{أو أجِدُ على النـارِ هُدى}
قُرآنٌ كريم
كانت ريما هارون، العاملة الإندونيسيةُ الشابّة، قد استعدّت للسفر إلى بلادِها، في إجازةٍ لمدةِ شهر، بعدَ أن خدمت في بيتِ الوجيه عبد الله بن يوسف لمدة سنتين، وحين أحضرَ السائقُ السيارةَ إلى مدخل البيتِ الكبير لنقلِ ريما إلى المطار، جاء عبد الله بن يوسف بنفسِهِ لتوديعِها، فشكرَها، وأعطاها هدايا لعائلتِها، فأبدَت ريما فرَحَها بذلك، كما أبدَت خوفَها في الوقتِ نفسِه من غرامةِ الوزن الزائدِ في المطار، فطمأنَها السيد عبد الله بأنهم قد اشتروا لها تذكرةً بوزنٍ إضافيّ، ذهاباً وإياباً، ثم مدّت السيدةُ خَولة،زوجةُ السيد عبد الله، يدَها بمبلغٍ من المال، هديةً لريما،التي عبّرَت عن امتِنانِها لذلك، وسألت ريما السيّدةَ وزوجَها عمّا إذا كانا يريدان شيئاً من بلادِها، فشكرتها السيدةخولة، ثم التفتت إلى السائق تطلبُ منه شراءَ بعض الأدويةبعد عودته من المطار، وأما السيد عبد الله فتردّدَ قليلاً، ثم قال لريما:
– قد أريدُ شيئاً واحداً يا ريما، إن كان في الإمكان.
– أيَّ شيءٍ تُريدُ يا سيّدي، فأنا على استعداد.
– شكراً ولكنْ، قبلَ ذلك؛ أين تعيشين في إندونيسيا؟
– في جاوا يا سيدي.
– آه، هذا جيد، فالشيءُ الذي أريد يوجد هنالك في جاوا.
– وما هو يا سيدي؟
– إنه العُودُ الجاويّ، فهو لا يأتي إلى أسواق الخليج إلا في النادر.
– آه، العود!
– نعم! أتَرَيْنَ يا ريما؛ إن معظمَ أنواع العود الآسيويّ تتوافَرُ هنا، ما عدا العُودَ الجاويَّ، فهو لا يتوفَّرُ إلا قليلاً،ولهذا يقومُ بعضُ الباعةِ بعرضِ ما يسمّونه عُوداً جاويّاً، لكنه عودٌ زائِفٌ في الحقيقة، ومع ذلك يبيعونه على المغفلين بأسعارٍ عالية، وأنا أعرفُ العودَ الجاويَّ جيداً، منذ أكثرَ من أربعينَ عاماً، أُميّزُ رائحته حين يحترق، ولكنْ مع الأسف لا أجدهُ هنا، ونحن نحب بخورَ العودِ كثيراً، خاصةً في يوم الجمعةِ والأعياد، وحينَ استقبالِ الضيوفِ كما تعلمين.
– نعم، لا عليك يا سيّدي، فهذا العود متوفرٌ حقاً في بلادي، وسأُحضرُ لك منه قدرَ ما أستطيع.
– أوه، شكراً يا ريما، شكراً جزيلاً، وإلى كم تحتاجين من المال كي تُحضري تلك الكمية؟
– لا، لا داعيَ للمال الآن.
– لا داعيَ له! وكيف ستدفعين مقابلَ شراء تلك الكمية؟
– لا عليك يا سيّدي، فأنا لا أعرفُ بعدُ حجمَ الكمية التي يمكن الحصولُ عليها، فلا أعرفُ قيمتَها، ولكن انتظر حتى أعودَ وأُسلِّمَك الكمية، وحينئذٍ سأخبرُك بقيمتِها.
فكّرَ السيد عبد الله قليلاً بأمر هذه العامِلةِ الشابّة، إنها حقاً أمينة، فلو أن غيرَها من كثيرٍ من العامِلات قد عُرِضَ عليها الأمر لَما تردّدت في طلبِ المال، وقد تسافر ولا تعود، لكنّ ريما ليست كذلك كما يَظن. ثم ابتسَمَ السيّد، وقال:
– طيب، لا بأس، ولكن انتظري دقيقة.
