عبد الرضا السجواني

سعيدة

هدوء مخيف يتقاطر وحشة، قد نشر جناحيه في كل أرجاء المنطقة «ص»، وليل جاثم على صدر الأرض، يكتحل بسواد تلتمع فيه بضعة أضواء، تطل في سبات، من فوق أبواب البيوت الشامخة، التي ترتدي أبهى حللها العصرية.

وعندما ضُغط زر جرس باب بيت «بو إبراهيم» ولم يُفتح الباب تتالى الطَرق الشديد على الباب الحديدي، الذي يئنُ من تآكل أطرافه، إثر الصدأ الذي تغذيه الرطوبة في انتظام.

تناوب الضغط على الجرس، والطرق على الباب بقوة أكبر، ففر الهدوء من بين البيوت الاسمنتية العتيدة.

صَحَت الكلاب من نومها، مرسلة نباحها في امتعاض، تنبئها أحاسيسها بأمر ما، يتولد في غياهب من محن هذه الجدران الشاهقة. في حين استيقظ «بو إبراهيم» وزوجته، وبعض أفراد العائلة، إثر هذا الصوت المتعالي من الطَرق، والذي ابتلع قليلاً من وحشة الظلام، زارعاً عِوضاً عنه هَلَعَاً!

«مَنْ الطارق.. وفي هذه الساعة؟!»..

حارت العقول، وهي تتوجس خيفة، والساعة تقترب من الثانية صباحاً، وتوقعات تمتزج متصارعة بالمشاعر.

سارع «بو إبراهيم» من خطواته، رجع مرة أخرى إلى زاوية من البيت. دوماً يخبئ في هذا المكان أداة لازمته زمناً منذ أيام الحيّ التليد، يستعين بها لمثل هذه المواقف.

تناول عموداً قوياً من الحديد، وتوجه بقدميه المتسارعتين والمضطربتين، اللتين تداعبان طرفي إزاره المترامي.. جهة تلو جهة. ونبضات، وكأنها طبول عدة تدق في صدره. وعيون زوجته وأبنائه في اتساع من جحوظها، مترقبة، مستشفة ماهية الطارق … إنس أم جن! والطَرق في تتابع …. يعلو ويعلو، ونباح الكلاب يقترب أكثر من مسامعهم!

  • «مَنْ…؟»

هتف «بو إبراهيم».. ولم يزد شيئاً آخر.

–  أنا سعيدة .. جارتكم، افتحوا لي الباب!

ألقت عبارتها بنبرة فيها الخوف بكامله.

فهبط الهلع والتوجس إلى قاع الأرض. متلاشية كل التوقعات بالأوهام من أذهانهم، ذائبة في الأجواء الرطبة، من ليلٍ قد انقضَّ بسواده، معتصراً كل ما حوله بقبضتيه الخارقتين. شاخصاً في اندهاش إلى الأبنية المتعالية.

امتدت أصابع «بو إبراهيم» إلى ضفة الباب حائرة تهمُ بفتحه، وإذا به يرمي بصره أرضاً، تعقد لسانه الدهشة!!

دعاها إلى الدخول وهو يهتف منادياً على زوجته، وهو في تراجع مبتعداً عن طريقها. ثم أوصد الباب، في حين لم تزل الكلاب في نباحها، وبعضها متسمر أمام عتبة الباب الخارجية، في أنيابها الملتمعة بالضوء، الذي يعتلي جبهة الباب الخرسانية.

تدحرجت أنظاره إلى الأسفل، فلم ير تلك الحمرة الزائدة عن حدها، والتي تملأ وجهها، تزينه.. وتضفي عليه طابعاً آخر. وشيئاً من سواد بمصاحبة اخضرار، قد توزع على بعض المواضع من محياها، المذعور بسكنة الليل، التي تخبئ في أحشائها براكين ثائرة في جحيم العصيان والتمرد!

