كما يذهب باشلار تحرم نفسها من أحلام يقظة بلا حدود.
ينجز الفعل القصصي متصاعداً نحو ذروته، ومنفجراً أو متشظياً من ثم، أو منحدراً، ينجز متوتراً أو بأناة، منداحاً أو ملتوياً أو مستقيماً أو أفقياً. وفي أية حالة من حالات الإنجاز هذه تتكاثر جزيئات الفعل، أو الأفعال الثانوية الأدنى، تتقافز وتتقدم نحو لحظة خاصة، ذروة أو منعطف، أزمة أو أوج، مما يكون حاداً كرأس زاوية أو سياقاً.. وكل ذلك إنما يجري في نظام خاص يرسم الحبكة القصصية.
وسبيل الكاتب ها هنا محفوفة بالمنزلقات، كشبهة العناية بجزيئات الفعل، بالعناية بالتفاصيل الأخرى، وخاصة دقائق الوصف المادي أو النفسي…، أو كأن لا يتهيأ للفعل الرئيس ما يقتضيه من جزيئات، أو كأن يحشد منها ما لا حاجة به…، وفي هذا كله أو بعضه تضطرب العلاقة الوظيفية بين الفعل وجزيئاته، بين الأساسي والثانوي منه، ويضطرب النظام الواضح جداً والمبهم جداً، الدقيق جداً والمستسر في خلايا التكوين الجمالي للقصة.
نقرأ هذا المقتطف من قصة (البيدار) لعبد الحميد أحمد:
«ثمة رجال ملثمون. أطفال مذعورون. نساء يولولن ويصطخبن.
صوت:
– الباب مغلق.
صوت آخر:
– الرائحة كريهة لا تطاق.
الشمس حارقة.. الرمل ساخن كالرماد تحت الجمر، العرق ينضح من الوجوه. مزيد من الناس يقبل تجاه الخيمة. الضوضاء تعلو والصخب يتزايد. تتشابك الأنفاس الحارة بروائح العرق. تتكاثف الرطوبة».
الفاعل الكتلة هنا (النساء، المزيد من الناس، الأطفال، الرجال) والفاعل النكرة (صوت، ضوضاء، أنفاس، عرق) والفاعل الطبيعي (الرطوبة)، كل هؤلاء الفاعلين يأتون أفعالاً جزئية، تدل عليها بيسر الأفعال المضارعة، وإليها تنضاف في السيرورة القصصية كلها، في نظام دقيق وشفيف، لتبلغ مداها في الفعل الأساسي، حيث مريش بعد أن قام التصنيف بين وافد ومقيم، فبتر جذور ذلك المهاجر المقيم، ودفعه إلى الانتحار (أم إلى القتل؟)
لا يؤدي الاقتطاف من القصة إلى أكثر من الاستئناس، إلا فيما ندر، حيث يفي بغرض التدليل أيضاً. وقد يكون المقتطف السابق من هذا القبيل. إلا أن ما هو أهم الآن، ما تنمّ عنه أغلب قصص عبد الحميد أحمد، إذ يندر أن تنفلش جزيئات الفعل أو الأفعال الثانوية، أو تشتبه بتفاصيل الوصف، وهو ما وفر للقصص غالباً أن تنتظم علاقاتها ووظائف فاعليها وأفعالهم، كما وفر وضوح المحرق ودقته، مما يستبدل بعضهم التعبير عنه بوضوح الهدف أو وضوح الاتجاه وجلاء الأثر.
في قصة (ظهيرة حامية) لأمينة أبو شهاب تحتشد جزيئات الفعل في حركة خميس اليومية في التاكسي، عبر أرجاء المدينة، لكأن القصة تنحرف نحو محرق آخر في حياة المدينة بأسرها.
قد يكون التأذي هنا لم ينل غير واحدة من حركات القصة، غير جانب ما من انتظامها ونظامها. ولكن هذا التأذي قد ينشب خطره ويأتي على ما هو أكبر، فيقصر بالعناصر عن أداء وظيفتها، أو يشتت العلاقات والفاعلين والأفعال. وعلى الرغم من جدلية القصة، فالنسبة هنا قائمة. أي إن التأذي قد يكون جزئياً، أو كلياً، فيثير في هذه الحالة السؤال حول أهلية التجنّس بهذا الجنس من الأدب.
إن الرغبة في قول الكثير، مما يلزم للقصة وما لا يلزم، أو الرغبة في قول كل شيء دفعة واحدة، تدفع أحياناً بالكاتب إلى انتهاك الشرط الملازم لجمالية القص – والفن عامة – في الاختزال والنظام.
قد يعنّ لبعضهم أن يسوق معلومات أو استطرادات ذات صلة عابرة أو مظهر استعراضي، بدعوى الفرش نحو الحبكة العتيدة. وقد كان ذلك طاغياً في القصة قبل أن تودع البدايات. وهذا لا يعني أن القصة التي ودعت حقاً هي بلا حبكة، – بلا عقد إن شئت، لا عقدة وحسب، فالمعوّل عليه ليس وجود أو لا وجود العقدة أو الحبكة بهذا المعنى المحدود – بل هو ما يؤلف بين الفعل والأفعال، بين الأساس والجزئي هو ما ينسج العلاقات، ولقد كابدت القصة العربية طويلاً قبل أن يكون لها هذا الإنجاز الجمالي الحاسم في تجنّسها.
ولعله من المفيد أن يشار هنا إلى الخلط الذي يقوم بين هذا الذي تقدم وبين العلامة الفنية الخاصة بالتراث الأدبي العربي في الحكاية والخبر والنادرة والرحلة والسيرة والقص الشفوي الجماعي – الشعبي – والكنز: ألف ليلة وليلة، وأعني علامة القصّ في القص، أو تواتر الأفعال، مما ينعت بالاستطراد خطأ أو قصوراً. فتواتر الأفعال – ومن ثم: القص في القص – يرفع إلى أسّ أعلى وأعقد الحبكة والنسيج والنظام والقصّ بجملته.
الفاعل – الشخصية:
يقوم الفاعل بالفعل، فرداً أو جماعة، بشراً أو مكاناً، معرفة أو نكرة، وبعضهم يضيف: أو فكرة. وقد يكون الفاعل سارداً أو شاهداً أو مراقباً أو مساعداً. وبما أن لكل فعلٍ أساسيّ أو جزئيّ فاعله، يتكاثر الفاعلون أو يقلون، وتتفاوت أدوارهم، وتتعدد تسمياتهم بين شخصيات أساسية وثانوية.
