علي العبدان

الفَحيـح

صوتٌ ما، كان يصدرُ مرةً بعدَ أخرى داخلَ صالةِ البيت، حيث جلسَ سعيد يقضي الوقتَ ريثما يعودُ مُضيفاه، أختُهُ وزوجُها، وكان الصوتُ يبدو لسعيدٍ مُخيفاً، وكلما غمُضَت عليه معرفةُ طبيعةِ ذلك الصوت، لعنَ اليومَ الذي أصبحَ فيه أعمى.

– إنه زمنٌ أغبَر، كلُّ شيءٍ فيهِ غريبٌ ومُخيف.

قال ذلك، وتذكّرَ كيفَ انطفأت عيْناهُ وهو صغير، قبلَ نحوِ ستّينَ عاماً، حين كان يجلسُ على عرقوبٍ مع أبيهِ وبعض الأقاربِ والأصحاب، بعدَ أن صلّوا صلاةَ العصر، ينظرون جميعاً في الأفق، وعلى جِباهِهُم الرملُ من أثَر السجود، ورأى سعيدٌ قافلةً قادمة، فصاحَ قائلاً:

– انظروا إلى الجِمال، إنها قافلة!

قال أحدُ الحاضرين:

– كلا، لا أرى شيئاً!

وقال آخَر:

– نحنُ كبارٌ ولم نَرَها، فكيفَ تراها أنت؟

ووافقهما آخَرون، ولكنْ بعدَ دقيقةٍ فقط تبَدَّت لجميعِهم القافلة، وكأنّ جِمالَها سُفُنُ أسطولٍ كبير، فقالَ أحدُ الحاضرين لسعيد:

– أُفّ.. كيفَ رأيتَها؟

غضبَ أبو سعيد، وقال للذي تفَوَّهَ بذلك:

– أعوذُ بالله منك، لِمَ لمْ تُبَرِّكْ؟ أَلَمْ يَسَعْكَ أن تقولَ ما شاءَ الله؟ أتُريدُ أنْ تُصيبَ الولدَ بعيْن؟

ولأن العَيْنَ تُدخِلُ الرجلَ القبْرَ؛ والجَمَلَ القِدْرَ؛ كما يعتقدُ جميعُ مَن في هذه القُرى الصحراوية؛ كان لسعيدٍ نصيبٌ منها أيضاً، إذ بعدَ يوميْن من حادثةِ العرقوب، أحسَّ بأن عيْنيْهِ تضعفان، وفي اليوم التالي لم يعُد يُبصِر، وكانت عيْناهُ تَضمُرانِ شيئاً فشيئاً، حتى تقلَّصتا داخلَ مِحجَرَيْهما، وفي اليوم الخامس سقطتا يابستيْن في يَديه، كأنهما لؤلؤتان ملعونتان في يَدي غوّاصٍ بائِس، وأمسى سعيد مُشَوَّهَ الوجه، وقد أدركَ ذلك، حتى وإن لم يكن باستطاعتِهِ أن يرى نفسَهُ في المِرآة، لكنه بدأ يُبصِرُ بحَواسّ أخرى، كاللمْس، والسَمْع، وكذلك بالظنون، وأخذَ يرتدي على الدوام نظارةً سوداء، أهداها لهُ صديقُ أبيه، وفوقَ ذلك كلهِ أصبحَ يُبغِضُ الكثيرَ من البَشَر.

انطلقَ الصوتُ مرةً أخرى، فاستعاذَ سعيدٌ بالله، وأخذ يُفكّر. لم يستطع التخلصَ من ظنهِ الغالبِ بأن أُختَهُ تُريدُ الخَلاصَ منه:

– لا رَيبَ في إنها تُريدُ أن تَرِثَني، وتنتفعَ بأموالي الكثيرةِ مع زوجِها!

