… مسكين ذلك الرجل الذي يسبر طيش البحر للمرة الثانية.. أواه لم يبق سوى عشرة أمتار و(يطمي) البحر على الشاطئ، على المساكن.. إنه في مد متواصل.. يا ويل المدينة المسكينة.. رحمة الله عليك يا جدي.. لطالما حذرتني من اللعب بالنار والحديد والبحر.. السماء متجهمة.. المطر يسقط بشكل أهوج.. عواصف مجنونة تلفظ الحقد والانتحاب الخشن.. ماء البحر يتدفق متلولباً على شكل دوامات حلزونية.. نحو المدينة يجري بعنف.. هديره مزعج كدقات ألف طبل أفريقية تتوالى بسرعة، يرغي ويزبد.. يجرف القاذورات (الصناني) وفروع الأشجار.. وجثث الطيور والفئران والأسماك الميتة.. يبعث في الهواء أبخرة مقيتة ذكرته بضباب المقابر!!
… أزعجه نباح الكلاب وصفير الفئران ومواء القطط التي تجري بالمئات في اتجاه المدينة.. زكمت خياشيمه الروائح العفنة المتصاعدة من البحر، التفت من على ربوته يتأمل المدينة التي يطوقها البحر من معظم جهاتها على صورة منجل.. غارقة هي في كتلة فحمية كثيفة.. تراكمت عليها دخاناً أسود..
… منظر المدينة المغموسة في الغشاوة إلى أذنيها جعله يتلمظ صوراً بهيجة لها، يحتفظ بها في نفسه عن سالف طقـوسـهـا الصافية.. لطالما استمتعت المدينة أيام الصفاء بالجمال والطمأنينة.. بأشجار حدائقها الباسمة، وأزاهير بساتينها الفواحة… بوشاح خضرتها الآسرة، وبانسياب ماء البحر الضاحك، بدفء شمسها الزاهية، وبأعيادها المتوالية الرائعة التي يتزاور الناس أثناءها، ويتعانقون بحرارة، ويتبادلون الأحاديث في ود، وكانت أشجار (الأشخر) في فصول ربيعها تبخّر عن قلبه أنفاس الغم، كان يجد متعة في متابعة أمواج البحر المترقرقة برتابة محببة.. كان ذلك يغرقه في بحر من التأمل.. ليفلت منه أي شيء يقلب كل الأمور وكل الأشياء المحببة والكريهة.. على جميع جوانبها، ويهتز للنتائج التي يصل إليها.. فيضحك أو يزفر!!
… أبدى امتعاضه من الروائح الكريهة بتأفف متوالٍ.. عاد فشخص ببصره ناحية المدينة.. نائمة أنت أيتها العجوز المغامرة المعتصرة.. تلعنين الصديد والتفاهة والثرثرة، والتردد والفضائح، والشعارات، والعرق، تمارسين الخلاعة.. والمراوغة واللصوصية، تقتاتين أحشاءك وتحلمين بالألوان البراقة الساطعة بينما البحر الغاضب حبل مشنقة في عنقك!!..
… تنفس بمشقة.. يا لها من روائح.. دخل إلى برج المراقبة الموحش كعويل قطة في ليلة ممطرة.. حاول إشعال (الفنر).. عاطل.. أيمكن أن الكل في ليلة القيامة هذه واقع تحت سحر النوم.. النوم سلطان كما يقولون.. ود لو يستشري بين الناس العكس!!
… التقطه سلطان.. ستهلكين أيتها المدينة الحالمة.. بعد قليل سيجرفك البحر إلى الأعماق.. وتذكر دفء زوجته.. وشوق أبنائه، وتعاطف أعمامه وأخواله وأبنائهم وباقي الناس الطيبين الذين يعرفهم عن قرب أو بعد.. غريب، لشد ما كان يحس بالضيق منهم جميعاً.. لقد أثقلوا كاهله بمتطلباتهم، وضايقوه بمطاردتهم.. ومن أجلهم هو موجود هنا على هذه الربوة في هذا القبر الحجري، يرقب البحر والمدينة في عز الليالي الباردة.. أما الآن.. فها هو يحس من أجلهم على قدر تبرمه بهم بالخبال سيطبق على عقله.. يوم أقبلت ابنته البكر، فرح بها فرحاً شديداً، يوم جاءه الابن أكمل فرحته. ثم توالى مجيء الآخرين: الثالثة، الرابعة، الخامسة.. خمسة أطفال وسادسهم آت في الطريق.. فانقلب فرحه كابوساً يظل ينادم في خضمه همومه وأحلامه: لوجيبه بحر (طامٍ) يغرف منه متى شاء وشاءت زوجته وأبناؤه وأبناء المدينة كلهم.. لو أن طائفاً يطوف في المدينة معلناً (عباد الله.. وحدوا الله احمدوا الله.. من له أبناء وبنات فلذات أكباد، فليتقدم إلى مكتب الخدمات، ليسجلهم قصد الحصول على ما يحتاجونه من متطلبات، فمن الآن فصاعداً أصبح العمل إجبارياً، والخبز إجبارياً، والتعليم إجبارياً، والصحة إجبارية.. والهواء الطلق إجبارياً والحياة إجبارية.. ومن حكم على نفسه بالموت، فلن يلومن إلا نفسه!!).