وما أود التوكيد عليه هنا هو ما اشتغل عليه النقد الحديث، حيث إن مقولة الفاعل أرحب من مقولة الشخصية أو البطل، وإن كانت لا تلغيها. فقد يكون للقصة فاعلها الأكبر أو الأوحد، بطلها، شخصيتها، حسب مألوف القول. إلا أن مقولة الفاعل لا تفترض بالضرورة ذلك البطل البشري المحدد. ونحن هنا مع بطل قصصي جديد، مع الشخصية القصصية الجديدة، إن كان لا بد من مألوف القول. نحن بالأحرى مع الفاعل أو الفاعلين، مع معطى التجريب والتجديد الذي شهدته القصة العربية غير العربية في تحولاتها.
ومن المألوف أيضاً المماهاة بين الفاعل الأساس وبين الكاتب كما هو الشأن في المماهاة بين السارد والكاتب، أو بين السارد والفاعل، أو بين القارئ والمسرود له.
ينبغي التفريق بقوة – بدقة بالأحرى – بين من يقصّ، من يتوسط بين الأفعال، وبين من يؤديها، أي بين السارد والفاعل، تماماً كما ينبغي التفريق بين القارئ المتوهّم، المسرود له، وبين القارئ الحقيقي، المتلقي الحقيقي.
قد يتّحد السارد بالفاعل الأساسي في نمط المتكلم، وقد يكون فقط شاهداً أو مراقباً أو مساعداً، في نمطي المخاطب والغائب. أما الكاتب فالميل بات أكبر إلى أن يُرى في لحظة تفجره أو انشطاره عبر جملة الفاعلين، أو بعضهم على الأقل. كما يُرى في لحظة خلقه عبر الفاعل الأساسي، والشرط الملازم هنا هو التخفي. ولا يهم أن يكون ذلك على حساب الكاتب، ما دام الفاعل طليقاً في عيشه القصصي.
والفاعل أخيراً وليس آخراً قد يتخفى كالكاتب، أو يكون مكشوفاً. قد يتكون خلية بعد خلية، لحظة بعد لحظة، وقد يطلع ناجزاً منذ البداية.
من اللافت للوهلة الأولى، ومما يستوقف كلما أمعن المرء، أن المرأة كفاعل أساس في الإنتاج القصصي المعني، ذات حضور كبير، سواء على يد الكاتبات أم الكتاب.
ويسجل المرء هنا أولاً أن محاولة الترميز بالمرأة تأتي على حساب كيانها البشري، وفاعليتها القصصية أيضاً.
في قصة (الفأس) لعبد الحميد أحمد تذوي ملامح زهرة الزوجة التي تخون زوجها الفلاح الدؤوب سلمان. وما يحل بزهرة كفاعل أساسي في القصة إنما يحل لحساب الخطاب الحاكم للقصة في رسالته ضد الخيانة هذه. من ناحية أخرى لا يبدو حظ الزوج أوفر، ولكن ليس بسبب الخطاب والرسالة هذه المرة، بل بسبب المهاد المبتسر لعنفية سلمان وقد صحا على الخيانة. على أن هذا أمر آخر غير ما نحن بصدده الآن من الترميز بالمرأة. وفي (الفأس) مثال على المرأة- الفكرة، على الفاعل القصصي- لنقل هنا: الشخصية- الفكرة.
كذلك تأتي محاولة الترميز الأخرى في (جيني) للكاتب نفسه، حيث معادلة عائشة – الوطن(4). وهذا الصنيع على نحو عام في الإنتاج القصصي حجم من فاعلية المرأة – الشخصية القصصية، وهو يميل بالمرء إلى أن يقدر أغراض الكاتب والقصدية المسبقة في كتابة القصة وتكوين بشرها. وفي أحسن الأحوال يقدّر المرء أن الكاتب لم يعنَ بأولاء البشر كما ينبغي.
تتصدى مهرة الطفلة، المرأة في قصة (مهرة) للشيخ سليمان الذي أرضخ البلدة كلها. حسناً، قد يكون ذلك. فمنذ العنونة باسم الشخصية نفسها يقوى الإعلان عن الفاعلية الأساسية المسندة إليها. وهي تزخر بالإمكانات الثرة والمؤهلة للتصدي للشيخ سليمان والانتصار عليه. إلا أن تلك الإمكانات مجهضة، والشخصية لا تنمو نموها الطبيعي بل تزرق بالمنشطات والمسرعات زرقاً، فتنوس بين أن تكون كائناً حياً أو ورقاً مقوّى.
والشيخ سليمان أيضاً، كفاعل أساسي آخر، يشكو من أحادية التكوين التي جعلته شراً مطلقاً، وإن كان قد ترك له أن ينطق في هاته الحدود بلغته، فيما أنطقت مهرة كما مر بنا بغير لغتها، كذلك خميس في (ظهرة حامية).
وفي القصة الأخيرة هذه، ثمة سوى خميس امرأته التي انتهت – دفعت – إلى حي البغاء. وتلك التي تذهب إلى سلطان بن أحمد في الحي الغربي من المدينة، وتلك القوادة الجديدة في هذا الكار التي تدفع بفتاة وأمها في السبيل نفسه.
أولاء النسوة اللائي يرسم السرد مسارهن نحو البغاء وفيه، بفعل ذلك الحي والرجل – الرجال، هنّ الأس في أزمة خميس، وما انعطفت بحياته بالتالي. ولقد جعل الكاتب لهن هذا الدور، كما دورهن في تعرية الحي الغربي والذكورة، على الرغم من أن خميس هو محط العناية الكبرى.
تظهر حالة البغاء والبغي، أنثى أو ذكراً، في قصص عديدة، منها (على حافة النهار) لعبد الحميد أحمد، حيث عالم الفندق وعالم المدينة التي حضر إليها الصحفي السارد من أجل معرض اقتصادي. فيلتقي بمريم ابنة العامل في الميناء، ونبيلة التي تلعب به. وإذ تتجلّى الأولى عما ينشد في المرأة من صدق وبراءة وتكون أقرب إلى الرغبة أو الحالة أو الفكرة – لنتذكر قصة الفأس – فإن نبيلة تتجسّد على النقيض، كياناً من لحم ودم.
ليست نبيلة ولا مريم بالفاعل الأساسي في القصة، فالمدينة الرابضة على حافة البحر – بلا اسم – هي ذلك الفاعل. ولكن نقمة السارد تنصب على البغي المرأة والبغي المدينة، كما انصبت في (صفعتان) نقمة سعيد العبد الله على دبي المتأوربة، وهو الريفي القادم إليها من خورفكان، شاهراً عضوه. وأوهامه عن المدينة وأوروبا والنساء الجاهزات بانتظار فحولته!!