ولم يلحظ تلك اللآلئ، التي تناثرت منها، ولم يلتقطها أحد، بعد انقطاع عقد وئامها، الذي تقلدته أياماً معدودة فحسب. فقط رسم في مخيلته علامات من الدهشة والاستغراب. بوده لو تمكن من مسحها وإزالتها بمعرفة جلية الأمر!

أخذتها «أم إبراهيم» الى الداخل، تهدئها. مخففة عنها مما هي فيه من جزع، تغلبها عبرتها في نشيج مر، لا يدع لسانها من التعبير مما هي فيه. بعدما أتت «أم إبراهيم» بثوب يتناسب معها وألبستها، وهي تكفكف دمعها فيهطل من جديد. فتعاود كفكفته.. وآلام في فؤادها، اختلطت بآلام أخرى، شكلت تقاطعاً من سيمفونية عذاب، تُحاول أن تلتقط بعض أوتارٍ من تفاصيل حياتها لتعزف ولو من النهاية، علَّ ذلك يكون مخرجاً للتنفيس عما يعتريها!

  • ماذا حدث يا ابنتي «سعيدة»…؟

لم تعرف بماذا تجيب!

  • ما هذه العلامات المتوزعة على وجهك؟!

غرقت في نشيج آخر..

–  أخبريني بالله عليك..

صمت أخرس، وهدوء.. إلا من ترانيم نشيج، وهما وحدهما منزويتان. وليل يمضي في تثاقل، يبث طلاسمه في ظلامه الدامس، ويؤسس قواعد له من الاستغراب في أوج عتمته.

 

وإضاءة من نور تومض في رأس «أم إبراهيم»، يكاد لسانها أن يُشعل فتيلاً، يفجرُ غداً قضيته، في حضرة أحاديث النسوة في كل مكان!

تكبح من جماح لسانها من الانفلات متريثة لها في انفراج صدرها ليبوح عما بدواخله. غير أن صبر «أم إبراهيم» قد نفد على لظى وجه «سعيدة» المتوقد:

هل زوجك الذي……؟!

في إيماءة منها إلى الأسفل، اعتصرت وجهها بكفيها.

  • وبهذا الشكل…!

نشجت بصوت مسموع، فسقت زهرتين، قد ذبلتا منذ زمن.. وألم متزايد تخترق سكاكينه نياط قلبها المنفلق.

  • لا وفقه الله.. أبهذه الوحشية؟!!

في حين آثرت هي المضي في صمتها. يتراءى لها أبوها في صوته الجهوري، وهو يلح عليها في زجر: (يا ابنتي، خذي نصيحتي … «صالح» أنسب زوج لك. يملك كل ما تحلمين به: بيت فخم.. أرصدة وأموال طائلة، ومنصب جيد. ودائماً هو بقربي أو أمامي، يصلي معنا في المسجد. ماذا تريدين أكثر من ذلك؟).

أمواج عاتية من الاضطراب، أغرقتها في بحر حيرتها اللامتناهي، وأوهام بهيئة أحياء مفترسة، تخرج من عمق البحر، فتتراءى لها في أحلامها، كما لو أنها تريد الانقضاض على سعادتها.

قالت لها إحدى صديقاتها:

(لا تحرمي حياتك مما هي مقدمة عليه من نعيم، يسرُ العين بالفؤاد، ارسمي بسمتك واطفقى في الأمر، وإلا أخذته منك واحدة أخرى.. إنه فرصة قد لا تدق باب سعادتك من جديد.. فكري جيداً).

وأردفت:

(ودعي حديثك عن كوابيسك، فما هي إلا شراك نصبتها أفئدة فتيات الحي الغيورات، والتي تفيض حسداً يتزين بقلائد من المقت الأسود…).

وتكرَرَ إلحاح النسوة لها على الموافقة:

–  مَنْ مثله …؟

– ريته تقدم لابنتي «حميدة» لوافقتُ في أول إطلالة له علينا.

