من اليمين لليسار!
باب أبيض مُحكم الإغلاق، كرسيّ أبيض، سرير تتمدد فوقه جثة هي أنا، تلبس مخيطاً أبيضَ، يلتف حول معصمي هوية “111” واسمي الذي كرهته دوماً “فرحانه” موصوم عليها، إطارها أبيض وبها زِرٌّ أحمر، ستائر بيضاء، نافذة صفراء إطارها أبيض، خلف النافذة مبانٍ بيضاء متراصة شاهقة ضبابية القمة، نوافذها صفراء أيضاً.
عيناي تسمع لغط احتكاك ذرات الجدار الأبيض المنتصب أمامي، سمعي يرى أنين كومة لحم بشري تشاركني الغرفة ذاتها، لا أعرف اسمها، ولم أهتم منذ أن قدمت إلى هنا بالتعرف إلى أي شيء، قررت أن ألعب لعبتي السحرية، تصفق قدمي، وتهرول يدي في الأرضية البيضاء تحتي، أقفز فوق مربعاتها المتراصة دون أن ألمس حدودها، واحد.. وخمسة.. ثمانية.. عشرة، أدور في المربع الأخير ورأسي للأعلى، بقعة صفراء تحتي، والسواد يتسلل بهدوء للغرفة، يمحو كل الزوايا والعناصر الثانوية فيها، لأكون أنا وضوءٌ أبيض قفز من النافذة البيضاء ليدور معي برشاقةٍ، أراقصه، يغمرني بقبلاته، أكاد أفقد توازني، أكاد أسقط، لا مجال للإخفاق وإلا تعثرت في تابوت نصبته لي كومة اللحم تلك التي تشاركني الغرفة ذاتها، تشبثت ببردتي الضوء الأبيض، حملني وضعني على السرير، انطفأت البقعة الصفراء، عادت طقوس الغرفة البيضاء!
…
من الأعلى للأسفل!
سقف أبيض، جدران بيضاء، لوحة متصحرة بلا أي ملامح يختزل بياضها إطار خشبي، معلقة على الجدار المقابل لي، جهاز أبيض فوق سريري لا أفهم إشاراته، مصباح أبيض، هاتف أبيض معطل، تلفزيون أسود معطل أيضاً، فجأة رنّ جرس الإنذار، رأيت من خلف الباب المؤصد أقداماً تصفق وأيادٍ تهرول على الأرضية البيضاء، أخيراً فُتِح الباب، الباب الذي لم أعرف يوماً ماذا يخبئ وراءه.. ها هو قد فتح أخيراً..
…
من الباب إلى السرير!
ملاك أبيض بملابس بيضاء، قناع أبيض، حذاء أبيض، وطلاء أظافر أبيض، تمسك ورقة بيضاء وقلماً أبيضَ.
قالت بصوت عالٍ: لقد تعديتِ المنطقة المحظورة، حدودكِ هذا السرير!!
حدجتها بنظرة حادة: أريد أن أراقص الضوء الأبيض!!
تغيرت ملامح وجهها: كُفّي عن هذا!!
هزت رأسها: الهوية “111” حسناً..
دست في وريدي مادةً زرقاءَ، قاومتها برجلي، ركلتها بيدي، قضمت أناملها البيضاء في محاولة مني ألا أدخل في بيات قهرِيّ أبيض، ولكن انتصبت الحقنة في يدي، ارْتَعشتُ شعرت بأن نملاً يسري بانتظام في دمي، يسبح، يعبث، ويحلّق أحياناً، يقرص، لقد نمت!
..
لم أكن أتقن طقوس النوم، فكانت عيناي ضامرتين دوماً كعجوز، رغم عمري الذي أظنه في العشرين، فلقد توقفت عن العدّ، منذ أن أمسكتني “أبلة” رمزية من أذني، تجرّني كخروف صغير للمديرة، تشكو غبائي وعدم قدرتي على حفظ جدول الضرب.
كانت نافذة غرفتي مرمى تصويب لأطفال الحي، لكي يزعجوني، فأجري خلفهم في السِكَكِ الضيقة، حتى أهيم على وجهي ولا أعرف طريق العودة، نعم لم أكن أنام، لأن قبلات سوط أبي كانت تترك عرس دم على جثتي، التي ما عدت أحس بها وأنا هنا..، لقد كان الليل أول عقاب أسود في حياتي..!