وانطلقَ تُتابعهُ أنظارُ الحاضرين إلى باب المدخل، ومنه إلى باب المجلس، ثم عادَ حاملاً مصحفاً ذهبياً كبيراً، كثيرَالزخارف، وأعطاهُ ريما قائلاً:
– هذا مُصحَفي الخاصّ، خُذيهِ هديةً لأمِّك!
صاحت ريما قائلةً:
– لكنْ، يا سيّدي هذا كثير!
– أوه، إنه ليس كثيراً، ولو كان أبوكِ حيّاً لأهديتُهُ مُصحفاً أيضاً!
عجزت ريما عن الشكر، فأكثَرَت من الدعاءِ للسيّدِ عبد الله،بأنْ يُوفقَه الله لِما يُحبهُ ويرضاه، ثم ودّعت العائلة، وانطلقت بها السيارة إلى المطار.
لم يكن السيد عبد الله بن يوسف يقرأ القرآن، ولم يكن حتى يُصلّي، وكان يُخفي ذلك عن زوجتهِ وأولادِه، وكثيرٍ من أقاربهِ ومعارفِه، تُعِينُهُ في ذلك سُمعتُهُ وطِيبُ أخلاقِه، وكان همُّهُ الشاغِلُ تجاراتِهِ وعقاراتِه، ثم شهواتِهِ ومَلذّاتِه، ومنها التبخُّرُ بالعودِ الجاويّ، ذي الرائحةِ الفخمةِ في ذوقِه، فهذه الرائحةُ التي لا تُرى تجعلهُ يُبصِرُ الأمورَ جيداً، وهذه الرائحةُ التي لا يُمكنُ تفسيرُها بكلام البَشر تجعلهُ يقضي أسبوعَ عملِهِ جيداً، وتجعلهُ يقضي آخِرَ الأسبوع وهو في مزيجٍ من الانتعاشِ والراحة، وكم يختالُ بَهجةً حين يسمعُ مُنافسيهِ من كبار التُجار يمتدِحونَ رائحةَ عُودِه، ويسألونهُ على استحياءٍ عن مصدر هذا العود، ويزدادُ السيّدُ عبد الله ابتِهاجاً وابتِساماً حين يتمكنُ بطريقةٍ أو بأخرى من التملُّصِ من الإجابة، فهذهِ الرائحة المُميَّزة ينبغي أن تبقى رائحتَهُ هو فقط، ومع ذلك كله، كان السيد عبد الله مؤمناً، ولم يَكُ مُلحِداً، لكنهُ كان مؤمناً في الحَدِّ الأدنى.
بعدَ نحو شهر، عادت ريما إلى بيتِ الوجيه عبد الله، وقابَلَت السيدة خولة، فسلّمت عليها، وعلى بقيةِ العائلة، وقدّمت لهم بعضَ الهدايا، من بينها الحلوى الجاويّةُ الخضراءُالتقليدية، المُسمّاة كليبون، وكانت رائحةُ جوز الهند التي لا تُرى تنبعثُ من الكليبون، فتُثيرُ شَهيّةَ الحاضرين، ثم توجَّهت ريما للسلام على السيد عبد الله الذي كان يجلسُوحيداً في مجلسِهِ الواسع قربَ مدخلِ البيت، يشربُ قهوتَهُ ويُطالعُ هاتِفَه، فلمّا رآها قامَ إليها مُرحباً بها، فقدّمت إليهِ بكلتا يَديْها صندوقاً خشبياً، عليه زخارفُ منحوتةٌ بارزة، وقالت:
– العُودَ يا سيّدي!
– آه، شكراً يا ريما، شكراً جزيلاً، إذن فقد حصلتِ عليه!
وفتحَ السيد عبد الله الصندوق، فوجدَ كميةً كبيرةً جداً من العود الجاويّ، قد تُقدَّرُ قيمتُها حسبَ خبرتِهِ بأكثرَ من خمسين ألف درهم، فداخَلَ قلبَهُ ارتيابٌ كبير، ورفعَ رأسَهُ ينظرُ إلى ريما، التي كانت تنظرُ إليه بطمأنينة، فكادَ أن يسألَها عمّا إذا كان هذا العودُ أصلياً، لكنه عَدَلَ عن ذلكبعدَ أن تفرَّسَ في قِطع العودِ بعَيْني خِبرتِه، فرآها تنطِقُ بالأصالة، ثم قال مُظهِراً سذاجةً لا تليقُ بمِثلِه:
– هذه كميةٌ كبيرةٌ من العود يا ريما، كيف حصلتِ عليها؟
– آا.. لقد أخبرتُك من قبلُ يا سيدي بأن هذا العودَ متوفرٌ في بلادي.
نظرَ السيد إلى ريما هُنَيْهَةً، ثم قال:
– همم.. طيب، لا بأس، وكم تُريدينَ مُقابلَ هذه الكمية؟
– لا أريدُ شيئاً يا سيدي، هذه الكميةُ هديةٌ لك!
– كيف لا تريدين شيئاً؟
وَجَّهَ السيد عبد الله هذا السؤالَ لرِيما وهو مُستغرِبٌ مُرتاب، وكادَ أن يقولَ لها إن كميةَ العودِ هذه تُقدَّرُ قيمتُها في السوق المحليّة بنحو خمسين ألف درهم، فكيفَ لا تريدُ تعويضاً، لكنه تَذّهَّنَ، فعَدَلَ عن ذلك أيضاً، واكتفى بأن ألْحَقَ بسؤالِهِ السابقِ سؤالاً آخَر:
– لِمَ لا تريدين شيئاً؟
– لأنني لم أدفع فيهِ ثمناً ذا بالٍ كي أسترجعَه، إنه متوفرٌ في بلادِنا بكثرة.
– أتعنينَ أنكِ لم تَشتري هذا العود؟
– نعم يا سيدي، فنحنُ في العادةِ لا نشتريه، لأننا لا نستعمله.
– لِمَ لا ورائحتُهُ طيبة؟ ألا تُبخِّرون بهِ بيوتَكم؟
– كلا يا سيّدي، في الواقع، نحنُ لا نحرِقُ هذا العودَ للبخور في بيوتِنا أبداً، لأننا نؤمنُ بأنهُ يجلبُ الشياطين.
– الشياطين؟
– نعم، أو قد يجلبُ أرواحاً ضارّة، لذلك نتجنّبُه، ولا قيمةَ لهُ عندنا، وإنما يجمعهُ الناسُ لبيعِه على التجار، الذين يُوزِّعونه في البُلدان التي يستعملُ أهلُها هذا العودَ للبخور.
أطرَقَ السيد عبد الله متفكِّراً في كلام ريما، ثم انتبهَ بعدَ لحظات، فقالَ لها بابتسامةٍ لطيفة:
– مع ذلك، لابد من أن تقبلي هذا المبلغَ من المال.
وقدّمَ لرِيما بضعةَ آلافٍ من الدراهم. حاولت ريما أن ترفضَ أخذَها، لكنّ السيّدَ لم يَدَع لها مجالاً للرفض، فقد كان فَرِحاً بكميّةِ العودِ التي وصلته، وأمسكَ بيَدي ريما، ووضعَ المبلغَ فيهما، وهو يقولُ لها:
– أرجوكِ تقبّلي.
قبِلت ريما المالَ شاكِرةً، وقالت للسيّد عبد الله:
– أنتَ يا سيّدي ألطفُ مَن عملتُ لديه، لا أعرفُ كيفَ أشكرك!
ضحك السيّد عبد الله، ثم قال:
– يُمكنكِ أن تشكريني الآن، إذا أحضرتِ لي مِدخَناً بهِ بعضُ الجَمْر.
– حالاً يا سيّدي.