لا تكاد صورة البغي الضحية تظهر إلا على يد الكاتبة. ومن الطريف هنا أن تأتي قصة إبراهيم مبارك (امرأة من الشرق) ببغي هندية، يلتقيها الفاعل الأساسي في مصادفات رحلته الترويحية إلى سحر الشرق، متخففاً من عقده الصحراوية، كما يقول. وإذ ينوب السارد عنه، يعرفنا على الفتاة القروية آم نون، وقد مات والدها وبات عليها أن تعيل إخوتها.
تحضر من المدينة في عيد بوذا مواطنة الفتاة، تلك القوادة آنو، وتعود بآم نون إلى المدينة، لتجعل منها بغياً يصادفها صاحبنا ويضاجعها، فتميل إليه، لأنه ليس مثل الصحراويين الجلفين الذين عرفت. إلا أن هذا (البطل) يغادر متأثراً.
السؤال هنا عمن يكون البغي؟ أليس طريفاً أن يبرئ هذا الفاعل ضميره، ويؤوب من سحر الشرق والإجازة مشبعاً، نشيطاً ومطمئناً، يبثنا شفقته على آم نون كأنما يدعو إلى التعاطف معها والغفران لها، دون أن نذكر فعلته؟
قد لا يقوم التوازن في صورة الضحية إلا إنْ أشارت إصبع الاتهام إلى ذكر ما. ولا يكفي أن تبرّأ الذمة بالإشارة إلى المجتمع الذكوري نفسه. وهذا ما فعلت مريم جمعة فرج في قصّة (عبّار)، إزاء الطفلة الشرق آسيوية أيضاً (نرجس)، والتي تدفع إلى الزواج من بلال العبار، ثم تدفع إلى أرصفة البغاء.
وعلى الرغم من النية الطيبة المعلنة أو المكنونة في القصة، تبدو المرأة بغياً أو غير بغي، كغرض جنسي، في جل ما يقصّ الكاتب الذكر، هذا إن لم يجعل منها النقيض، أي رمزاً للوطن أو لسواه، فيهيكلها كما مر بنا.
ففي قصص (صفعتان) و(امرأة من الشرق) و(عصافير الشتاء) و(هيطل والعفرى) وسواها يبرز ذلك. ويلاحظ هنا أن الغرض الجنسي يتمظهر بالصداقة حين تكون باريس الحلبة أو لندن، كذلك حين تكون المرأة من ذلك العالم.
سوى ذلك – ومن قبل: المحاولة الترميزية – تأتي الصورة التي تستدعي الحب والزواج. والمرأة الكاتبة – ثانية – هي التي تذهب هنا أبعد، ليس فقط لتضامن مسبق أو مطلق مع المرأة في القصة، وهو أمر مفهوم إن لم يكن مشروعاً، بل كمواجهة للذكر القامع وللمجتمع الذكوري، فأي حب وأي زواج في مجتمع ذكوري متخلف يتعثر في انعطافته النفطية؟
«لماذا يفترض الرجال دائماً أن أية امرأة هي برسم الدخول معهم في علاقة ما؟» هذا هو السؤال الذي تصدح به قصة (بعد الخامسة مساء) لظبية خميس. وهو سؤال لا يعني المكان الأقرب أو الدائرة الاجتماعية الأدنى للقصة، بل أيضاً الآخر الغربي – وفضاء القصة: لندن – حيث دعوى التحرر وأنسنة العلاقات بين الجنسين مطبقة. فالساردة المتكلمة تواجه شابين إيطاليين يبغيانها، فتنصرف هازئة. وتواجه مهندساً بولندياً فتدعي أنها أم لثلاثة أطفال، كي تتخلص منه هازئة، كذلك تفعل بالشاعر الفلسطيني، وينطلق سؤالها الرافض لأن تكون غرضاً جنسياً وحسب لأي ذكر كان.
على نحو آخر تناوش القصة التي يكتبها الكاتب حالة المرأة غير المتزوجة. ففي قصة (الأرصفة العربية) تأتي وقفة الكاتب علانية كفاعل في القصة، ووقفة السارد مع ندى، كفلسطينية عزلتها شريكتها المواطنة المقيمة لتعاملها كخادم، ويغلب النظر إلى الشابة ندى كفلسطينية، وكقوام خطاب، على النظر إليها ككائن – امرأة، أياً كانت.
وأشير أيضاً إلى ما كتبه محمد حسن الحربي تحت عنوان (الليل والورد) ووقفة الساردة – وتلك هي الحركة الحاملة – أمام المرآة، تناجيها، تناجي وجهها الآخر هي، في نرجسية مرضية طاغية، عبر لبوس إنشائي سابغ وساذج، تترجع فيه الجيرانية تارة، ويعجز دوماً عن أن يوفر الشعري في الإنشاء اللغوي، فتنهال كيفما اتفق، في وهم السيالة اللغوية، وتتراكم المترادفات والمجازات المجانية، مما يجعل الساردة المتكلمة ورقاً مقوى، لم يعد معه ذا بال أنها قد عاشت التذاذاتها باشتهاء الجميع لها وإقبالهم عليها، حتى تتوج ذلك بالحزن الذي دفعها قرار مغادرته إلى الوقوف أمام الصديقة الوحيدة: المرآة – الذات. ولست أنكر أن هذا كله قد أربكني وحيرني فيما إن كنت أقرأ قصة أم أقرأ ما نعتت به الساردة نفسها ما تقول – ما يقرأ: هذيان وعبث؟ ولعلي لذلك لم أشر إلى (الليل والورد) في فقرة الصدى المتأخر للتامرية، حيث تشي أن موقعها هناك.
أكبر من حالة المرأة غير المتزوجة، تستأثر بالإنتاج القصصي شبكة علاقات المؤسسة الزوجية، ويكون ذلك على يد الكاتبة، لا الكاتب، أيضاً.
إن وجود المرأة في المجتمع الذكوري يتحدد بالمؤسسة الزوجية، خاصة حين ينضاف التخلف إلى الذكورة، وعلى الرغم من أن هذا المجتمع ينشد المرأة خارج المؤسسة غرضاً جنسياً أو رافعة عاطفية ووجدانية كما أن هذا المجتمع يدفع بالمرأة وهي داخل المؤسسة نحو الخارج، عبر ما يسميه بالخيانة الزوجية، هذا إن لم يستل منها وجودها داخل المؤسسة العتيدة.
في قصة (بدرية) لمريم جمعة فرج ثمة العجوز الأرملة بعد زيجات ثلاث، وهي تستعيد في لحظة السرد الوداعية للدنيا من عرفت من الأزواج الذين فقدت بفقدانهم كل شيء. حتى ورقة جنسية لم يعد لها. إنها المرأة التي تكون إذ تكون المؤسسة الزوجية، أو لا تكون.