وسعيد يظن الآن أنهما تركاهُ مع أفعىً قاتلةٍ في صالةِ البيت:

– وإلا ما هذا الفحيحُ القويّ؟ لقد انطلقَ عُقَيْبَ خروجِهما مباشرة، إنه فحيحُ أفعىً بلا ريب! إنه من نوع الأفاعي التي تعيشُ حول قُرانا هذه، إنها أفعىً قَرْناء، لقد كنتُ خبيراً بها في صِباي.

كان يقولُ ذلك في نفسِه، فيزدادُ خوفاً، إذ تساءَلَ كيف سيتصرّفُ أعمى في مواجهةِ أفعى، وهو محجوزٌ في صالةِ بيت؟ لكنه تشجّعَ قليلاً، وقال إن عليه الآن أن يُخلّصَ نفسَه من هذا المأزق بأيّةِ طريقة، كي يبقى على قيد الحياة، ويُفشِلَ مُخططَ مُضيفَيْه كما يظن، لكنّ غموضَ مصدرِ الصوتِ يُصيبهُ بما يُشبهُ الشَلل.

تحرّكَ سعيد على الأرض بهدوءٍ وحذَر، وهو يتحسَّسُ الأشياءَ من حولِهِ بيَدَيْه، مُحاوِلاً الابتعادَ عن مصدرِ الصوت، وعن أيّ زاويةٍ أو ركنٍ يُمكنُ أن يختبئَ فيه أيُّ مخلوق، ووجدَ في طريقِه كرسياً خشبياً، أخذهُ، واستندَ بظهرهِ إلى الجدار، وأدارَ أرجُلَ الكرسيّ إلى الجهةِ التي تُقابِلُه، في صورةِ المُدافِع بها عن نفسِه، واستقرَّ هكذا، وعادت أحداثُ حياتِهِ تجري في عقلِه، وتذكَّرَ كيفَ مَرَّت تلك الأيام، وكيف كان الأولادُ يَستهزِئون به في الطُرُقات، ويُضَلِّونه عن الوصول إلى بيتِ أهلِه، وكيف كان آخرون يتنمَّرونَ عليه، حين لم يكن يرى ما يَرَوْن، فكانوا يرمون في حِجرِهِ، وثيابهِ، وعلى رأسِه؛ حشراتٍ وزواحفَ ميتة، بل لقد رَماهُ بعضُ الأشقياء في حفرةٍ كبيرةٍ بين التِلالِ الرمليّة، احتُبِسَ سعيدٌ فيها من الضُحى إلى الليل، إذ لم يستطِع الخروجَ منها، ولولا أنهُ كان يصيحُ طيلةَ اليوم، لَما اهتدى إليه أحدٌ لِيُنقِذَه، وكادت حَنجَرتُهُ أن تذهبَ يومَها، كما ذهبت عَيْناهُ من قبل، وتذكَّرَ موتَ أبيه، وكيفَ حصلَ على نصيبٍ كبيرٍ من تَرِكتِه، وكيف نصحَهُ بعضُ المُخلصين من أصدقاءِ أبيه، بأن يستثمرَ جزءاً من أموالهِ بعيداً قُربَ الساحِل، في البنك البريطانيّ للشرق الأوسط، الذي افتُتِحَ حديثاً، وكانت هذه إحدى النصائح الجيّدةِ النادرة، التي تلقّاها سعيد من أحدٍ من الناس، وأما بعدَ ذلك، فليسَ سِوى الاستخفافِ به، والاستغلال، فقد تذكَّرَ كيفَ تزوَّجَ فيما بعد، دون اختيارٍ منه، بامرأةٍ لا يعرفُ عنها شيئاً، فقد أرادَ أهلُهُ أن يُزوِّجوهُ كيفما اتفق، كي يطمئِنوا إلى وجودِ مَن يخدِمُه، ويقومُ بحاجتِه، وكي لا يُبَدِّدَ الإرثَ الذي وَرِثَهُ من أبيه، لكنّ سعيداً اكتشفَ أن زوجتَه ليست سِوى امرأةٍ غريبةٍ من بلادٍ أخرى، بالكاد تتحدّثُ العربية، وأَنِفَ من هذهِ الزِيجة، فلامَ والدَتَه، وأختَه، وعامّةَ أهلِه، وطلَّقَ المرأة، ثم اكتشَفَ أنها أخذت الكثيرَ من مالِهِ المحفوظِ في بيتِه، قبلَ أن تهربَ إلى بلادِها، وتذكَّرَ كيف سطا أحدُ أقاربِهِ وهو سكرانٌ على بيتِه، وكيف أرادَ أن يَنهبَ أموالَه، مُهَدِّداً حياتَهُ بسكينٍ حادّة، حتى نجا سعيدٌ منه بأُعجوبة، وأصبحَ يلعنُ شاربي الخمرِ كلِّهم، ثم تذكّرَ كيف رَغِبَ في الزواج مرةً أخرى، حين شعَرَ بالوَحشة، فطلَبَ يَدَ ابنةِ عمِّه، التي رفضت في البداية، وقالت إنها لن تتزوّجَ أعمى، لكنّها قَبِلَت بعدَ محاولاتِ إقناعٍ عائلية، وربما قَبِلَت طمعاً في أموالِه، ثم ما لَبِثَت أن طلَبَت الطلاق، بعدَ أنْ كبَّدَتهُ خسائِرَ جَمّة، وأخذت الكثيرَ منه، ولم يستَعِد سعيد درهماً واحداً من أموالِه أثناءَ إجراءات الطلاق، لا بسبب القانون الشرعيّ، بل بسبب العُرف السائدِ في مناطقِهم، والتي تجعلُ مِن المَعيبِ في حقِّ الرجلِ أن يستردَّ ما وَهَبَه المرأة، وتذكَّرَ أيضاً زواجَ أختِه، وكم كانت تُعيدُ على مَسامِعِهِ أمامَ والدتِهما، ودون سببٍ؛ ذِكرَ فرحتِها بزواجِها، وبالسعادةِ الغامِرةِ التي حصَلَت عليها، وكيف كانت الأُمُّ تُشارِكُ ابنتَها فرحتَها، عقِبَ ثلاثةِ أشهرٍ فقط من طلاقِهِ الثاني، وما أُصيبَ بهِ من اكتئابٍ جَرّاءَ ذلك، وكيفَ أنه لم يعُد يُحِبُ أُمَّه، ولا أختَه، وتذكّرَ سعيد أعواماً أخرى من المُعاناة، قبلَ أن يهتديَ إلى خادِمِهِ الذي يعملُ لديه، والذي ارتاحَ له، وهو رجلٌ غريب، من إحدى البُلدان الفقيرة، لكنهُ أمينٌ كما خَبِرَهُ سعيد، مُطيع، يعملُ بهدوء، ويقومُ بكل ما يُطلَبُ منه، إنه كالرجلِ الآليّ، الذي يسمعُ عنه سعيد في الإذاعة، ليس لديه مشاعرُ سيّئةٌ ولا حَسَنة، لكنهُ خادمٌ مُطيع، لم يحمِل سعيدٌ بوجودِهِ هَمّاً، والآن، بعد أن سافرَ الخادمُ في إجازةٍ لزيارةِ أهلِه، ها هو سعيد يعودُ لمواجهةِ الخطر مرةً أخرى، في بيتِ أختِه، التي طلبت منه أن يُقيمَ معها مُدّةَ سَفَرِ خادمِه، وألَحَّت عليه في ذلك بطريقةٍ غريبة، فقَبِلَ على مَضَض، وهو الآن نادِم، وتذكَّرَ المَثَلَ الشعبيَّ الذي يقول: “أقرب لك، عقرب لك”، وفجأةً انتبه إلى السكون الذي أطبْقَ على الصالة، وقال:

– لقد اختفى الصوت! الحمد لله، يبدو أن الأفعى قد اختبأت في زاويةٍ ما.