جلسَ السيد عبد الله يتفكَّرُ في كلام ريما، وقد وضعَ صندوقَ العودِ أمامَه، حتى جاءَتهُ ريما بالمِدخَن، فشكرَها وانصرفت، وقام إلى مفاتيح المصابيح، فأطفأَها، فخَفتَت إنارةُ المجلس، وبالرَغم من أن الوقتَ كان عصراً، إلا أن الستائرَ المُتراخِيَةَ بكسَلٍ لم تسمح بدخول الكثير من ضوءِ الشمس، وكان هذا أنسبَ ما يكونُ بالنسبةِ للسيد عبد الله، الذي يُريدُ اختبارَ العودِ في شيءٍ من الظلام كما هي عادتُه، فعادَ للجلوس، وألقى نظرةً متأمِّلةً إلى صندوق العود، الذي لم تَعُد زخارفُهُ تظهرُ جيداً بسبب خُفوتِ الضوء، وكان الجَمْرُ في المِدخَنِ قد علاهُ رمادٌ خفيف، فأصبحَ أفضلَ ما يكونُ الجَمْرُ لحرقِ العودِ باعتدال، ثم مَدَّ السيد عبد الله يَدَهُ إلى الصندوق وفتحه، وأخذ ينظرُ إلى قطع العود فيما تبقى من ضوءِ النهار، الذي سيموتُ بعدَ قليل في المجلس حين تغيبُ الشمس، وأخذ مجموعةً من القِطع في يَدِهِيتفحّصُها، وبينما هو كذلك، أثارت إحدى القطع اهتمامَه، إذ تَراءى لهُ فيها وَجهٌ ما، فقرَّبَها من عينيْهِ اللتيْن ضَيَّقَهما، رغبةً في التحقق من تفاصيل ما تَراءى له، وفجأةً رأى في تلك القطعةِ وجهَ شيطانٍ يبتسمُ له. نفَخَ السيدُ على القطعة، ثم مسحَ عليها بيدِه، لكنّ وجهَ الشيطان ظلَّ باقياً، وتسمَّرَت عَيْنا السيدِ على القطعة، كمُدمِنِ خَمْرٍ ينظرُ إلى زجاجةٍ مثيرة، وشَعَرَ برغبةٍ في أن يحرِقَها هي بالذات، فوضَعها على جَمْر المِدخَن، وأخذَ ينظرُ إليها. بعدَ ثَوانٍ تَصاعدَ بخورُ القِطعة، وتصاعد، وتَصاعدَ حتى عَلا في جَوِّ المجلس. وبالرَغم من أن الضوءَ كان قد انتهى تقريباً؛ رأى السيد عبد الله جسماً كبيراً يتشكَّلُ من البخور أمامَه، وقد تَطاوَلَ إلى الأعلى، وظهرَ من أسفلِ ظهرهِ ذَيل، ومن أعلى رأسِهِ قَرنان، ورأى وجهاً فيهِ عَيْنانِ حَمْراوان، فتملَّكهُ رُعبٌ مما رأى، وتراجَعَ في جلستِه، وأخذ ينظُرُ فَزِعاً إلى الكائنِ الذي تمثَلَ لهُ في فضاءِ المجلس، فرآهُ شيطاناً عظيماً، واستعاذَ ممّا رأى قائلاً:
– أعوذُ باللهِ منك.
بَدَت الدهشةُ على وجهِ الشيطان، ثم قال مُبتسِماً:
– أنتَ تستعيذُ بالله!
وأخذ يضحكُ باستخفاف، وسألَ السيدَ عبد الله:
– منذ متى تعرفُ اللهَ أيها الفاجِر؟
لم يرد السيّد، وتراجَعَ في جلستِهِ أكثرَ فأكثر، إذ اقترَبَ الشيطانُ منه مُتعالِياً، وقالَ بِرِقَّة:
– أنا مُعجَبٌ بك يا عبدَ الله، إن الآثامَ والكبائرَ التي ترتكبُها تُشبِهُ وَسْوَسَتي، فهي إنما تأتي خفيفة، مَستورةً في خَفاء، لا كمعاصي بقيةِ العامّةِ الرُّعاع، الذين يُجاهِرون بمعاصيهم، فإما أن يُعنَّفوا من قِبل الصالحين المُصلِحين، فيتوبوا، ومِن ثَمّ أخسرهم بصفتِهم زبائنَ لا بأسَ بهم؛ وإما أن ينغمِسوا في الرذائِل والخَطايا بتطرُّفٍ، بعيداً عن المجتمع، ولكنْ إلى الدرجةِ التي يفوقونني فيها سُوءاً، الأمر الذي يجعلُني غَيوراً!
وضحِكَ الشيطانُ مرةً أخرى، ثم قال:
– أما أنت يا عبد الله فَرَجُلٌ نبيلٌ ومُتحَضِّر.