الماء ينسل من المغسلة البيضاء، نقطةً نقطة، “تِك.. تِك”، لقد صحوت..
…
كومة اللحم تجلس مقابلي، تتأمل يديها، تتشابك أصابعها تتعارك، تلوح بهما في الفضاء الضيق فوقها، لم أسمع ملامحها، فشعرها الأشعث يخفي كل قسماتها، تندس تحت الغطاء الأبيض، تخرج دمية خشبية مفصولة اليدين، تبتسم لها، تمشط شعرها المتخشب بأظافرها القذرة، تقبّلها.. تحتضنها، وتنام معها، تغني لها بصوت لا ملامح له، تنظر فجأة إلى فراغ يقترب منها، تعتدل في جلستها، تتقاطر من عينيها شذرات خوف، أرى ظِلّاً أسود يقترب من سريرها، تضع يديها كحاجز أمام ذلك الفراغ، تصرخ وتهذي بكلمات غير مفهومة، تُحكِم قبضتها على دميتها المبتورة، شَعرت بنشوة، عضت الوسادة بأسنانها الحادة، تبعثر على ثغرها شيء من الريش، لحنت مقاطع مشفّرة من العويل، تُسمِعُني بنظراتها الحادة خلف خصلها الفاحمة، نظرة غضب، إذا اقتربت منها عيناي، تلوح بيديها أن ابتعدي، تتمدد شفتاها رويداً رويداً، تبتسم، تعبس، ثم تضحك بهستيريا والدموع تنسكب من مقلتيها، ألفت هذه الملحمة اليومية، أرقبها بروتينية وأنا أجلس فوق نعشي الأبيض، هذا عقاب آخر يسلّيني، فحظر التجول ما زال قائماً!
…
قبل سنوات لا أذكر عددها، قررت أن أصنع فخاً لأطفال الحي الأشرار في الساحة الرملية الفارغة وسط قريتي الصغيرة، حيث كنا نمضي وقتنا في اللعب، فهممت بوضع جذوع نخل جافة على حفرة صرف صحي مكشوفة، ليقع بها الأطفال وأتخلص منهم، كانت خطتي محكمة، وكان شيء لا أفهمه يحثني على ذلك، لكنهم ما لبثوا أن اكتشفوا خطتي، ودفعوني فجأة للحفرة المظلمة النتنة، وهم يرقصون حولها: يا “المينونة”..
صارعت الموت ومياه المجاري تندفع إلى فمي وأنفي، الصراصير والقذارة والغدر والإحباط أحكموا قبضتهم على عنقي، كدت أفقد روحي، حتى سمع صراخي بائع الدكان “كومار”، وأنقذني بعد أن مدّ لي إحدى جذوع النخل، لأتشبث بها، وسقطت على الأرض والنتانة تفوح من جسدي، أبصق حواسي وأشتم الصبية، ومن يومها، تعطلت كل تلك الحواس..!
…
فكرت أن أطير، إذ إن الأرضية البيضاء تحتي محظورةً، فما زال الفضاء الأبيض قيد الحرية، يمنحني حق التحليق بين بياضه الرتيب، ولكن أحتاج لبعض الريش من وسادتي، مسكتها ونفضت مقتنياتها، عصرت أمعاءها، تبعثر الريش في كل مكان، أصبح الهواء الأبيض مُشَرّباً بنكهة الريش والأرضية البيضاء مكسوة بشحوبه الرصاصي، وضعت يدي على أذني، شعرت بأن صوت الجهاز المبهم فوقي سينعق لتفتح الملاك الأبيض الباب من جديد، وتحقنني بالإكسير الأزرق، النمل يشم الشهد في دمي، حتماً سيعود لمجرى وريدي!
ولكن لم ينعق الجهاز، يبدو أن حظر التجول مفروض عليّ فحسب!
من خلف الباب المؤصد، أقدام تصفق، وأيادٍ تهرول على الأرضية البيضاء، فُتح الباب، ذات الملاك وذات القناع وذات القلم والورقة وذات الحذاء والأظافر البيضاء، كانت نظرتها كفيلة بأن أفهم أني تعديت مرة أخرى على قوانين هذه الغرفة البيضاء، وأني خالفت حظر التجول المفروض على فضائها الأبيض وليس على المربعات البيضاء تحتي فحسب، أمسكت قبضتي بحدة، خدشتني أظافرها البيضاء، ألقتني على نعشي الأبيض، صرخت، كنت أنادي حلماً أدبر خلف النافذة الصفراء..