– من كان يُصدق، أن يتواضع «صالح» إلى هذا الحد، ويصاهر «بو إبراهيم».

انطوت الحيرة كثعابين على عنقها، وأخذت تضغط على أنفاسها، ورأسها يوشك أن ينفجر من كثرة تفكيرها، وأرقها، فيبثُ كل ما يحتويه في الأفق.

وانبعث الغناء بكل فنونه. في عدة فرق غنائية، حجزت خصيصاً لهذا اليوم، ولمدة سبعة أيام، وتراقصت أطيار الحي بعصافيرها مغردة:

(سعيدة ستتزوج «صالح» … لقد وافقت أخيراً)..

وزاد مكيال الحسد، بالغيرة، بالحقد في ذلك اليوم، حتى خاف ذوو «سعيدة» أن يصيبها مكروه من جراء ذلك.. فأتين «بالشبَّة» (1) وتصاعدت أدخنتها، وعبارات مبهمة، قد تطرد شياطين الحسد والحاسدين. أيام وليالٍ، وبدأ المكيال يتناقص في نسبة الحسد، إلى أن أصبح خاوياً، فَحَبتْ إلى حيزه مشاعر أخرى، في أفواج من الرثاء! فعقدت جلسات حزن متنادم، يلتحف بغيمة من كآبة.

فما رؤي «صالح» في المسجد قط، مذ عقد قرانه على «سعيدة». وما اصطحب واحدة من سُبحاته المتعددات، كما كان يفعل قبيل الظفر بحياة «سعيدة»!

  • يا ابنتي، لا تكتئبي هكذا.

رمت «سعيدة» نظراتها في وجه «أم إبراهيم».. شعرت بوخز

 ————————————————————

(1) الشبَّة: مسحوق عشبي يوضع على جمر المبخر ليتصاعد دخانه.

 واقعها الممدد في قلب جحيمه.. وآلام في كل موضع من جسدها في وجهها وصدغيها.. وحرارة ملتهبة تحاكي الحرارة التي في قلبها.. ورضوض وكدمات متعددة في عدة مواضع من جسدها – سحبني من قدمي يا «أم إبراهيم»، ورأسي يصطدم بكل ما يمر عليه جسدي، من حجرة النوم مروراً بالفناء، والأتربة.. وما بين النخلتين الواقفتين في ذهول ينبت تحته براعم من الرثاء. سحبني بكل حيوانية… كما لو كنت نعجة.. ثم رماني خارج البيت وأنا بلباس النوم…!!

صمتت لا تعرف كيف تمضي في سرد آلامها، و «أم إبراهيم» تخفف عنها:

منذ الليلة الأولى من زواجنا، ما استبشرت خيراً! يوم أن دخل عليَّ.. وفي جيبه قنينة صغيرة من الخمر أخذ يتجرعها. تدفقت دماء في تلك الليلة.. وصراخ كثير…! وسالت معها أودية الفضيحة صباحاً، وتكونت لها مجار متشعبة، روتْ فضول النسوة برجالهن.. في المنطقة كلها!!

أخذت «أم إبراهيم» تمسح على شعرها، وهي تلتقطه من على وجهها، محاولة مداواتها بمحلول مطهر أمامها.

  • دخل البيت كعادته كل ليلة. كنت نائمة مع الأطفال والساعة تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل. رفس الباب برجله، فاستيقظت من نومي محتجة على أفعاله.. فما كان منه إلا أن أفرغ فيَّ كل قهره، بتوبيخه وشتمه لي ولذويّ.. وعندما رددت عليه ببضع كلمات تتالت صفعاته على وجهي بكل قوة، أحسست آنئذ بالحجرة وهي تدور بي، فأقع على الأرض، وهو يرفسني. هممت بالهرب من بين أنيابه.. لحقني يزيدني من لطماته الموجعة، وقد اختمر المكان من رائحة فمه النتنة.. والأطفال في رعبهم الشديد، يتصارخون في بكاء مرير، والهلع أكل قلوبهم الصغيرة – لا أدري ما حالهم الآن؟
  • أخذت أدمعها تتحادر من جديد، إثر تذكرها الموقف، و«أم إبراهيم» تربت عليها مهدئة.