أما في قصة (هياج) لأمينة أبو شهاب، فيتلوى المسار بآمنة، زوجة الثري عبد الرحمن موسى – وهما الفاعلان الأساسيان في القصة – من الانبهار إلى الانسلاخ عن الأصل إلى الوعي إلى الاستسلام.
لحظة الانبهار كانت البداية: الزواج المغوي، ثم كان انسلاخها بفعل الزواج نحو رأس الهرم الاجتماعي البراق، ثم كانت لحظة الوعي؛ إذ أدركت عبر معاناتها أنها ليست غير قطعة جميلة في مملكة عبد الرحمن موسى. والمآل كان الراية البيضاء المشرعة.
لقد تعمقت الكاتبة أغوار الزواجين معاً، ورسمت بحذق مثال المرأة، والحلية، ومثال الذكر البورجوازي الصاعد بثقة، ومثال السعادة الزوجية التي تصنعها السيطرة والخضوع، والوداعة والتململ، الكذب والصدق على النفس.
بيد أن الزوجات الأخريات في قصتي ليلى أحمد (المسافة)، وماجد بوشليبي (عطشى) يذهبن أبعد. ففي الأولى يحشر الزوج في القفص، وقد التفت إلى المرأة الأولى التي أحب ورفضته، بعدما مات زوجها، بينما يلوي عن المرأة التي أحبته وتزوجها. لكن الأولى تظل غير آبهة، فتراه يتطامن أمام الفرصة الذهبية في ترمل المحبوبة القديمة. وفي القصة الثانية ترى الزوج المأخوذ – بل المرتبط – بصديقه أبي سعيد، لا يفتأ يغزل بين امرأته وصديقه، ليتكشف القواد الذي يسكنه، فهو إذن الخائن، لا الزوجة.
لا يحظى الفاعلون الأساسيون في هاتين القصتين، ذكوراً وإناثاً، بمثل العناية التي حظيت بها آمنة وزوجها في (هياج). ولقد وصلت كاتبة هذه القصة في (الحفلة) إلى ذروة درامية تستبطن أعمق وتعلن أصرح عورة الزواج الاجتماعية، ابتداءً بما نخر به المجتمع الذكوري شخصية المرأة.
تظهر هنا النسوة المسنّات ضحايا ذلك المجتمع. العانس منهن والمتزوجة على السواء. ولعلهن لذلك يلعبن لعبتهن الصغيرة الكبيرة، ينجزن الفعل القصصي كأنما يمددن اللسان للمجتمع إياه، وللذكر منه خاصة، وأيضاً لأنفسهن. هكذا تتضافر عناصر القص، من نون النسوة إلى وطأة الزمن إلى رائحة العفن الاجتماعي… لتجعل القصة جديرة باسمها، حفلة فنية بالمعنى الجمالي البديع الرفيع، وحفلة اجتماعية بالمعنى الشعبي، تتفجر بصخب وبدونه الدمعة والقهقهة، المعيب والموجع والجارح، وتكون أيضاً الإيماءة المستسرّة إلى المفقود المنشود.
الذروة الدرامية الأخرى – ولعلها الأثرى والأعلى – التي تتوسط المشهد القصصي، سواء من الزاوية التي نحن بصددها الآن – الفاعل النسوي وشأنه الاجتماعي زواجاً وحباً وجنساً – أم من سواها، هي (النشيد) لسلمى مطر سيف. وهل يروم القص أكثر من أن يضيف إلى بحرك البشري صديقاً أو عدواً، مواطناً آخر، يلازمك من بعد أن تقرأ أو تنأى؟ كذلك تأتي (دهمة) من قصة النشيد، وبسببها يأتي كل من يتصل بها، من الجد إلى الابن إلى الأم إلى الذكور الزنابير حولها. إنها دهمة الأمة، ودهمة الأم، إنها المغتصبة والمعهرة، لا تغادر بعد أن دخلت حياتك، فقصّتها كما رسمت (النشيد) نشيد إنساني حار، نسوي الجذر، ولا بد أن يكون كذلك، لأن إنسانية الذكر ستظل شائهة ما دامت الأنوثة شائهة.
هكذا يرى المرء في الإنتاج القصصي مساحة أكبر للمرأة المبتلاة بالذكورة كزوجة شرعية أو كبغي. أما المرأة المواطنة، كعاشقة أو شغيلة – بغير البيع الشرعي وغير الشرعي للجسد – فلا تكاد تظهر، كذلك الأم. ومن المهم هنا ملاحظة شمول الحضور النسوي لأجيال شتى وجنسيات شتى، ضمن المساحة المذكورة.
وأغلب هذه المساحة هو من القاع الاجتماعي، حيث يطلع أيضاً الفاعلون الأساسيون من الذكور، وقد مر بنا مريش، بلال العبار، حميد الأهبل، أبو ربيع.. ونضيف كويا من قصة عبد الحميد أحمد (أشياء كويا الصغيرة). وأدنى من ذلك يأتي حضور الفاعلين الأساسيين من قمة الهرم الاجتماعي: عبد الرحمن موسى، الشيخ سليمان، النوخدة.. ومما بين يطلع المثقف والموظف – ولماماً جداً المثقفة والموظفة – وقد يكون هذا البورجوازي المتوسط – أو الصغير – ريفياً كسعيد عبد الله – وندرة الريفي شبيهة بندرة الريفية والعاملة والعاشقة – وهو غالباً ذلك الميممّ سياحةً أو دراسة شطر الغرب، كما في قصص الحربي وأحمد وخميس. قد يكون البورجوازي أيضاً سجيناً سياسياً ومشغولاً بالهم النضالي كما في قصص الحربي، كذلك قصة جمعة الفيروز (الاختيار المفاجئ) وقصة (الزنزانة) لعبد الرحمن صالح. ولا بد من الإشارة هنا إلى قصة علي أبو الريش (الوجه الآخر) وهوتها بين المثقف الكاتب ومواطنه الشغيل، قارئ ذلك المثقف المنشود، أو أحد قرائه المنشودين والمزعومين.
ينهض الفاعل القصصي بقدر كبير أو أكبر من عبء الخطاب في القصة. ولعل ذلك قد تبدى بقدر ما فيما تقدم. ولا فرق في ذلك بين أن يكون الفاعل فرداً وحيداً أو أفراداً أو جماعة، أو مكاناً أيضاً، فالقصة هنا كما في بحرها العربي لم تعد تتقفى الموروث القريب والعالمي في التمركز حول فاعل أكبر أو أوحد، حول الشخصية.
