حينما يعود أحمد محمود عبد الحفيظ من تسكعه النهاري بانتظار أن يسمع من الشركات التي يقصدها بوظيفة ذات مرتب شهري ثابت في موعده، يحاول أن يعرّج على تلك الغرفة الملحقة بكراج البيت الشعبي، والتي تحولت لمأوى يمكن أن يدر مالاً، والتي يماطل في دفع إيجارها من شهر إلى شهر، راضياً بزيادة المرابي وفائدته التي يفرضها عليه في عز عوزه، وقهر نفسه!
حين يدلف ذلك المكان الذي عد لمشروع فقير غير مؤمن كثيراً، تنقبض روحه، فأحمد رغم التعاليم الدينية التي لحق عليها في نهاية عمر جده الشيخ عبد الحفيظ، إلا أنها لم ترسخ، إذا سرعان ما بددها الفقر والهروب، وما عند الناس، ولم يرزق بشيء منه.
أحمد مخلوق يعد نفسه شبه آدمي، يمشي على أربع، على رجلين، وعلى رزقه، وتحقيق حلم حياته، يسكن غرفة غير مهواة، لا تعرف من أين تشرق الشمس، ومتى تغرب، ثمة رطوبة وعفن ورائحة للنوم مميزة، جدرانها المتقشرة يغطيها بصور لفنانات فاتنات، يقطعها من المجلات الملونة، ويجعلها تستقر على الجدار، وتستر تشققاته، مثلما تستره هو في الليالي العصيّة، حين يشتهي شيئاً غير الأكل، تظل عيناه تدوران على ملصقات الحائط، يتقاسم أعضاء الفنانات، حتى تتكسر أضلاعه، ويهمد في نوم سيطول.
حين لا ينام أحمد يظل يتفرج على ممتلكات الغير الملصقة على الجدار، صور لبناطيل سوداء، وبدل مقلمة لماركات إيطالية، سيارة حمراء رياضية، طالما سعد لو كانت ملكه، يسوقها وهي مكشوفة، مع بنت شقراء، يلعب الريح بشعرها، وهو يغني معها بصوته الأجش أو يرفع من صوت مسجل السيارة ليردد معه أغاني هابطة، تعطي لشخصيته لا مبالاة ذلك الطالب الجامعي الخالي من المسؤولية، والمعتمد على أسم أبيه في المجتمع.
فجأة يفيق أحمد مبحلقاً في أثاث غرفته الهزيل، خزانة نايلون، سرير من محلات الأثاث المستعمل، علاقات ملابس على الجدار عليها بناطيل مهترئة ، ومغسولة، ومتقرفصة من الماء الذي ظلت تشربه مدة يومين، بنطلون بني فقد سمعته، وساقة مقلوبه، قمصان فاتحة ذراعيها، أحذية غابت عنها اللمعة منذ أمد بعيد، بعضها تجد أثر إبهام القدم اليمنى ظاهراً، ومعلماً بانتفاخ بارز يشق الجلد، الزنوبة سطحها الأبيض، أصبح أسود، وكعبها ممسوحاً من طرفه، وأثر أصابعه الرطبة واضح عليها، بل تكاد أن تكون تلك النعال أشبه بالأحفورة!
مرآة وحيدة مغبشة في تلك الغرفة، والتي تستقر فوقمغسلة صغيرة على حوافها صابون حلاقة، وبقايا معجون ملتصق بها، وفرشاة تآكلت أسنانها، وصابونة غدت كالقشرة، وبقايا شعر هنا وهناك!
في تلك الغرفة التي يقطنها أحمد، ثمة صدئ واضح على أنابيب السخّان، أما الفوطة الوحيدة والتي أصبحت مرتخية من كثرة الاستعمال، فتناسلت خيوطها، وبدا الضوء يخترقها، المكيف الذي يسكن النافذة، صوته أشبه بصوت كلب أجرب، وهواؤه فاتر، المنبه الذي عادة ما يتأخر ثلث الساعة، يتقعمز على طاولة صغيرة، تزاحمه عليها كتب لا فائدة منها، ودواوين شعر ركيكة، تلفزيون صغير بهوائي مكسور، ومقطب من طرفه، وشاشة ذات صور مغبرّة، أما المسجل والذي يظل يبثه آهاته وتنهداته وأحلامه الجنسية غير المكتملة، فإحدى سماعتيه صمخاء، وتكاد تدفنها الأشرطة المنسوخة بدون حق، لوردة ولمطربين شباب غير متحمسين كثيرا للمهنةً.
في تلك الغرفة هناك صورة شخصية لأحمد أخذت قبل سنوات في “استوديو الشباب” الذي احتل ناصية في قريته، في تلك الصورة يبدو أحمد واثقاً من نفسه مع ارتجافة في البرطم السفلي، يحيط به ورد بلاستيكي، ومنظر طبيعي خلاّب لحديقة زهور في هولندا، لا يتناسب كثيراً وأجواء المنطقة، مع ربطة عنق هي كماء السبيل في الأستوديو، ظهرت على صدور الآف الشباب من القرية، حينما يريدون أن يدخلوا في خدمة العلم أو حين يظهّرون جوازات سفر لن تستعمل لمدة طويلة، تلك الصورة بالأبيض والأسود والتي لونها فيما بعد المصور، ليس فيها ما يلمع إلا تلك الساعة الذهبية التي أصر أحمد أن تظهر في الصورة، وهو في وضعية التفكير العميق ويده تسند ذقنه!
بعد سنوات من التغرب في الخليج، وتبدل أماكن العمل، وفقر التصق بجلد أحمد، وشبه انقطاع عن عائلته التي لا يعرف كم أصبح عدد أولاد أخوانه، وأخواته المتزوجات في أي بلد غير ليبيا، فقد كانت الأم هي حلقة الوصل، وهي التي كانت تسرّب له أخبارهم المفرحة فقط، لكن منذ دفنت العجوز، ولم يحضر جنازتها، ما عاد يسمع أو يهتم بشيء.
في السجن الذي دخله أحمد بسبب الديون والنصب، وبداية ظهورعنف علني عليه، انفتحت له نافذة جديدة من خلال حديث الحاج عبد الصبور اليومي عن معنى آيات في القرآن، وأحاديث مختارة، وتوجيه طاقة الغضب إلى عدو الدين، وعن حورية من باكستان، لم يطمثها أنس ولا جان، هي زوجة الدنيا، إن هاجر إليها هجرة يحبها الله ورسوله، غير زوجات الآخرة إن أستشهد في سبيل الحق، ومال شهري، وإخوان يحبونه في الله، ويسألونه العفو والعافية.
ترك أحمد الإمارات، وأستقر في الجنة الموعود بها سنوات الجهاد والرماد، غابت أخباره، ولم يكن لأحد أن يذكره أو يتذكره، لولا ورود أسمه في قائمة المرحلين إلى سجن غوانتانامو مربوطاً بقوائمه الأربع!