كل من بالمنطقة يعلم حكايتها، في سكر زوجها الدائم، ومجيئه إليها بعد منتصف الليل بساعات، يترنح في مشيته، لا يعرف كيف يستقيم، إلى أن يدخل البيت، ولكن ما لا يعرفه أهالي المنطقة، عندما جاء ذات ليلة وهو في أوج سكره، ودخل حجرة ابنته ذات الأعوام العشرة ولولا رحمة الله..، وصراخها لحدث ما…!!

ذهبت «أم إبراهيم» لتهيئ لها مكاناً تنام فيه، وهي في صمتها المذهول.

«سعيدة» كانت نحلة المنطقة الوادعة. لها طيبتها وجمالها المميز. وكانت قريناتها من الفتيات زهوراً يتطلعن إليها في شوق، متمنيات لو تحط عندهن، ليتسامرن ويتحادثن معها ولو للحظة.

وكلٌّ كان يتوق إلى مرآها النضر، من الشباب والفتيان لطلعتها الدررية، والتي تفغر أفواههم حين يصادفونها مارة بأزقة الحي كل شيء فيها كان جميلاً، كجمال القمر في طلعته، أو كالغسق في حمرته، أو هو كتمايل سعف النخلة في هبوب النسائم العليلة. كثيرون تقدموا إليها، وفي أكفهم السعادة. إلا أن والدها لم يوافق عليهم. شملتها غصة… في رحيل ربيع تلو ربيع، لم تنل من أزهاره زهرة واحدة، تتغذى منها رحيق الحياة سعادة تبقيها نضرة.

تسرب النهار متباطئاً في تسلله. مبتدئاً ببصيص من عين مسهدة. وفرّ الليل بسواده المُنهك، الذي تختبئ تحت أجنحته ألغاز متأسطرة. فبثت الشمس من أشعتها، محاولة تطهير ما علق بالأرض من دنس الليل وآفاته الملتحفة.

و«سعيدة» لم تعرف ليلة البارحة كيف تطبق جفنيها. توجع في الفؤاد، وآلام ورضوض في الرأس. وتورم في عينيها، وكدمات قد توزعت على وجهها بألوان عدة. ولم تفد مداواة «أم إبراهيم» لها إلا بالشيء البسيط. أطلت الشمس برأسها قليلاً، فتحرك الناس في أحشاء المنطقة، فتحركت الأرض بحشرجات.. تنبئ عن استنكار تود سرده، لهؤلاء المارة الذين يجوبون جسدها.

انبعث ارتجاج طَرق حانق على باب بيت «بو إبراهيم»، وكأنها قذائف مدفع مدوٍ في تتالٍ، يعززها أزيز الجرس الكهربائي.

أسرع «بو إبراهيم»، وفتح الباب، وإذا بـ «صالح» في وجـهـه يدفعه في صدره، ليرتمي على الحائط، وينسل يريد المضي إلى الداخل. اعترضه «بو إبراهيم».. ومن خلفه ابنه. وتماسكوا واشتبكوا في عراك، أسفر عن كثير من دماء وبصاق ونزق. خرجت على إثره زوجته «سعيدة» محاولة فك النزاع.

انبعثت رياح جلبة، صاحبتها رعود من ضجة محتدمة، تزامنت مع سقوط «صالح» على الأرض، متمرغاً بالتراب المبتل بضباب الليل.