وقد سبقت الإشارة إلى كون المدينة في (على حافة النهار) هي ذلك الفاعل. كذلك تبدو البلدة في (مهرة)، والحيان الشرقي والغربي في قصتي (هياج) و(ظهيرة حامية). فالمكان لدى أمينة أبو شهاب بخاصة، ولدى عبد الحميد أحمد أيضاً، فاعل وفضاء في آن. ولننتقل الآن إلى الفقرة الخاصة بالمكان.
المكان – الفضاء:
مما يصف به السارد المدينة في قصة (على حافة النهار) قوله: «وكما لو أنني الوحيد في هذه المدينة الرابضة على حافة الماء حاضنةً سقالاتها وشحاذيها وفقراءها وطلابها ومومساتها ورجال أعمالها وعمالها وأحزابها ومؤسساتها في اصطخاب مضطرم، كأنها على فوهة بركان سينفجر في وقت ما عند اكتمال دورة الفرح رغم الحزن الفاجع…»
ويماهي السارد بين هذه المدينة ونبيلة البغيّ. فنبيلة كمدينتها، بلا هوية، بلا انتماء. ونبيلة كذبة أخرى أو حقيقة أخرى، لا فرق بحسبان السارد، شأن المدينة إياها.
فالحقيقة الوحيدة التي يكرسها أو يأبه بها السارد هي الزمن الدال (الصباح الجديد المشمس) والإنسان المقهور (العيون المستكينة في حزنها الأبدي)، أما الفضاء فعدائي، وكذبة، وإذا ما كان حقيقة فهو حقيقة معادية. أليس ذلك هو أيضاً شأن كويا ومريش؟ ماذا فعل بهما الفضاء الذي طار إليه من مكان آخر، فلفظهما ودمرهما حين جاء التصنيف بين مواطن ووافد؟
تتوجع القصة من المقابلة بين المدينة – أو البلدة – القديمة الصغيرة، وجديدها المتأورب النفطي، ويهجس الساردون والكتاب وبشر القصة وفضاؤها الطبيعي وفضاؤها القديم المدمّر بذلك، ويكون التأرجح اللائب والمأخوذ والنافر بين الحاضر والماضي، بين الراهن والذاكرة.
لدى أمينة أبو شهاب لا يظهر ذلك بلبوس واحد. ليست المدينة أو المكان في قصص هذه الكاتبة موحّدة، لا في غابرها ولا في حاضرها، ثمة فيها دوماً حيّان نقيضان، شرقي وغربي كما تسمي، فقير وثري كما تجدد. ولذلك قد تكون المدينة برمتها عدائية (لخميس مثلاً)، ولكن الانحياز يعلن عن نفسه أيضاً للشطر الفقير في استكانته وفي تمرده وفي عهره، ضد الشطر الثري في قمعه واستغلاله وعهره أيضاً.
المكان الأقرب والأصغر، الفضاء الأدنى، في القصص الأخرى، يتوزع بين المقام الدائم (البيت) أو العارض (الفندق مثلاً أو السجن أو الشارع…) وهو عامة غير حميم، هو سالب، حتى إنْ كان بيتاً زوجياً يضيق بالرياش والطمأنينة. وبالطبع فالسجن هو أقصى السلب ها هنا.
في خطوة أخرى تخطو القصة نحو تخم الصحراء أو شاطئ البحر، كما تبحر أو تطير بعيداً، فيكون لها مكان آخر وفضاء آخر.
أما البحر فهو ذلك الماضي المدمّر، هو الحنين والوجع والحلم والمغامرة، الصيد والغوص والتجارة، من شاطئه إلى مداه. إنه العلاقات الطبقية والإنسانية التي تظهر عزيزة على كل حال، مرّةً، ومقيتةً، حسبما يحكم القصة ذلك الالتفات عن الراهن والتفجع على الماضي، أو لا يحكمها. وإذا لا يحكمها – سواء أكانت القصة قصة ذلك الماضي أم هذا الراهن، أم قصتهما معاً – فما يسم المكان – البحر – هو الفاجع. إن هذا المكان ليس طبيعة كلية الحضور وحسب، إنه مناخ نفسي وشرط اجتماعي أيضاً. إنه الفضاء، إنه السيكولوجي والسوسيولوجي والفيزيولوجي في آن، كذلك تطلع به قصص عبد الحميد أحمد (السباحة في عيني خليج يتوحش، السمكة، قالت النخلة للبحر) وليست (هدهدة) ببعيدة من هنا، كما (عبّار) لمريم جمعة فرج.
قصص عبد الحميد أحمد لا تؤخذ بسحر البحر، كما لم تؤخذ بسحر المدينة الجديدة أو القديمة. لا يفتنها المكان ما دامت اجتماعيته عدائية. وهذه القصص ترسم الفاعلين في ضعفهم وهزيمتهم، في وطأة المكان عليهم وسحقه لهم. ولكن ذلك لا ينسينا (هدهدة) وبحر الطفل حمدون، فالمكان بالنسبة للطفل غيره بالنسبة للكبير.
قبالة البحر، خلفه قلْ، تنفرش الصحراء، مدى آخر أيضاً. منه قدم الإطار الاجتماعي للشاطئ، كما من الشاطئ – الشواطئ – الآخر للبحر – البحار – وإذا كان القدوم من جهة البحر قد ارتهن خاصة بالمنعطف النفطي ودفق العمالة الآسيوية وانتفاخ السيد الغربي، فالقدوم من جهة الصحراء ارتهن خاصة بالأصل العتيد والعمالة المنتسبة إلى ذات الأصل، العمالة العربية أعني.
عنيت القصة بالقدوم الأول في أدنى درجات سلمه الاجتماعي، ونمت عن نزوع إنساني حار وبديع – لنتذكر: مريش، كويا، نرجس… – أما ذروة هذا السلم، أما السيد الغربي فغائب في القصة، على الرغم من حضوره العلني والباطني بألف وجه ووجه خارجها. وليس من هذا الحضور كما نعني هنا ما في القصص مما نعته جورج طرابيشي بلقاء الشرق والغرب رجولة وأنوثة، أوما نعتّه بوعي الذات والعالم.
عناية القصص بالصحراء، وذلك الأصل العتيد والعمالة القادمة من جهاته، لا تكاد تظهر – أعيد الإشارة إلى قصة الأرصفة العربية، وإلى ما رأينا في صدى البدايات: باقة ورد – وإذ تظهر الصحراء تكون بيضة فاسدة منداحة – قصة هيطل والعفرى -. أما الإشارة إلى النخيل فتأتي لا كإشارة إلى الصحراء، بل إلى الأرض (السياحة في عيني خليج يتوحش).
