كنت أجلس على طرف السرير أراقب زوجتي عبر المرآة وهي تضع ظلالاً زرقاء على عينيها شعرت بما يشبه الذنب يجتاح مرابع نفسي.. كم هي مسكينة «أيونا».
لو أنها تدري بالسبب الذي دفعني لأن أدعوها للخروج معي، لو تدري ببالونة الفكرة التي نفختها أحاديث والدتي والجيران وزادها حجماً لوم أصدقائي حتى انفجرت على ذلك القرار..
قرار اتخذته بعد ليالٍ طويلة من التفكير والتردد.
انتبهت على صوت «أيونا» تسألني بلهجتها الإنجليزية الرنانة وهي تتابع النظر في المرآة ها.. ما رأيك؟ إنني جاهزة..
لم أعلق.. هناك ما ألزمني الصمت وقمت متجهاً معها للسيارة وانطلقنا.. قالت أيونا وهي تمد يدها لتشغيل جهاز التكييف: إنها المرة الأولى التي تدعوني فيها للخروج وحدك ودون طلب مني لو استثنينا سهراتنا الجميلة في «الكوينزوي» و«الناتيس برج» أتذكرها یا سلطان؟
أشعلت عقب سيجارة وهززت رأسي مؤكداً.. كانت أيام، قابلت فيها أيونا صدفة عندما كنت أعيد بدلة اشتريتها من أحد المحلات في «الناتيس برج» ثم لدى عودتي للفندق اكتشفت بأنني امتلك واحدة بلون قريب، حاولت إقناع البائع بأن استبدلها بأخرى فلم يقتنع.. كان عنيداً وظل يجادلني في أمور تافهة لولا مساعدة أيونا.
تدخلت بهدوء وحلت المشكلة مع «کلیف».
صاحب المحل الذي عرفت فيما بعد بأنه ابن خالتها.
منذ ذلك اليوم صرت ألتقي بها دائماً وكثيراً ما أدعوها للغداء فلا تمانع ثم انتهت لقاءاتي معها بالزواج.
التفت إلى أيونا فرأيت أنها قد استلت عقب سيجارة من علبتي وأخذت تدخنه وقد شرد بصرها للبحيرة التي تلمع حولها أضواء ذهبية.
ياه.. منذ متى لم آتِ إلى هذا المكان.. قبل أن أتزوج كنت اجتمع مع سالم ومحمد وعلي وبعض الأصدقاء قرب بحيرة «خالد» نفترش سجادة صغيرة مرفقة دائماً بسيارة «علي» ويرتفع صوت عبد الحليم حافظ منطلقاً من مسجل سيارتي المفتوحة ونلعب الورق.. نشرب شاي المساء ونستمع لتعليقات محمد المضحكة.
عندما عدت ومعي أيونا حدثت انقلابات كبرى في حياتي بدأت بالمنزل، توسلت طويلاً لوالدتي حتى تسمح لأيونا بالعيش معنا وعندما أعطت إشارة الموافقة أحسست بأن الأمر قد جاء على حساب راحتي.
أصبحت أيونا هي بداية الخطيئة في نظر والدتي.. إذا أبديت رأياً يبتر من أساسه لأن آرائي لم تعد ذات حكمة بعد أن قادتني للزواج من هذه الأجنبية الشقراء، حتى عندما كنت أعطي علياء بعض نصائح الأخ الأكبر كانت والدتي ترى أن كل نصائحي مجنونة لأنني تزوجت من أيونا لمجرد أن الحاج «سالم» قد طلب مني كنزاً من الآلاف مهراً لابنته. كم من المشاكل كان سببها دخول أيونا منزلنا.. اشتاق للراحة بعد يوم عمل متعب لكن ما أن أدخل حتى تفرد أمامي قائمة الشكاوى اليومية..
معظمها تافهة..
«أيونا أدخلت قطة الجيران من النافذة فكسرت الزهرية التي تزين الطاولة».
«زوجتك عجزت حتى عن غسل بنطلونها «الجينز» فرمته في سلة الغسيل كي نغسله لها»، «أيونا علت من صوت المسجل، أيونا خرجت دون إذن … و.. و..»…
وكنت أتجلد بصبر طويل وأحاول الوقوف في صف أيونا عندما ألمح في عينيها رجاءً خفياً بأن أفعل شيئاً.
أيونا ترفض كل حلولي… تقف في وجهي:
- لا أستطيع مساعدة والدتك في المطبخ فرائحة السمك تخنق أنفي.
- لن أقضي يوم الأحد حبيسة المنزل لمجرد أنني في هذا البلد.
- لا أقبل أن أرتدي مثلما ترتدي أختك علياء فهذا النوع من الملابس يعيق حركتي ولا أستطيع أن أكف عن التدخين في منزل تتقاذفه المشاكل، ولا… ولا…
قطعت عليَّ أيونا أرسان أفكاري وهي تمسح رماد السيجارة التي نسيتها بين أصابعي فانتثرت على دشداشتي، قالت في هدوء:
- حدثت والدتي وأخي «مايك» عن بلدك أكثر في رسالتي الماضية، قلت لها بأنني استمتعت بالوقت على شاطئ عجمان مع أختك علياء ووالدتك… ووصفت لهما أسواق دبي في الليل وحدثتها كثيراً عن الشارقة.. بقي أن تصحبني للعاصمة.