مُعفراً به يتخلل وجهه، مختلطاً بدمه، الذي أخذ يسيل من فمه وفتحتي أنفه، راسماً على ثوبه لوحة ذات لون واحد، تميزها سكرة قد غمست في كؤوس من الجور!

حمل «صالح» جسده من على الأرض، وبجرأة ملفوفة بقسوة أزلية، انقض على زوجته، ساحباً إياها من شعرها، واقتادها إلى البيت، الذي اشرأبت عنقه مع الأبنية الأخرى في غطرسة، نافخاً صدره، يجرجرها في الزقاق العريض، وهي تصرخ ملء عيون مندهشة تبحلق فيها! وصفعات متتالية يمطرها على صدغيها، وشعرها يكاد يخرج من جلدة رأسها. وتأوهاتها تحتضن آلامها واحمرار يشع ناراً متأججة من محياها، وزهرتان تنزان عن دمٍ قانٍ، يرتش على قلب مفتتٍ، أضيع بياضُهُ بين قنانٍ وضباع!

أكتوبر 1991م.

 

 

الحطام

 

قبضة الملل تضغط على أنفاسه، وصدره يضيق ويضيق. ودائرة السأم من حوله تتسع أكثر فأكثر، والدنيا تأخذ لها نصب عينيه، ألواناً قاتمة لا يتمكن من المضي في غياهبها!

وأمواج عاتية من الضيق والعذاب، تندفع هابطة في تزايد على حياته المريرة، تحيلها إلى قشة في يمَّ متلاطم، لا يهدأ ولا يعرف السكينة.

عزوف دائم لكل شيء، وتنهدات تقطعها الآهات، وهو.. والدار، بمن فيها من عجزة مترامين هنا وهناك، مع الأسرّةِ والأجهزة، والأدوات.. تدور وتدور بشكل متسارع، كدوامة بحر لا تهدأ ولا تتوقف، إلا من بعد تحقيق شبعها التام، بابتلاع تائهي هذا الدهر المرزوئين. يكاد ينخلع رأسه من جسده الذائب، أو يسقط أرضاً، فتنتزع روحه انتزاعاً!

أجساد مترامية على أسرّة بيضاء متخاذلة، هي مزيج من عظام تستوطنها الأمراض المزمنة، وجلود تزينها التجاعيد، وشيء من دماء فاترة. مع كثير من ويلات السنين وعذابها، وشقاء قد دام دهراً، في صحبة حياة قاسية شيمتها الفقر والعوز، وفي زمن قد أرسل أجنحته نحو البعيد، بما حمل من حلو وعذب، مستبقياً مرارة لا تطيقها أزمنة الحاضر.

انتبه من انتبه بمقدم مشرف القسم، بعد إغفاءة قصيرة تلت غداء الظهر. جلب لهم المشرف ما يحتاجونه من أشربة وبعض الأمتعة، وضغط على زر تشغيل التلفاز. وكلٌ في تهيؤ لمقدم صديق أو حبيب أو عزيز، إلا «بوسلمان» الذي لا يعرف إلا انتظار طيف سراب يتراقص له كل عصر حتى مغيب الشمس، فيتردد على بعضهم من يتردد، وبعد انتظار قد يمتد أسابيع، ولكن سرعان ما ينصهر الانتظار فيقدم إليهم من بلغ الشوق نحوه مبلغاً عظيماً فترتسم الابتسامة على وجوههم، وتنشرح صدورهم بمقدم عزيز قد طال غيابه، إلا «بوسلمان» الذي تحول انتظاره إلى عادة مميتةٍ يمارسها كل يوم مجبراً من ذاته الحنون. لتبلغ أشهراً عدة. تحولت في آخر الأمر إلى إحساس متفاقم من النفي والعقوق، ينهكان قلبه ويؤلمانه. فلا يكاد يستقر بين ضلوعه، إلا بين أنين ولظىً. آخذاً في عدّ الساعات بالأيام..، انتظاراً لموعد آخر، صار يحن إليه أكثر ويتشوق، يوم رحيله عن عالم النكران، وعقوق عصر قد تجاوز في جحوده كل الأزمنة، مرتقياً سلالم الفضاء وأُفقه!