واقتربَ الشيطانُ أكثر، وأمسى وجهُهُ جادّاً مُتجَهِّماً، فقالَ السيد عبد الله مُرتعِباً:
– ماذا تريدُ منّي؟
أجابَ الشيطانُ بصوتٍ عالٍ:
– أنا غيرُ راضٍ عن حالِك، بالرَغم من إعجابي بك، فأنتَ في وضعٍ عبثيّ، تشربُ الخمر، وتستغفرُ اللهَ في الوقتِ نفسِه، تَزني، ثم أراكَ تكفلُ طفلةً يتيمة، تُقامِر، ثم تتصدَّقُ بعدَ لعبِك مباشرةً، إلى غيرِ ذلك من رَماديّاتِك التي تُربِكُني، والتي لا معنى لها.
سَكتَ الشيطانُ قليلاً، ثم قال بهدوء:
– لقد اضطررتني إلى الخروجِ للواقع، والتمثُّل لك، فوضعُك هذا غيرُ مُحتَمَل، فأنتَ بالكادِ مؤمن، وبالكادِ كافر!
ثم ضَيَّقَ الشيطانُ عينيْهِ الحَمراويْن، وقال للسيّد بتودُّد:
– المعاصي لذيذةٌ ومُريحة، خاصةً الكبائرَ منها، عليك بالإكثار منها، ألا تسمعُ ما يقولُ الناسُ في هذه الأيام؟ يقولون: معصيتي راحتي!
وانفجرَ الشيطانُ ضاحكاً، ثم أضافَ قائلاً:
– لولا المعاصي لَما نزلتُم إلى الأرضِ الجميلة يا عبدَ الله، ولَبقيتُم في الجنّةِ المُمِلّة، ولَما أحسَسْتُم باللذةِ أبداً. أنا شخصياً كنتُ في الجنة، وحقاً كانت مُمِلّة، كلُّ الشهواتِ فيها مُباحة، ومَرميّةٌ على الطريق، أُفّ.
تبادلَ الشيطانُ النظرات مع السيد عبد الله، وفي أثناء هذا السكوت، أخذَ السيد عبد الله نَفَساً عميقاً دون إرادتِه، فدخلَ المزيدُ من بخور العودِ في أنفِه، وأحسَّ برائحةٍ ذكيّة، كما دخلَ المزيدُ من الأوكسجين في دماغِه، فأغلقَ عينيْهِ هُنيْهةً، ثم فتحهما، ونظرَ إلى الشيطان، وقال له:
– أنتَ تكذب.
دُهِشَ الشيطانُ قليلاً، لكنه ابتسمَ وقال:
– لا بأسَ، فالكَذوبُ من أسمائي وصِفاتي!
لكنّ السيّدَ عبد الله تجرّأَ أكثر، فقال للشيطان:
– أنتَ تكذب، فما أدراكَ أنني ارتكبتُ المعاصيَ التي ذكرتَ؟ أنتَ لم تكن معي.
قال الشيطان مُتَملِّلاً:
– بلى، فأنا فموجودٌ في كل مكان.
– كذّاب. لو كنتَ كذلك حقاً، فَلِمَ لَم تظهرْ لي من قبل؟ أنتَ جئتَ من بعيد، في قطعةِ العودِ هذه.
رَدَّ الشيطانُ بِصَبْرٍ كادَ يَنفَد:
– يا حبيبي أنا موجودٌ في كل الوجود، لم آتِ من بعيد، القطعة هي التي سافرت، وحين وَصَلَتْ إلى هنا؛ وأحرقتها أنت؛ أَمسَت بوّابةً مناسبةً لي لأخرجَ من خلالها إلى الواقع.
– كل هذا الحجمِ الذي أنتَ فيه خرجَ من هذه القطعة؟
– وما دخلُك أنت؟
– أنا لا أصدّقُ هذا.
– عساكَ لا صَدّقت.
وهنا مَدَّ السيّد عبد الله يَدَهُ ليلمَسَ الشيطان، فتراجعَ هذا فَزِعاً، وصاح في السيد عبد الله:
– لا تَلمسني!
– أنت لستَ تكذِبُ فقط؛ بل أنتَ غيرُ حقيقيّ أيضاً.
– أنا حقيقيّ، لقد خرجتُ أمامَك بمُعجِزة.