صرخت وأنا أشير للنافذة: لقد سقطت من جعبتي طرود، على قوس المطر ذاك..
- نفخت بوجهي: كُفّي عن هذا لقد مللت منكِ..
- بكيت بصمت: هي آخر ما تبقّى لي، أرجوكِ أعيديها لي..!
لكن ما لبثتُ أن شعرت بقرصة مؤلمة، حقنة كبيرة تخترق وريدي، بعدها أيقنت بأن جسمي قد كُبّلَ بأغلال بيضاء، يميناً ويساراً، لا مجال للحركة، لا مجال للرقص مع الضوء الأبيض، لا مجال للعوم في الشلال المرمري، لا مجال لقضم الهواء الملون، حريتي السقف الأبيض فوقي، وقد أُطرِبُ أذنيَّ أحياناً بنعيق الجهاز الغريب فوقي كأغنية ساذجة قبل النوم لكن النمل يسري.. يسري.. يحلّق، يمشي، ويقرص، لقد نمت!
…
رغم أن أحلامي فارغة تماماً، مثقوبة تتسرب منها كل الوجوه واللحظات والأمكنة، كعقلي تماماً، إلا أنني اليوم حلمت بأبي، يلوح بمفتاح أصفر، لكنه كان هرِماً شاحب الوجه، كان يبدو متعباً على غير ما ألفته، لقد ذاب وتلاشى كشمعة، لكن أبي الذي أذكره هو ذلك الرجل الذي لم يبتسم يوماً، لقد كان أبي شرطياً متقاعداً، كان جلفاً، كانت نظراته ترمي بشرر، كان يلكزني بأي شيء قربه، ولم أكن أفهم نظرات السخط في عينيه وهو يراني، لقد كنت الابنة الأولى والوحيدة، “البِكر” التي لم يفرح بها، وأسماني فرحانة أسوة بأمه جدتي التي ماتت قبل ولادتي، على أمل أن أذكّره بها، لكنه كان يلعن اليوم الذي قرر تسميتي باسم أمه ذات الصيت والحسب والنسب، وأنني لا أساوي ظفر إصبعها الأصغر، فكان يناديني “بالملعونة”، أذكر أنه أوسع “كومار” بائع الدكان ضرباً بعد أن أنقذني من حفرة الصرف الصحي..
- لماذا لم تدعها تموت.. نرتاح منها هذه الملعونة!
ورغم أن لديّ ستة أشقاء ذكور ولدوا بعدي تباعاً، إلا أنهم ورثوا القسوة من أبي، الذي كان يغدق عليهم حبه هو ووالدتي، التي لم تدافع عني يوماً..!
…
كانت طقوس العقاب في بيتنا سوداء معتمة، وكان أي تصرف أقوم به لأطرد عن نفسي ملل الأيام ورتابتها ووحدتي القاتلة محض عمل أخرق في نظر أبي، كأن أذهب للدكان أو أمشي في طرقات قريتنا الصغيرة ظهراً أمسك عصاً خشبية للدفاع عن نفسي، أو عندما كنت أذهب للبحر الذي كان يحاصر قريتنا الصغيرة أبتل بالموج ثم أعوم لأنظف جسدي وذاكرتي، رغم أني لم أكن أتقن السباحة، لكن غرقي المتكرر علّمني كيف أتشبث بالحياة، حتى شعرت بأن الموت أيضاً لا يريدني..!
كانت كل تلك الأفعال أو بعضها كفيلة بأن أدخل في طقوس العقاب الأسود، فبعد صلاة المغرب، يستقبلني أبي أمام باب البيت، يمسك بذراعي، تندس تحت قبضته شظايا شوك مؤلم، يأخذني في نزهة قصيرة في ممر مظلم، نصل إلى حضيرة الأغنام خلف بيتنا، وأمي تراقبني من بعيد دون أن تنبس ببنت شفة، يحبسني في مخزن العلف، يصرخ بي “مكانكِ هُنا”، كنت فضيحة يريد أن تختفي، كنت مسخاً، كنت لا شيء في نظره، ومن حظيرة الأغنام تلك بدأت علاقتي الوطيدة بإبليس..!