وأبناؤه (سلمان، محمد، أحمد)، الذين لم يصدقوا أنهم قد تمكنوا أخيراً من التخلص من أبيهم، ورمية في هذه الدار المتكفلة بإدخال ولو بضع ذرات من السرور على حياة عجزة ومسنين لا حول لهم، وقد وفّرت لهم كل الإمكانات المتاحة. سلموه لدار العجزة ليبدأوا بالتفرغ التام لمشاريعهم، وجريهم الدؤوب وراء المال والاستزادة من حجم أرصدتهم، والحياة المترفة، والدنيا الحلوة…

«قد يأتي واحد منهم اليوم»..

حدثته نفسه في شيء من المواساة والتريث المراوغ وأردفت:

«لربما يأتي سلمان…»:

أرسل بصره جهة الباب، قد يدخل هو أو أيّ منهم الآن، أو بعد برهة. قلبه لا يخطئ، أم أنه قد وهَنَ وذوى بقسوة الأيام وأرزائها فمنذ ثلاثة شهور تقريباً لم يزره أحد منهم. فقط، زيارات غير منتظمة من بعض أصدقائه المقربين. فبث شكواه لهم، فيما يتعلق بأبنائه، موصياً إياهم أن يخبروهم بمدى شوقه ولهفته عليهم وعلى أبنائهم. بوده لو يراهم كلهم، فينشرح صدره بمرآهم.

 

صوت حفيف.. أقدام تقترب، اتجهت الأبصار جهة الباب، وكل يتمنى أن يكون الزائر قاصداً إياه، غير أن الآمال سرعان ما تخيب، إذ يكتشف أنه واحد من موظفي الإدارة جاء ليطمئن عليهم.

لحظة، وإذا بصوت من هو قادم، أرسلت العيون أبصارها في حنين. لقد كان صديقاً «لأبي يعقوب»، اقترب من سريره.. حياه.. وأخذا يتحادثان عن أمور الدنيا، والزائر يلاطف صاحبه محاولاً إدخال السرور على قلبه، مفتتاً جلمود الضيق الكامن على صدره، والآخر في إنصاتٍ وابتسام.

مضت ساعة من الزمان، فحان أوان المضي إلى الخارج ككل يوم، إذ الهواء الطلق، الذي يحاول أن يسري كخدر إلى نفوسهم في رثاء. جهزت المقاعد المتحركة، وحمُل من حمُل، وأُمسك بعضهم بمعاونة المساعدين، ثم أُجلسوا كلهم خارجاً على كراسي مريحة، على امتداد ظل، تداعب أقدامهم رمال بيضاء ناصعة. ومن أمامهم يمتد البحر أزرقَ مترامي الأطراف، رابضاً في مهابةٍ. تداعب أمواجه المتلاطمة رمال السِيف، فتأخذ ما تناثر عليه من علب، وعصي، وأعواد نخرة، ومخلفات أخرى إلى البحر، ثم تعود بها إلى السيف، وترجع لتأخذها من جديد وهي عائدة إلى البحر.. وإن ملّت من لعبها بهذه الأشياء، رمتها على السيف إلى يوم غدٍ، وهكذا وكل منهم ينظر إلى البحر الشاسع في تأمل وشرود من ذهنه، وإن اعتراه الملل، أنزل عينيه إلى الأسفل، خاطاً بإصبع قدمه خطوطاً ورموزاً مبهمة. هذا في تحادث مع الآخر، وحوارات متقطعة فيما بينهم. وكلٌ لا يفتر العزيمة في انتظار زيارة حبيب أو صديق له أن يرق قلب أحد من أهله أو معارفه، متذكراً عشرة جميلة عسى جمعتهم يوماً.