الصحراء بعض التكوين النفسي في العادة أو الغناء أو اللهجة أو الطباع، تتصادى على تخومها البحرية وعلى تخوم البحر الصحراوية. ولقد هاجمت المدينة والبحر الصحراء، احتلاها بعد المنعطف النفطي. ولكن القصة لا تعنى بذلك إلا إلماماً، فهل يكون السرّ في النشوء على الشاطئ، والانتماء إليه، وقطع الجذر الصحراوي العتيد؟ ألا يحق للمرء أن يعيد صياغة هذا التساؤل فيما يخصّ غياب القرية والريف – ولن ننسى قصتي الفأس وصفعتان – ؟ وهل يكفي هنا أن يكون حجم الريف كمكان محدوداً في هكذا جغرافية؟
هل يحق للمرء أن يتابع التساؤل عما إن كانت القصة هنا إذن مدينية، على الرغم من حداثة العهد بالمدينة التي كانت حتى الأمس القريب جداً بلدة – أو قرية! – مرمية على الشاطئ؟
المكان في المبدعات الفنية والأدبية عنصر جمالي أساس، عنصر شكل وتشكيلي، وليس ديكوراً. إنه يكوّن – كما يذهب بعضهم – الهوية الجماعية، أو يطبعها بطابعه على الأقل. والمكان من حيث المبدأ، في هذه الجغرافية التي نتقرى قصصها، ليس حجرةً مكيفة أو زقاقاً مغبراً وحسب. إنه في أصله الصحراء والبحر في لحظة خاصة ونادرة من التقائهما. إنه تلك اللحظة الصادحة بالحرية والمغامرة. ويود المرء أن يردد هنا خلف باشلار ما قال في تجربة فيليب ديول في الصحراء والبحر، وما قال ديول نفسه: من المكان المفتوح في الخارج إلى المكان العميق في الداخل (في النفس)، من دراما الصور المادية للماء والرمال إلى التوحيد بين عمق المحيط والمدى الصحراوي، من الغوص في البحر إلى ذرع الصحراء، ولكن القصة هنا لاوية عن ذلك غالباً، فعنايتها شبه موقوفة على المكان العمراني – المدينة – البيت… – والمكان الجسدي – داخل الفرد وجسده، وهما من المكان أيضاً – ولا أحسب أن تعليل ذلك بالجنس الأدبي كقصة مقابل الجنس الروائي مثلاً، سيكون كافياً أو جدياً.
أجل، إن المكان غالباً هنا هو المكان الأليف، العش بحسب باشلار، هو بيت الطفولة الصغير، والبيت المقام اللاحق، مركز تكثيف الألفة. فإذا انتفت الألفة، بات المكان – والنقلة هنا ضرورية إلى الشارع أو الخور أو المدينة… – مركز تكثيف الألفة المفقودة، وتكون العدائية.
لقد نقض ما طرأ على المكان مع المنعطف النفطي من عمران وعلاقات، تلك الألفة الأولى، ولم يكوّن – بعد على الأقل – ألفة بديلة، ويميل المرء إلى أن ذلك لن يكون في المستقبل القريب، فمثل ذلك رهن بالعقود والأجيال، وبالتالي، لن يكون التواصل مع المكان الجديد سريعاً ولا يسيراً، هذا إن كان للاستشراف من متّسع في مثل هذا المقام.
وقبل أن أغادر هذه الفقرة، أعود إلى القصص التي انطلقت بعيداً نحو مكان آخر، نحو مكان الآخر الغربي. فاللقاء بهذا المكان، خلف الصحراء وخلف البحر، لم يأت أقلّ درامية من اللقاء بالآخر نفسه، خاصة المرأة. وإذا كان ثمة من يلخص هذا اللقاء بالإنسان الغربي، والمكان الغربي، والزمن الغربي، في عقد الذكورة والأنوثة والمثاقفة، فإنني أرى فيه لحظة بالغة التوتر والحساسية لوعي الذات والعالم، ومن ذلك تكون تلك العقد وسواها.
الجمالية أساساً ودوماً:
يتكلم السارد أو يصف، يجري الفعل، ينجز الفاعل أو يشهد أو يلاحظ أو يحاور أو يفكر أو يستبطن أو يستذكر أو يحلم. وكل ذلك يكون في إطار محدد من الزمان والمكان، إطار جغرافي وتاريخي، نفسي واجتماعي. والكل المتخلّق يرتسم في علاقات ووظائف تشكّلها المخيلة، ولا فرق في ذلك بين القصّ المتأسس في الوثيقة أو الواقعة، والقصّ المستغرق في النشاط اللغوي أو التخييلي.
كذلك ينهض عالم جديد بقدر ما يقدر عليه المبدع، يشعّ بدلالاته، يمارس في المتلقي أثراً ما، هو المعنى المسرود، لا المعنى بإطلاق، هو جوهر الخطاب المنجز، رسالته، وليس خطاباً بإطلاق، هو شحنة الترميز، لا معادلاته، فالمسرود هو السرد المنجز في العملية السردية، هو القول والفعل وسائر ما يضمره ويوحي به ذلك النظام الخاص للقص.
يبدأ السبيل إلى الجمالي بمعاينة هذا النظام المعقد في أدق تفاصيله وسائر تجلياته. كذلك ينطلق التحليل، ويدأب على مدى السبيل. ولقد حاولت فيما سبق أقارب ذلك. وبالطبع، قد يرجح عنصر ما من عناصر القص في نص دون آخر، قد يتسيّد عنصر ويغيب آخر، وقد تكون ثمة عناصر فاتتني أو لم يتوفر عليها الإنتاج المعني. ولسوف يبدع المبدعون ويتقرّى القراء والنقاد، وعبر ذلك يكون للجمالية خلايا أخرى، ما دام البشر يقصون ويعيشون اجتماعهم ويتأملون ويحللون. وحين يستوفى قدر كاف من هذا السبيل الشائك بين التقني والجمالي، فلا يعني ذلك أننا وصلنا إلى ساحة أخرى، وبات بوسعنا مثلاً أن نتحدث عن القيمي والدلالي. فهذا وذاك إنما يكون بفنيته، بتقنيته، وليس بأية صفة أخرى قد يحملها مجرداً أو بإطلاق. فالصراع بين النوخدة والغواصين لا يعني جمالية قصة ما إلا بقدر ما يتوفر من خلايا التكوين الفاعل، أو اللعب بالزمن، أو حمولة المكان…
لقد اشتغلت قصص جمة مما مر بنا، فضلاً عن كل ما رأينا، بقدر أو آخر من تقنية أجناس أو فنون أخرى، من الشعر إلى المسرح إلى السينما، سواء بتقطيع المشهد أو توليف المشاهد أو تحديد زوايا الوصف أو زوايا الرؤية أو إدارة الحوار أو الإيقاع… ولست أدعي استيفاء سائر ما مورس في الإنتاج القصصي من تقنية، وإن كنت قد سعيت إلى درس الأساسي والغالب، كي تتوفر درجة مؤهلة للحديث عن الجمالي بما هو قيمي ودلالي وتقني في جدل وليس في تراتبية ولا جدولة وعزل.