فكّرَ السيد عبد الله قليلاً، ثم قال:
– وما قيمةُ المعجزة؟
ابتسَمَ الشيطانُ مُنزعِجاً، وقال:
– ما قيمتُها! هل أنتَ مجنون؟ لقد آمَنَ كثيرٌ من البَشَر بالله عن طريق المُعجِزات، المُعجِزاتُ هي دلائِلُ نُبوّةِ الأنبياء.
رَدَّ السيد عبد الله على الشيطان بأن اللهَ لم يُسَمِّها مُعجِزاتٍ في القرآن، وإنما سَمّاها آيات، وأوضحَ لهُ أن المُعجِزاتِ أمرٌ سهل، يُمكنُ للشيطانِ والساحِرِ أن يأتيا بها، لكنّ الآياتِ لا يأتي بها إلا الله، وطلبَ من الشيطان آية، فقال:
– هيّا، اجعلْ هذا الليلَ نهاراً.
– أتهزأُ بي؟ كيف يُمكنني فعلُ ذلك؟
– أرأيت؟ أنتَ عاجِز.
وفي الظلام، اهتدى السيد عبد الله إلى موضع المِدخَن على الطاولة، إذ رأى وَهْجَ بقايا الجَمْر، فَمَدَّ يَدَهُ إليه، وقَلَبَ قطعةَ العود على وجهِها الآخَر، فانبثقَ دُخانٌ ذو رائحةٍ مُزعجة، نتيجة احتراق الدهن الذي كان على الوجهِ الأعلى من القطعة، وصاح الشيطان:
– ماذا فعلت؟
وبدأ حجمُ الشيطان يتقلَّصُ رُويْداً، حتى صارَ في حجم هاتفٍ جَوّال، وأما السيدُ عبد الله فقد قام مُنزعِجاً من الرائحة، وصاحَ في الشيطان الذي صارَ أسفلَ منه:
– أيها الوغد، أتظنني غبيّاً مُغَفَّلاً كي أخشاك؟ أتظنُّ نفسَك صاحبَ الفضل في المعاصي والذنوبِ والآثام التي يرتكبُها الناس؟
كان الشيطانُ الذي تَصاغَرَ قد جَثا على رُكبتَيْهِ فَزِعاً، وأكملَ السيد عبد الله قائلاً:
– أنت مغرورٌ بذلك الظنّ، مُتكبِّر، ولكنك في الحقيقةِ مطرودٌ من الجنّةِ مثلنا، وتُريدُ أن تلعبَ بعضَ الألاعيبِ قبلَ أن تأتيَ النهاية، من أجل أن تُعوِّضَ النقصَ الذي فيك. أنتَ لستَ سِوى مريضٍ نفسيّ.
قال الشيطانُ بخوف:
– ماذا؟
– نعم أيها الشُيَيْطِين، أنا سأشربُ الخَمر، وسأزني، وسأُقامِر، وسأرتشي، بإرادتي، وليس بإرادتِك. مَن أنت؟
وصَرَخَ السيد عبد الله فجأةً على رأس الشيطان:
– قُلْ لي مَن أنت؟
لم يتمكن الشيطانُ من الجواب، فهَدأَ السيدُ قليلاً، ثم قال:
– أنتَ لستَ سِوى جمرةٍ حقيرة، وحقُّكَ أنْ تُحتقَر. في المرةِ القادمةِ التي سأشربُ فيها الخمر، سأبصُقُ على اسمِك.
وتناولَ السيد عبد الله المِدخنَ، ورَمى بهِ الشيطانَ بقوة، وتناثَرَ ما تبقى من قِطع الجَمْر الصغيرةِ على أرضيّة المجلس، ثم ضربَ السيدُ صندوقَ العودِ بيدِه، فوقعَ الصندوقُ أرضاً، وتناثرت قِطعُ العود، وكان الشيطانُ قد اختفى، وفُتِحَ بابُ المجلس فجأةً، وأُضيءَ النور، والتفتَ السيد عبد الله وهو يَنْهَج، فوجَدَ زوجتَهُ وريما واقفتيْن على الباب تنظران إليه بقلق، وكانت ريما تحملُ طبَقاً فيه من حلوى كليبون، وسألت السيدة خولة زوجَها بعدَ أن رأت الدخان، وشَمّت رائحةَ احتراقٍ غيرَ طيّبة:
– هل أنتَ بخير؟
العُودُ الجـاويّ