و«بوسلمان» قد عانق البحر بعينيه، شاخصاً بصره في سفينة مترامية يلمحها من بعيد. تأخذ مسارها في عناء، تلطمها أمواج البحر ذات اليمين واليسار. وهي تمضي في تداعٍ، مخلفة دخاناً أسودَ مشوباً بهدير متحشرج متباطئ شيئاً فشيئاً، صادر من محركها المتوجع. وتختفي السفينة بغياب هديرها، وهو لم يزل ينظر إلى مكان سيرها.

رفع رأسه الى السماء معايناً، إثر سماعه نواحاً شجياً لأطيار سوداء، طالما ألفها وعاش بصحبتها وهي تمر فوق سفينته صائحة، فيقول له مساعده «بو سنيدة»:

«إنها تحيينا … متمنية لنا السلامة».

وهو يرهف مسامعه لها مستأنساً، يفكر في كلام مساعده. أخذ يرسل بصره لها وهي تمضي مبتعدة، قد اتخذت لها شكلاً هندسياً مثلثاً…

أخذ ينظر إلى البحر في هدوء وذهن شارد، مرتسمة في مخيلته صور شتى، لأيام شبابه الدفينة، في زمن قد مضى بعنفوانه مع أتراحه. عندما كان رباناً لسفينته «البـتـيـل»، يقف في وسطـهـا شامخاً، يزمجر بصوته داعياً البحارة للعمل الدؤوب المتسارع، وهم في تنفيذ لأوامره، مستجيبين له بأعين مغمضة.

أسفار عدة إلى أفريقيا والهند ودول الخليج، ناقلاً الأخشاب والبضائع الأخرى. وبعد شهور يصل إلى موطنه، ليجد زوجته وأبناءه الصغار في استقبال حار له، تتقدمه هداياه التي اشتراها لهم.

وفي بيته تتوافد عليه شخصيات مختلفة من المنطقة، للسلام عليه، ولمجالسته.. والاستفادة من خبرته في الأسفار، والاستماع إلى حديثه، وما مر عليه من بلدان وبحور عميقة، تثير الرهبة والاندهاش، ليتحول بيته يومئذ إلى مقصد للزوار من أهالي الحي ومن خارجه، وهو يتنقل بهم من حكاية تثير العجب إلى مغامرة تبث الرعب والخوف.

أسابيع عدة تمضي عليه وقد استحوذ على اهتمام الناس، إلى أن يحين يوم رحيله من جديد، شاقاً بسفينته عباب البحر متجولاً هنا وهناك، والبحارة لا ينفكون يتلقون المشورة، وأخذ الرأي السديد منه زاداً لهم في غربتهم، وفي وسط هذه المياه العـمـيـقـة المزرقّة، وخاصة حين يجن الليل ويسود الهدوء إذ يتحلقون حوله في اشتياق لحديثه وحكمته، وسعة فهمه في كل أمور الحياة. حتى طباخ السفينة يقصده، لحلو حديثه متزوداً من خبرته ودرايته.

 أفاق «بوسلمان» من شروده، إثر هزة من قبل جاره وهو يحادثه، ليرى الشمس وهي تغط في مياه البحر شيئاً فشيئاً. قد اكفهر البحر متغيراً، تكسوه ظلمة موحشة، واحمرار قد وزعته الشمس

على صفحة الماء من جهتها، مع حمرة مبعثرة في السماء. كم من غروب مر عليه طيلة الأيام الماضية؟ وهو في عرض البحر، والسفينة تمضي بهم وتضيع بين الأمواج، كلعبة طفل هشة صنعت من ورق، تأخذها الأمواج متلاعبة في تسلية. ولكنه لم ير غروباً موحشاً كاليوم: حدجت عيناه الحمرة التي صبغت السماء، أخذ ينظر إليها جلياً. فاعتراه شعور جديد، لم يصادفه يوماً من قبل! في ذوبان هذا الجليد المتراكم على حياته من السأم، الذي أثقل كاهله طيلة الأعوام التي قضاها في هذه الدار، بعدما اشتدت أوجاع رجليه وجمودها، وانتهت بعدم المقدرة على المشي إلا بصعوبة تامة. لينتهي مصيره إلى الاعتكاف المجبر هاهنا. سنَّ ذلك أبناؤه بتخطيط متقن موحد!

