أُنزِلَ الميّت، ووُضِعَ في اللَحد، ثم أُهِيلَ الترابُ على القبر، وبعدَ أن ذكرَ الحاضِرون اللهَ كثيراً؛ وترحّموا على الميّت؛ واستغفروا له؛ انصرفوا إلى شؤونهم. وبعدَ مدةٍ تَبَدَّت ثقوبٌ في القبر، خرجت منها ديدانٌ تجمّعت مُبتهِجةً مُستبشِرةً حولَ جُثةِ الميّتِ الجديد، وقالت الدودةُ التي تلمَّست جبهتَه:
– يوجدُ أثَرُ سجودٍ في جبهتِه، أثَرٌ بالِغ، لقد كان مؤمناً حقاً.
وقالت الدودةُ التي كانت تتلمَّسُ فمَه:
– أوه، آثارُ التدخين ظاهرةٌ في شفتيْه، ولثتِهِ وأضراسِه، لقد كان يُدخِّنُ بشَراهة!
صاحت دودةٌ نهِمةٌ كانت تُفتِّشُ في أمعاءِ الميّت:
– أكثرُ من التدخين، إنني أذوقُ طعمَ ويسكي اسكوتلَنديّ فاخر، ما زالت بقاياهُ في أمعائه، وتقولون مؤمن؟ واللهِ ما أراهُ إلا فاسِقاً بَطِراً، آه أشعرُ بدُوارٍ في رأسي.
قالت دودةٌ عَجوزٌ كانت تزحفُ ببُطء:
– لا يضرُّ ذلك كلُّهُ، المهم أنهُ ماتَ مؤمِناً.
التفتَ إليها الجميعُ مستغرِباً، ومن بينهم قالت الدودةُ التي ذاقت الويسكي:
– وكيفَ عرفتِ أنهُ ماتَ مؤمناً؟
قالت الدودةُ العجوز:
– ألا تَرَيْنَ إلى تكفينِه، وبقايا رائحةِ الكافور التي تنبعثُ من جسدِه؟ هذا يدل على أنه ماتَ على دِينِ مجتمعِه، وإلا لم يكونوا ليُغسِّلوه، ويُطيِّبوهُ بالكافور، ثم يُكفّنوه.
فقالت الدودةُ التي ذاقت الويسكي:
– وكيف عرفتِ أن الميّتَ المؤمنَ يُطيَّبُ بالكافور؟
أجابت الدودةُ العجوز:
– أوه، إنها قصةٌ طويلة، لقد كنتُ أتغذى في جثةِ رجلٍ ماتَ، ولم يعلم به أحد، فبقيَ أياماً حتى أصبحت جثتهُ منتِنةً ولذيذة، لكنهم حين اكتشفوه، أخذوهُ إلى مغسلةِ الأموات وأنا بداخله، فغسّلوه بأوراق السِدر، وطيّبوه بالكافور، ثم كفّنوه، وصلّوا عليه، وأنا بداخله، ثم دفنوه، وهذا ما شهِدتُ بنفسي؛ لا يُطيَّبُ إلا مؤمن.
وفيما صمتَ الجميعُ مُتفكِّراً؛ قالت دودةٌ شابّة:
– حتى إن كان مؤمناً؛ فهو فاجرٌ في الخصومة، انظروا إلى هذه النُدبةِ المُتطاوِلةِ على وجهِه، لا شكَّ في أنهُ كان عُدوانيّاً مُتنَمِّراً.
وقالت دودةٌ أخرى:
– تُرى مَن الذي انتزعَ روحَه؛ أَملائِكةُ الرحمة، أم ملائِكةُ العذاب؟
وتداخَلَ الجميعُ في خِلافٍ حادّ:
– هو مؤمن.
– لا، ليسَ مؤمناً.
– انظري إلى جبهتِه.
– بل انظري إلى شهواتِه.
– يبدو عليه الصَلاح.
– كلا.
وفيما كان الجميعُ مُختلِفاً في حالِ الميّت، انتبهت الدودةُ التي ذاقت الويسكي إلى دودةٍ يبدو عليها الترفُّع، وهي تتلوّى فوقَ الجُثَّةِ بامتِعاض، فقالت لها:
– مالَكِ مُمتَعِضة؟ ثم لِمَ لَمْ تُشاركي برأيكِ في الميّت؟
ردّت عليها الدودةُ المُترَفِّعة:
– ما لَنا ولِهذا الميّت؟ سواءٌ إنْ كان مؤمناً أم غيرَ ذلك، فَلْتَتنازَعه ملائكةُ الرحمةِ وملائكةُ العذاب، ما المُهِمُّ في هذا ولَسنا نحنُ الأموات؟ إن علينا أن نحصلَ على غذائنا بأسرَع وقتٍ ممكن، علينا أن نحصلَ على فضلاتِ هذا الميّتِ العُضويّةِ النباتية، وأن نتغذّى عليها، ونتقدّمَ في هذه الحياةِ القصيرة.
تجاوَبت معها دودةٌ عاقلة، فقالت:
– صحيح، فأنا أتضوَّرُ جوعاً، وأرجو أن يكون الميّتُ قد عاشَ نباتياً في حياتِه.
قالت الدودةُ المُترَفِّعة:
– نعم، هذا عينُ العقل، وأما هذا الاختلافُ الذي أضعتُم الوقتَ فيه..
قاطعتها الدودةُ العجوزُ قائلةً:
– نعم نعم، أنتِ على حق، وإذا بقينا هكذا فلن ننتفعَ من يومِنا هذا، والوقتُ هو هاويةُ الموت.
وكانت الدودةُ التي ذاقت الويسكي تنظرُ إلى ما يجري وهي تهزُّ رأسَها موافِقةً ومُنتَشِية، وهَزَّت بقيةُ الديدانِ رؤوسَها موافِقةً أيضاً، وهَمَّت بجُثةِ الميّت، لكنّ هذه الديدانَ التي أضاعت الوقتَ في الاختلاف لم تنتفِع بشيءٍ مما اقتنعت به أخيراً، ففي هذه الأثناء تسلَّلَ رجلٌ فقيرٌ إلى المقبرة، وأخذ ينبشُ هذا القبرَ الجديد، وأخرجَ الميِّتَ بدِيدانِه، ورَماه على الأرض، وفتَّشَ في فمِه، فوجَدَ سِنَّيْنِ ذهبيّتيْن، فاقتلعَهُما، وتركَ الجُثةَ خارجَ القبر.
اضطربت الديدانُ في جوّ المقبرةِ الحارّ الجاف، فهي في العادةِ لا تخرجُ إلى سطح الأرض إلا إذا كان الجوُّ رَطباً، وضاعَ منها الوقتُ الثمينُ كلُّه، إذ جاءت بعضُ الطيور والقوارض الصغيرة على حِينِ غِرّة، فافترَست تلك الديدان.
اختلافٌ في القَـبْر