ثم رأيتها تعلق بصرها بالنافورة التي تتوسط البحيرة.
وتسألني: جميلة أليس كذلك؟ ألا تباع بطاقات بريدية لها.
لقد شاهدت عدة بطاقات بريد في أكشاك الباعة الهنود تصور بحيرة خالد في الليل، لكن أين سأجدهم الآن؟
- ربما يمكننا شراء بعض البطاقات غداً.
أخرجت مرآة صغيرة من حقيبة يدها وأصلحت مكياجها ثم سألتني:
إلى أين نحن ذاهبان؟
نظرت للأنوار التي يلبسها منزل الحاج سالم من بعيد، إنه فرح «عائشة» زوجها تاجر ثري استطاع أن يدفع المهر الذي زلزل سمعي.
أشرت إلى المنزل وقلت لأيونا: سنذهب للفرح. إنني على يقين تام من أن عائشة لا ترغب في هذه الزيجة وقد قرأت في عينيها حزناً عميقاً لدى آخر زيارة قامت بها لعلياء…. وصلنا لمنزل الحاج سالم وقد انقلبت الساحة المجاورة له إلى مسرح عج بالرجال والنساء والأطفال الذين توافدوا لمشاهدة الرقصات الشعبية.
وجه أيونا المملوء بالدهشة، إنها ترى مظاهر الاحتفال بالأفراح لأول مرة منذ وصلت، كان فاها مفغوراً وعيناها تتابعان حركات الرجال وهم يتمايلون بعصيهم.. ويبدو أن الحركات قد بهرتها فسألتني في دهشة: ما هذا يا سلطان؟
كنت متوقعاً منها سؤالها الفضولي هذا،
أجبتها وأنا أفتح باب السيارة:
- إنه فرح.. ابنة الرجل صاحب المنزل ستتزوج.
- وهل يحتفل الجميع بهذه الطريقة؟ هل هذا الرقص دليل الاحتفال؟
- إنها فرقة شعبية، معظم العائلات يستدعون أصحاب الفرق الشعبية ليشاركوهم أفراحهم.
- هل يستطيع أي شخص أن يرقص معهم؟ أنت مثلاً؟
يا لأيونا فيما تفكر!
أجبتها وأنا أتناول «المسبحة» المعلقة حول مرآة السيارة: – ربما يستطيع البعض لكن أنا لا … لا أعرف.
- إنها حركات بسيطة، ماذا تطلقون عليها؟
- «العيَّاله».
- ضحكت أيونا للتسمية وحاولت نطقها خلفي:
- «أيّاله».
عادت تراقب المشهد، ربما تظنني قد أحضرتها لهذا الغرض «الفرجة على الفرح». تأملت تضاريس وجه أيونا الجالسة قربي وهي تراقب الصغار بملابسهم الزاهية. عيناها زرقاوان… وجهها نحيل ومغطى ببعض النمش وشفتاها واسعتان، ترى ما الذي أعجبني بها؟!
هل صحيح ما قاله محمد «إنني تزوجت أيونا لأثبت وجودي للحاج سالم» كيف؟
هناك فروق كثيرة كبيرة، تراءى لي وجه عائشة المجبول بالخجل.. عيناها سوداوان
ولها شعر فاحم كالليل حتى صوتها يحمل بحة دافئة قريبة للأذن.
يبدو أن أيونا أحست بانشغالي عنها:
ما بك يا سلطان؟
كانت أصابعي تلعب بحبات «المسبحة» في محاولة لأن أجد ما أبدأ به الحديث…
هل أقتل الفرحة المنبعثة من عيني أيونا؟
قلت وأنا أحاول أن أبدو طبيعياً:
- أتدرين بأن العروس هي صديقة حميمة لأختي علياء وكثيراً ما كانت تزورنا.
قالت أيونا وهي لا تزال محتفظة بابتسامة فرح على شفتيها:
أين هي العروس؟ كم أتمنى أن أراها.. لا شك بأنها جميلة.
كنت أتمنى أن أتحدث عن عائشة وقد أعطتني أيونا هذه الفرصة فلماذا أرفضها؟
- نعم، إنها جميلة وقد كنت راغباً في الزواج منها.
سألت أيونا بدهشة:
- ولماذا لم تتزوجا إذن؟
- تقدمت لوالدها.
- رفضتك؟
- لا… والدها هو الذي طلب مني أموالاً كثيرة مقابل الزواج من ابنته.
- كم مثلاً؟
- كثير… كثير جداً يا أيونا، أرقام لا تتعاملون معها في حياتكم العادية.