 سُيّرت المقاعد المتحركة تباعاً، وأصحابها في وجوم كئيب، مودعين يوماً آخر من أيام الرتابة. وعينا البحر تحملقان في تلك الأنفس الراجعة، بنظرات ملؤها الألم والمواساة.

و«بوسلمان» في صمت غريب، قد رمى رأسه على كتفه، مسلماً أمره للرجل الذي خلفه، يمضي به إلى مكانه، أو إلى حتفه..، أو إلى ما يشاء …. وحالة من حالات السكينة المرئية تسيطر على ذاته.

جيء بكل منهم إلى حيث سريره، أُلقي عليه في جهد. في حين لم يزل «بوسلمان» في صمته المشدوه، يكتنفه شعور طارئ لا يعرف كنهه. لم يتفوه بكلمة واحدة. حتى ساعة تقديم وجبة العشاء المعتادة والتي لم يرغب فيها.

 خيّم الظلام على المكان كله إلا من نور خافت، بعد أن أُطفئت الأنوار استعداداً للنوم، بحشرجات تتخلل الهدوء، تجرحه بعض السعلات، أو التنهدات الصادرة ممن لم ينم بعد. وتداعبه أصوات المويجات المتكسرة على السيف، مسارعة في لمِّ شتاتها، عائدة إلى البحر في تلهف!

عقارب الساعة تتجه حابية نحو الساعة الواحدة صباحاً، والهدوء قد عم كل أرجاء المكان، إلا من شخير متقطع، وأنفاس صاعدة هابطة، تستحم في شطآن من الأحلام الرمادية المقلقة.

عندئذ، انبعثت من «أبي سلمان» بعض التأوهات، لحالة قد ألمت به فجأة. ضغط على جرس النداء في جهد. اتجه إليه المناوب في تسارع تفحصه «بوسلمان، ما بك… بو سلمان..».

لم يرد، كرر النداء…

ذهب وأمسك بسماعة الهاتف، ضاغطاً على أزراره بأنامله لحيظات، وإذا بالطبيب وبعض الممرضين يقدمون في تدافع.. وكل منهم يقوم بواجبه.

«حالته صعبة… جداً… وأنفاسه تضيق …»

قال الطبيب المناوب ذلك، بعد فحصه جيداً. أمر بنقله إلى المستشفى على عجل، واستدعاء أبنائه في الحال نقل «بوسلمان إلى سيارة الإسعاف، ممدداً على النقالة، والممرضان بقربه. ثم أخذت السيارة تسير على امتداد البحر، الذي أخذ يرنو حزيناً إلى السيارة، بما تحمل من حُطامٍ، لم تقدم له الحياة أريجها النضر وهو في خطواته الأخيرة منها. ولم تنثر عليه حتى وريقات ذابلة، من زهرة تحتضن شيئاً من وفاء وإحساس متسمر على ثنايا القدر، قد طغى على مويجات السيف المتهالكة، في نفس قد سكنت تواً، فأرسلت إلى بارئها! فاكتسى البحر حلة من الهدوء، مطعمة بدرر ولآلئ ليس لها أي بريق، تميل إلى سواد وعتم شجي. فكفّ عن إرسال أمواجه إلى السيف، مندهشة أحياؤه في تساؤل يشوبه خوف:

«ما الخبر؟ من الفقيد… الغريب؟!!».

يونيو 1991م.

سعيدة – من المجموعة القصصة (الرفض)