بوسع المرء هنا – وقد كان بوسعه أيضاً من قبل – أن يتساءل مثلاً عن فرويدية بعض الفاعلين (حميد الأهبل مثلاً في قصة الحفلة) أو محاولة إعادة إنتاج ذلك اللون التراثي في القصّ (القصّ في القص) وما تنطوي عليه إذن قصة ما من قصص أو قصة فرعية، أو ما يتواتر في عدد من قصص كاتب ما، مما يكاد يجل منها شكلاً آخر للقصة الطويلة أو للرواية القصيدة (مجموعة البيدار لعبد الحميد أحمد، وقصّتا هياج وظهيرة حامية لأمينة أبو شهاب)(5).
بوسع المرء هنا- وقد كان بوسعه أيضاً من قبل – أن يفصل في جدل القصة مع شرطها الثقافي والاجتماعي، حيث تربتها ومجالها، حيث ما تتأسس فيه من بشرط حضاري، وما يصدر عنها من هذا الشرط أيضاً. ولقد رأينا من الشواغل الحارة للإنتاج القصصي ما يمكن تكثيفه الآن بوطأة المتغيرات ووقعها النفسي والاجتماعي في شرطها المحدد تاريخياً، في زمانها ومكانها، في منعطفها النفطي الذي زعزع البنية الديموغرافية، وفجر الفضاء القصصي، فلم يعد البحر عينه الذي كان من قبل، ولا الجنس أو الزواج أو اللقاء بالآخر – من أوروبا إلى الهند – ولا التوزع الطبقي أو الصراع الطبقي أو الصراع الجنساني بين الرجل والمرأة، أو مفهوم الحرية والقانون أو البعد القومي العربي – من فلسطين إلى جنوب لبنان…
وينبغي التشديد هنا على ما شعّ به الإنتاج القصصي من زعزعة القيم والأخلاق والسلوكيات، كذلك على ما شعّ به الإنتاج وعبر عنه من ذائقة جمالية جديدة، على الرغم من الفسحة الزمانية المحدودة، وقرب العهد بالسبعينات، أقصى ما يصل إليه الباحثون من بدايات هذا الإنتاج في الإمارات.
ولئن كان العقد أو العقدان كافيين لإزاحة قيم وطلوع وخلخلة قيم، فإن الفترة الزمنية التي تجنّست خلالها القصة، والجمالية التي تحققت لها – ولن ننسى أن هذا الإنتاج ابن الثمانينات – فترة قياسية – بما تعلن من نهوض مباغت دون مهاد، كان عبر عقود في مصر أو سورية أو العراق أو لبنان.. وكذلك بما تعلن هذه الفترة من وشائج مع المشهد القصصي العربي وعيش فيه، أو بما تعلنه من الشغل الحثيث للكتاب، فالموهبة وحدها كما هو معلوم لا تكفي.
وينبغي التشديد هنا أيضاً على هاتين العلامتين الهامتين:
الأولى: ما حقق الإنتاج من الخصوصية، ليس بالمعنى الفولكلوري أو الديكوري أو الاستعراضي، سواء ما يتصل بالبيئة أو الترصيع بالأسماء والعبارات والأمثال الحكمية.. بل بتوفير نكهة المحلي في الإنساني، وأعود من جديد إلى قصتَيّ: البيدار، أشياء كويا الصغيرة.
الثانية: الحضور النسوي في المنتج والإنتاج. فعلى الرغم من أن بعض القصص تنم على الذائقة الجمالية السائدة، أي التي وسمها الذكر بميسمه، فإن قصص النشيد (لسلمى مطر سيف)، والحفلة (لأمينة أبو شهاب) وعبار (لمريم جمعة فرج) وبعد الخامسة مساءً (لظبية خميس) تحاول في ذائقتها الخاصة. وها هنا ثمة الشراعة الهامة التي يؤمل معها أن تقول المرأة قولها الخاص، وتساهم مساهمتها في جذر القص، فلا يكتفى بالتوشيح النسوي وما يجره من انبهار أو ردة فعل ذكورية أو نسوية، وكذلك من علل نقدية. ولا ريب أن ذلك كله مرتهن بشرطه التاريخي العربي البالغ التأزم، الأمر الذي يضاعف من أهمية هذه العلامة ومن أعباء النهوض بها.
قد يقول قائل في خاتمة المطاف إن القصر يطبع هذا الإنتاج، فأين هي القصة الطويلة؟ وقد يذهب آخر إلى أن النزعة التجريبية والمغامرة متواضعة، أو أن الحداثة والتحديث الملوحين ليسا غير صدى لما أنجزت القصة العربية منذ ستيناتها. وقد يقول قائل ثالث إن الهاجس الاجتماعي هو الغالب، ولا يكاد يقع المرء إلا على صدى خافت وواحد من فلسطين أو من الجنوب اللبناني. وقد تثور الثائرة القومية الفصحوية لآخر بسبب ما يتردد في بعض القصص من الحوار أو التسمية باللهجة المحكية – انظر خاصة قصة التعويض لناصر علي الظاهري وقائمة شرح المفردات في ذيلها – وقد يرى سوى هذا (الثائر) في ذلك ضرورة من ضرورات النكهة المحلية، وهذا وحده إشكال جمالي في المشهد القصصي العربي بعمومه…
ولست أنكر ميلي إلى بعض هذا الذي قد يتكاثر قوله في خاتمة المطاف، ولكن دون أن تغفل البصيرة ولا البصر عن هذا الجميل الذي حققه الإنتاج القصصي المعني.