… انتبه إلى ضوء مزدوج بعيد، آت بسرعة نحوه، نسي الرائحة الخبيثة ونسي وخز البرد القارس، اعتلى أصابع رجليه.. اشرأب بعنقه مستطلعاً في لهفة الغريق إلى زورق الإغاثة.. إنهما مصباحا سيارة.. ستعلم المدينة الخبر المروّع.. تنزعج.. تتصايح.. تتضافر لمواجهة خطر البحر.. أعتقد أنها سيارة مصلحة الحكومة آتية لاستطلاع جليّة البحر. لكن الضوء سرعان ما انعرج، ثم اختفى.. لا.. لم تكن سيارة. إنهما عينا قط ضال بلا شك.. وتذكر ضوء جوهرة الغول الذي ضلل الأطفال في الحكاية التي لم يمل سماعها قطعاً عن جدته حينما كان طفلاً بريئاً، عاد الضوء للظهور من جديد، هذه المرة استطاع التعرف إليه في توجس.. إنه من البحر تحيط به.. ترتقص رقصة بدائية، تملّكه الخوف.. تشوّك لحمه.. وقف شعر جسده.. الهدير.. الرعد.. البرق.. الأمطار الطوفانية ضاعفت من خوفه.. سينجلي الظلام عند ظلام أكثر سواداً. بعد ساعة ستكتسح المدينة كارثة مهولة، عقد العزم على أن يخبر السكان قبل فوات الأوان.. وكيفما كانت الحال، قال لنفسه إن قضيته الآن أن يفعل ذلك، لست على هامش المدينة كما ينعتني بعض الأصدقاء. مصير المدينة في هذه اللحظة مسؤولية في عنقي.. وانطلق راكضاً، يقطع الكيلومترات العشرة التي تفصله عن المدينة، أمدّه الهلع العارم بطاقة هائلة على العدو.. شريط الفيضان السابق يفرض نفسه على ذاكرته.. الماء العكر يقتلع الأبواب.. يفور مع البالوعات ومن المجاري.. يفور من المراحيض والخوص والطين.. يجتث أشجار اللوز والسدر.. يجرف كراسي المقاهي والأكشاك، ومحطات البترول إن وجدت.. يبيد النسل.. يدمر الزرع.. يهلك الدواب والماشية.. يفسد السلع.. يهدم الأكواخ، يحول الزوجات والأمهات إلى أرامل وثكالى نادبات غابة الخيام السعفية الملفقة تملأ الأفق.. الأغطية والدقيق والتراب والفضلات توزع على المنكوبين.. جثث.. جثث.. جثث!!..
دخل المدينة لاهثاً.. اندهش إذ ألفاها كاريكاتوراً كرتونياً حقيقياً، أف لهذه الرائحة الكريهة.. شرع يصيح (طمي البحر.. طمي البحر.. قوموا يا نيام.. احذروا الهلاك. البحر يمحو المدينة!!).. المدينة صامتة، خالية، موحشة لا من يجيب، إنما هي أصوات الأمطار والرعد والعاصفة الهوجاء التي خيل إليه أنها تسقط حجارة وليس ماءً.. قال في نفسه: مدينة خرافية، تستحق أن تضاف إلى مدن الأساطير القديمة!!..
… التقط لوحاً من الأرض.. أخذ يدق به الأبواب.. أبواب المنازل.. وهو يرفع عقيرته متلفتاً يميناً ويساراً في كثير من الاستيراب بغتة انفتحت الأبواب بطوابق البيوت العجمية، العليا، انطلق منها سيل من الرجال الفظاظ يشتمون، يهددون، وهم نصف عراة وفي أيديهم هراوات وعصي سميكة.. ويلاه إنها كاريكاتورات حقيقية، طاردوه، طوّقوه انكبوا عليه يشجون رأسه.. يحطمون أضلعه، ولفظهم يفجع سمعه:
- … لماذا تعكر صفو نومنا؟!
- … لماذا تبلبل أبناءنا وبناتنا؟!
- … وكذلك زوجاتنا؟!
- … لماذا تنعق على أعتاب بيوتنا؟!
- … لماذا تقلق راحة بالنا؟!
… تهاوى على الوحل خرقة بالية ممزقة.. لسانه مسترسل بخفوت ووهن في ترديد:
… (البحر يطمي.. البحر يطمي..) ودماغه حجرة ذات طقس جميل، تملؤها أوجه عذارى وأطفال يكفكفون دموعهم.. وكان ماء البحر قد تطاول الأسطح.. فتجاوزه وانطلق فيضاناً يجري بسرعة خيالية في اتجاه المدينة الميتة!!
البحرُ يَطْمي
جمعة الفيروز.. من المجموعة القصصية (علياء وهموم سالم البحار