مريم جمعة فرج

الريح

إذا تضايق يغني، إذا فرح يغني، إذا لم يكن عنده شيء يغني، كان شغوفاً بالغناء. تسير الأمور بشكل أكثر من الطبيعي منذ الصباح، الألواح والمسامير والعدة جاهزة منذ يومين وقد لا تروقهم الفكرة، لكنه يستطيع أن يقوم بما يقوم به عامل بناء.

: هذا السقف يقوم اليوم!

التصق الصغير بأمه، صارا يتهامسان عن مطر الموسم الماضي، وعندما يتربع الوالد والوالدة تحت اللوزة الخضراء يكون الأمر هاماً والهمس ذا شجون وربما تشاجرا أيضاً، يدفنان حديثهما تحت اللوزة ولا أحد يدري بعد ذلك ما يفكران فيه، وعلى رأي أم ربيع

: كل شيء مدفون تحت التراب!

كانا يجلسان كل مساء وسط الحوش على فنجان القهوة الذي يكون له مفعول القوة في تخفيف آلامهما، ينبش الوالد التراب بأي شيء يكون في يده وبعصبية، لا يصل أي شيء من حديثهما حتى إلى الولد، ينهره الوالد وهو يلوح بالمنشار في يده، لا يحرك ساكناً، يكون غارقاً في التفكير، يضع الدفتر في حجره وعينه باتساق مع الكلام الخافت ولا أحد يعرف كيف تصل الهموم إليه رغم أنه لا يملك أشياء تدعو إلى التفكير.

عاد كل منهما يحملق في وجه الآخر، هز ربيع رأسه وقال بصوت مرتفع، لا شيء لا شمس، وظل كثيف يتسلق بشرته الداكنة عند رأسه الكبيرة وأنفه التي تخرج كالفراغ من جسده

: ولد ما يخصك في كلام الكبار!

أما الأب فلم تكن تعجبه حركة عينيه ويستعيذ بالله من موت قلبه وقلة فائدته فالفرق بين ربيع وسرور يشكل مسألة غير متعادلة في مزاجه، الأب اعتمد عليه أهله قبل أن يخط شاربه أما ربيع فلا يقدر على شيء.

آخر الأخبار البحر ممتلئ والهواء شمال، الغيم كثيف، الشمس ما طلعت طوال النهار وأشياء أخرى يراها ويحس بأنه لا يقدر على شيء بمقدار ما في نفسه من حماس.

: لا شيء قام من مجلسه.

تخالفت رجلاه المتيبستان، وبذل محاولة لتليين عضلات ظهره اليابسة بكلتا يديه حرك رأسه في كلا الاتجاهين ومد رقبته ثم رفع عقيرته مغنياً – ثم احتضن وجهه كما يكون خجلاً.

كان نجاراً، دمعت عيناها لأنها تعرف تماماً ما حمله على هذا وتراه يحلم – الحمد الله يا رجال الحمد لله – قالت له باستهزاء نعرف أنك غاضب – فكر في كلامها – ضحكا – مرغا رجليهما في التراب بللتهما الرطوبة زعق في وجهها

: شوفي يا مباركة، من هو الذي حلف أن جدار الحجرة الصغيرة سيقع على رؤوس العيال – اسكتي أنت لا تعرفين شيئاً. صمتا، أغمض عينيه برهة ثم تناول المنشار، اتكأ عليه وأمسك بقبضته ثم بحركة سريعة أصبحت بمحاذاة عينيه أشار إلى البناء الذي لم يكتمل وكأنه يتحدى.

: ما فيه شيء الجسر يتحمل. ثم ثبت رجله على اللوح وأخذ نفساً عميقاً فانتفخ صدره وانطلق المنشار في يده صاعداً – جففت دموعها، وتوقف العجوز، أسرعت إليه ووقفت بمحاذاته تماماً ونفضت ظهره ووجهه.

قالت: أحلامك مثل نشارة الخشب كثيرة، ولكنها تتطاير بسرعة، تحلم كثيراً ولا تحقق شيئاً!

قال لاهثاً يذكرها بخيبته: ما رقدت أمس كنت افتكر. استدار، طفحت عيناها، اجتذب نفساً عميقاً فعلت هي مثله، شعر بصدى أنفاسه لم يكن غيره هو وهي تحت اللوزة ولم تكن المرة الأولى التي يردد فيها الكلام نفسه بحرقة. الحرقة ذاتها التي عاد بها أمس ما زالت تلهب صدره وقد تدخله في مرض أو مشكلة.

قال: يوم وصلت لأستلف وجدت أناساً كثيرين وكنت خائفاً منهم، رأيت الشباك مفتوح، صدقيني يا مرة وأنا قاعد سألوني عن هويتي وعن بلدي وأخرجت كل شيء.

استجوبوني قلت أنا عامل، ما كذبت ولا عندي ورقة بيت، استقبلوني بوجوه باردة ونظر الموظف إلى معصمه وطردني، فسرت من أمامه، لا بارك الله فيها من ساعة. أحس باغتراب ابتعد منهكاً ولم يتفوها بكلمات كثيرة، تذكر الجسر والخشب والمسامير وحمل المنشار، تحرك المنشار في يده – نشطت الأشياء من حوله – حركت ريحاً خفيفة الغيوم، بددتها تلون وجه السماء ثم اكفهر، أسفر التحرك عن ريح كالحة اللون.

تراءى له الجسر مهزوزاً وأحس بأن الريح قد جاءت لتهدمه ثم جفت ريقه ووصل التراب إلى داخله فألهب فيه رغبة في عمل شيء، ووقف مشدوهاً، تضايقت، صرخ الابن وصرخت، وعصفت به الريح من كل الاتجاهات شيئاً ضيع الكثير من حلمه وأشعره كم هو ضئيل عندما يريد أن يعمل.

كان نجاراً وكان يقوم بعمل عشرة من الرجال وكان أهله يعتمدون عليه أجاب، «الدنيا تغيرت وصارت أكبر من أن تحفل بالمساكين»، انتفض، كور راحته حول فمه وصرخ: ماذا لو مت.

لم يعد يرى أو يسمع صراخ أم ربيع أو آدمياً، أحس ساعتها بالموت. ما حدث ذلك المساء لـم يـمـتـه ولكن حطم أعماقه، سقطت الدموع من عينيه الحمراوين ممزوجة بالتراب والماء، وسحبت أسقف الصفيح كما تسحب الأقنعة، وترنح مدفوناً في التراب

  • لا الحوش حوش، ولا الرمل رمل، ولا اللوزة لوزة.

صرخ، تكور، ووضع رأسه بين فخذيه وفوقها ذراعيه وغمره المطر وبين بقايا الأشياء جاء صوت زوجته، كانت تتحسس جسده ببطء مارة بأطراف أصابعها على ذراعه

: بو صابر قوم.

فيروز

مريم جمعة فرج

قصص قصيرة