ونتيجةً لفزَعِهِ السابق، وهبوبِ هواءِ التكييفِ الجافِّ في الصالة، شَعَرَ سعيد بجَفافٍ في حَلْقِه وشَفتَيْه، وتذكَّرَ أن أخته قد أعدّت له دلّةَ شاي، ووضعت له عدداً من زجاجات الماءِ الصغيرة، فتحرّكَ بهدوء، مُحاوِلاً أن يجتهِدَ في الوصول للماء والشاي، وأخذ يتلمَّسُ الأثاث، عَلَّهُ أن يصِل إلى طاولةِ المشروبات، لكنهُ توقفَ بعدَ قليل، وقال في نفسِه:

– ماذا لو أنهما وضعا ليَ السُمَّ في هذه المشروبات؟

ثم استدرَكَ قائلاً:

– لا لا، لن يفعلا شيئاً غبياً كهذا، لأنهما سيُكتشفان إذا فحصَ الطبُّ الشرعيُّ جُثّتي، آه، لهذا وضَعا ليَ الأفعى في الصالة، كي يبدوَ الأمرُ قضاءً وقَدَراً!

في هذه اللحظة، انطلَقَ الصوتُ من جديدٍ بقوّةٍ أكبرَ من ذي قبل، وأحسَّ سعيد بأن مصدرَ الصوتِ اقتربَ كثيراً منه، فأُصيبَ بالرعب، وسعى على أطرافِهِ الأربعةِ دون هُدى، حتى اصطدمَ ببابٍ من الخشب، وحين تلمَّسَه، وعلِمَ أنهُ باب؛ حاولَ فتحه، لكنّهُ كان مُقفلاً.

– آه.. إذن، هذا هو، إنهما يُريداني محجوزاً، كي تتمكنَ الأفعى منّي!

وعندَ البابِ الذي لم يُفتَح، أصابَ سعيداً حزنٌ شديد، ورفعَ رأسَهُ إلى أعلى باكياً، فتجمّعَ الدمعُ في مِحجَرَيْه، وحين أنزلَ رأسَه يائِساً، انهرَقَ الدمعُ، فبَلَّلَ ثيابَه، وأخذ يُفكّر: لقد بكى كثيراً في الماضي، حين كان يتعرضُ لمُختلِفِ المواقفِ السيئة، وها هو يبكي مرةً أخرى وهو ابنُ خمسةٍ وستّين عاماً، فأيّةُ غُربةٍ هذه لا تنتهي، وعندَ هذا الحَدّ، توقفَ عن التفكير، وأرهَفَ سمعَه، فقد كان بابٌ بعيدٌ عنهُ يُفتح، وسمع أختَهُ تقولُ له:

– سعيد! ماذا جرى لك؟

رَدَّ عليها بحِدّة:

– ابتعدي عنّي، أريدُ الرجوعَ إلى بيتي!

قال زوجُ أختِه:

– لماذا يا سعيد؟ هَداك الله، لِمَ أنت مُنزعِج؟

وفي هذه اللحظة، انطلَقَ الصوتُ مرةً أخرى، فقال سعيد:

– لقد وضعتُما أفعىً لي هنا.

قالت أختُهُ مُستنكِرة:

– أيّةُ أفعى؟ ماذا تقولُ أنت؟

– إذن، ما هذا الفحيح؟

– أيُّ فحيح؟

– هذا الصوتُ الغريبُ الذي انطلقَ قبلَ قليل!

– هذا صوتُ دلةِ الشاي.

– صوتُ دلّةِ الشاي؟!

– نعم، هذا الصوتُ يخرجُ بسبب حرارةِ الماء، الذي في جوفِ الدلّة!

– بسبب الحرارةِ التي في الجَوف؟!

– نعم!

الفَحيـح