إن هذا الإنتاج يمتح من الراهن في حرص دؤوب، وبما يعنيه الراهن من طوارئ نفسية ومكانية واجتماعية، وكلّ ذلك عبر موقف قلق، انتقادي، يترجع فيه حنين المفجوع، دون أن يتلبس بتقديس الماضي والجمود، ويصل هذا الموقف حد العدائية في حالات كثيرة بسبب فداحة الطوارئ واضطرابها وتوليدها لما يشوه ويعقد الحياة والنفس والطبيعة والمجتمع. ويتلبس ذلك مراراً بالموقف الوجودي، لكأني به رجع مرتبك ومتأخر للوجودية التي شهدتها – في القصة وفي سواها – الستينات العربية خاصة. أو لكأني به أيضاً من مألوف حالات المثقفين الكتاب العرب، وساردي قصصهم وفاعليها الأساسيين، وخطابها الجهير بالغربة والاغتراب والضياع والوحدة والعبث والنزف.. إلى آخر قائمة المفردات المستهلكة.
قد يكون في المتح من الراهن منزلق نحو الآني، العابر، الريبورتاجي. قد يكون فيه اللهاث. والاحتكام في ذلك هو إلى كيفية الشغل والرؤية التي ينم عنها والموقف الذي يعبر عنه، وهو عين ما يحتكم إليه دوماً. وهنا تأتي السانحة ليشدد المرء على زوايا نظر الكاتب إن لم يقل: فلسفته وجملة منظومته الفكرية والأيديولوجية واختياراته الأساسية في الفن والحياة. ولعل النفحة الوجودية التي رأينا كانت صورة ما للانزلاق، للهروب السريع، تماماً كما قد تكون الدوغما، يميناً أو يساراً.
خاتمة أم مقدمة متأخرة:
وبعد…
لقد أسعدني وأفادني أن أقرأ هذا الإنتاج القصصي، وأعيد قراءته، وأحاول تحليله وتركيبه وتقصّي مواطن جماليته. وعسى ألا تكون البيبلوغرافيا وتوافر النصوص قد أوقعاني في أخطاء فادحة، بدءاً من الإطار الجغرافي، إلى الاستنتاجات الرئيسة.
ويهمني أن أعبر أخيراً عن هاجسين، ثانيهما على الأقل ذو صلة بما كتبت.
أما الهاجس الأول فهو جغرافي، قومي، سياسي.. إذ إنني ألفيت نفسي مرة أخرى حزيناً وساخراً ومرتبكاً، كما ألفيتها – مثلاً – حين شاركت في ندوة حول بواكير النقد الأدبي في سورية، حيث واجهت سؤالاً منهجياً يتلبس بالجغرافية والسياسة والقومية. ذلك أن سورية اليوم ليست تلك التي كانت في مطلع القرن، حين كان الرواد يشقون الدرب بمشقة، فهل كان عليّ إذن أن أستثني أحدهم، لأن الاستعمار الفرنسي والإنكليزي قد ورث التركي بعد الحرب العالمية الأولى، ولأن ذلك (الأحدهم) قد ولد في القدس أو في بيروت فيما كانت هذه المدينة أو تلك، كما حمص واللاذقية، كما الشام كلها – وهو ما كانت تعرف به قبل تجزئتها – هي المنطلق والمجال والمآل؟
لقد رسمت الحدود، وتعاظمت وتقدست عقداً بعد عقد. والمضحك المبكي في الأمر أن تلك الحدود تجر خلفها الثقافي العربي من جمّته. وترى واحدنا بالتالي يبحث في هذا الجانب أو ذاك من جوانب الإنتاج الثقافي، داخل هذا الحد أو ذاك، على الرغم من أن الأوان لم يئن، والشرط التاريخي لم ينضج، كي تُتأطر هكذا قصة أو رواية أو نقد أو…
بالطبع، ليس للنزوع الوحدوي أن يدفع بالمرء، لا في الإنتاج الثقافي ولا في سواه، فوق حقيقة المكان، البيئة، الفضاء.. كما ليس للمرء أن ينسى تاريخ الخرائط ورسّاميها السياسيين في رحاب هذا الكوكب المسمى بالأرض، أو على الأقل في الرحاب العربية، والذاكرة وقادة بين مطلع القرن ونهايته.
فإذا ما كان هذا وذاك، فهل للمرء أن يسيطر على ربكته أمام الحدود العربية في مطلع القرن الحادي والعشرين، ويمدّ لسانه لها، وهو يتبصّر أعمق فأعمق في جمالية المكان، ما دام البحث في القصة؟
الهاجس الثاني: هو ما تبدى من خلال متابعتي لما يقال هنا وهناك، في الرحاب العربية، في الدوريات والجامعات والكتب.. وكذلك ما يتبدى من خلال احتكاكي ببعض النشاطات الثقافية في هذه البقعة العزيزة. ذلك أن الانتهاز والارتزاق والغش والتدليس قد اعتور بعض ذلك، على أيد قادمة من خلف حد عربي أو آخر، فعلا التطبيل والترميز. ولئن كان ذلك يشنف بعض الآذان، فهو خطر جدي على سواها ممن لا يعنيه إلا الشغل الدؤوب. إن ذلك يعقد على الأقل من صلة مثل هذا الشغل بمحيطه الثقافي العربي.
تلك على أية حال نفثة، ودعوة للتفكر، ومن قبلها كانت المحاولة المتواضعة في تلمّس جمالية الإنتاج القصصي في الإمارات، كجزء من المشهد القصصي العربي، فعسى أن يكون بعض الهدف قد تحقق، فيجد قارئ ما أو كاتب ما أو ناقد ما بعض ما يفيد أو يثير أسئلته ويحفز همته.
هوامش:
* قدمت في الملتقى الثاني للكتابات القصصية والروائية، الشارقة 15 – 18 تشرن الأول – أكتوبر 1989.
1) تذهب نورية الرومي في مجلة فصول، سبتمبر 1982، ص 245 إلى أن بيئات خليجية أخرى، سبقت إليها نقلة النفط، قد سبقت الإمارات إلى القصة، ويحدد محمد عبد الله المطوع في بحثه المقدم إلى ندوة الأدب في الخليج العربي، والتي نظمها اتحاد كتاب الإمارات عام 1988 ظهور القصة في الإمارات في بداية السبعينات، مع المرحلة الأولى لنشوء الدولة الاتحادية.
2) يمكن العودة هنا إلى الفصل الثالث (في جمالية المشهد القصصي العربي) من كتابي: في الإبداع والنقد، مذكور سابقاً.
3) على سبيل المثال الناصع: أدب الكدية في العصر العباسي، مذكور سابقاً.
4) لنلاحظ معادلة سعيد عبد الله لمدينة دبي بالمرأة الجميلة والغبية والمملوءة بالصراخ الأهوج، في قصة (صفعتان) لعبد الحميد أحمد.
5) تلح هنا مجموع وليد إخلاصي (حكايا الهدهد)، كذلك: (الجبل الصغير) لإلياس خوري.