- ولماذا فعل ذلك؟
لم أعرف كيف أجيبها… لماذا فعل الحاج سالم ذلك؟
لماذا طلب مني ذلك المهر التعجيزي وكسر أول جذور الأمل في نفسي؟
… إنه غني.. رجل مليونير فلماذا يرغب بالمزيد؟
لكن لا… ليس الحاج سالم وحده، السيد سيف والتاجر عمران وغيرهم، والد عائشة لم يأت ببدعة.
لا أدري لماذا ينتابني شعور بالألم كلما تذكرت عائشة… كنت أحبها وما زلت أحبها.
كأن أيونا قد قرأت أفكاري، زالت الابتسامة المرسومة على شفتيها وسألتني: أما زلت
تحبها؟
- نعم.
تجاهلت أيونا إجابتي، التفتت للجهة الأخرى.
لماذا صارحت أيونا بكل شيء؟ هل إنني أمهد الطريق لاطلاعها على قراري دون أن أشعر.
قالت وهي تعبث بخواتم أصابعها:
- هل جئت بي إلى هذا المكان لتجرحني بذكرياتك القديمة،
دعنا نعود للمنزل فقد بات هذا الجو يخنقني.
عدت للتلاعب بحبات «مسبحتي» من جديد وواريت التردد في لهجتي:
- ليس قبل أن أطلعك على قراري… القرار الذي دعوتك للخروج من أجله.
رفعت حاجبيها بدهشة: أي قرار؟
قلت دون أن التفت إليها:
- لقد أخذ كلانا فرصة كافية للتجربة يا أيونا والنتيجة لا تشجع على الاستمرار … من الأفضل أن ننفصل فإن أحدنا لا يناسب الآخر.
عندما رفعت رأسي لأرى وقع الخبر عليها وجدت دموعاً لؤلؤية قد تجمعت في عينيها ثم سقطت عيني على يديها ترتجفان وكأنه قد آلمهما برد الحقيقة انتظرت لتقول شيئاً لكنها لم تفعل، مسحت دموعها سريعاً وتحكمت في رعشة يديها وعدنا للمنزل.
دخلت أيونا بسرعة إلى الغرفة ورأيتها تجمع كل ملابسها وتضعها في الحقيبة التي كانت قد أحضرتها معها منذ أشهر.
جلست على السرير أراقبها بصمت فامتدت يداها للدرج وأفرغت كل محتوياته على أرضية الغرفة ثم انتشلت قلم الكحل وزجاجة عطر صغيرة وأعادت الباقي الذي كنت قد اشتريته لها للدرج.
بعد أن انتهت من كل شيء نظرت إليَّ قائلة:
- متى يمكنني أن أعود إلى لندن؟
قلت في محاولة لتهدئة الوضع:
- ولم العجلة؟
لم تعلق… ألقت عليَّ أوامرها في عصبية واضحة:
- تنهي إجراءات الطلاق غداً وأسافر.
في اليوم التالي أنهيت إجراءات الطلاق كما طلبت أيونا وفي المساء صحبتها للمطار وكانت علياء ترافقنا بينما رفضت والدتي المشاركة في وداع أيونا … كانت أسعد الجميع بقراري.
سمعت أيونا تقول لعلياء وهي تودعها بينما نظراتها ما زالت معلقة بي:
شكراً لكم على الضيافة … بلدكم جميلة لكن كان يجب أن أعود إلى بلدي يوماً ما.
وتابعت أيونا بحسرة إلى أن صعدت سلم الطائرة وغابت عن الأنظار..
عندما عدنا للمنزل رأينا والدتي تبخره كأنها تطرد رائحة عطر أيونا منه… راحة كبيرة مرسومة على وجهها وتابعت طريقي للغرفة… كانت خالية، اختفى المسجل الذي كان يزعج والدتي وخلا الدولاب من البنطلونات «الجينز» التي تزيد بها أيونا كومة الغسيل.
على الدرج كانت علبة سجائر أيونا مرمية بإهمال وقربها رسالة كانت أيونا قد كتبتها أمس لوالدتها ونسيت وضعها في البريد.
جلست على السرير وتناولت الرسالة إنها كل ما تبقى لأيونا في المنزل، فتحتها وحاولت قراءة ما كتبته لوالدتها… خطها منظم وسهل القراءة:
والدتي العزيزة:
أكتب لك رسالتي بعد أن وجدت نفسي فاضية، الجو هنا حار رغم أن فصل الشتاء قد اقترب، سلطان عاد لتوه من العمل وقد دعاني للخروج معه هذا المساء.
أشعر بأن هناك ما يريد قوله لي سلطان يحب الأطفال كثيراً ويدلل أبناء خالته وأغلب الظن أنه سيتحدث معي في موضوع الإنجاب، سلطان يريده صبياً وكذلك والدته على ما أعتقد لكنني أريدها فتاة.
لو أن سلطان فاتحني في هذا الأمر فلن أستطيع أن أخفي عنه المفاجأة فترة أطول من هذه، سأخبره بأنني حامل وسيفرح… لا شك سيفرح.
انتظري مني رسالة أخرى مليئة بالتفاصيل وبلغي تحياتي إلى أبي ومايك.
ابنتك المخلصة أيونا
منشورات اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات
فازت هذه القصة بالجائزة الثانية