…
كل الجدران سوداء، ولا يوجد منفذ للضوء الأبيض، الأعلاف الرطبة تفوح بقوة في المساء، ورائحة روث الأغنام أتت على بقية حواسي، أضع أذني على الباب، أسمع قرع نعله على “خوص” النخيل اليابس على الأرض، لقد ذهب أبي وتركني هنا، أجلس بخوف والظلمة تحفني، أحك بقوة شعري الفاحم خوفاً، لقد غزاه القمل، أسمع تعاويذ إبليس في أذني كتهويدة، يحثني على الانتقام..، أحك شعري بقوة، ثم لا أكف عن الصراخ حتى يختفي ذلك الصوت، وذات يوم لم يختفِ، لأنني لم أصرخ، بل تركته يدلف إلى أذني ثم إلى عقلي الفارغ، ذبذبات تستوطنني، استسلمت، وانصعت لرغبته..!
شعرت بزهو وأنا أرى الرماد يتناثر في كل مكان، كان يغسل أدران روحي وهو يهمي على جسدي المتعب، والأغنام تركض بخوف، لقد سمعت أصواتهم يصرخون أبي وأمي وإخوتي، بعد أن استطعت الهروب من نافذة الحضيرة وإشعال النار في البيت بــ “ولاعة” سرقتها من دكان كومار..، وأوصدت الباب عليهم، صراخهم يملأ حواسي، إنهم لا ينطفئون، رمادهم يتناثر، لقد تلاشوا!
…
كنت واقفة بذهول، النار أتت على كل شيء، والسماء بدأت حدادها فانْهَمر المطر بغزارة، بلل كل شيء، إلا روحي، فإذا بقبضة خالية من الشوك تربت على كتفي، أمعنت النظر وإذا بشرطي أعطاني كوباً من الماء فلم أقوَ على حمله بعد أن احترقت أصابعي بالنار، كنت أرتجف وكان حنوناً سقاني وشربت حتى آخر قطرة، ورائحة الحريق متشبثة بملابسي، سألني:
- ما اسمك يا ابنتي؟
- ضحكت باكية: فرحانة الملعونة..!
- من الذي دفعك لحرق البيت وأهلك في داخله؟
- فأشرت إلى الحظيرة وقلت: إبليس..!
- لقد توفي أهلك يا فرحانة.. حرقاً.. لم ينجُ أحد..!
فقمت أرقص حول الرماد المتناثر، يتمايل شعري المحروق يمنة ويُسرى، وأطلق الزغاريد في كل مكان..:
طاحت عليه نفه.. قوموا اشتروا لي دفه
طاح المطر برعوده.. كسر حوي سعوده
طاح المطر بيد الله.. كسر حوي عبدالله
ولم أُنهِ رقصتي مع المطر وأغنيتي، حتى ابتعد رجال الشرطة، وأفسحوا المجال للملائكة البيضاء ليقتادوني إلى هنا، تساءلت وأنا أقاد لغرفتي في جناح معزول في مستشفى الأمراض العقلية كأضحية في يوم عيد، أحقاً أنا ملعونة؟!
بقيت هذه الوصمة عالقة في ذهني، بعد أن وسوست جارتنا مسعودة لأمي كي تأخذني للمطوع “شوكة”، كانت تنفث في ملابسها وعلى يسارها ثلاثاً حينما كانت تراني، كانت متيقنة بأن شيطاناً سكنني حينما ولدت حتى آمنت أمي بتكهناتها العارية، وقبل أن يؤذن المغرب كانت أمي تأخذني لــ “شوكة” كي يمارس طقوسه وتمتماته الغريبة، فكان يضربني بالسوط كبهيمة نكراء لعل الشياطين تترك جسدي وتحرره، ثم أقنع أمي بأنني أصبحت طاهرة، وأعطاني حرزاً ألبسه و”محواً”([1]) أشربه كل صباح على الريق، لعل “أم الصبح” الجنية التي كان يعتقد أبي أنها تسكن في جسدي، تغادر، لكن بركات “شوكة” لم تصب..!
…
أشباح تغريد الأنين تصدح فوق أفنانٍ رماديةٍ، تسبح على هذه الجدران البيضاء، العصافير الزرقاء ميتة، وجِيَفُهَا نتنه، اكتست باللون الأبيض، وكومة اللحم التي تشاركني الغرفة، تقلدت منصب التغريد بسيمفونية نحيب مفقودة، حاولت أن أجلس بصعوبة، فأنا مقيدة بالأغلال البيضاء، ومنتصبة كلوحة مثبتة بمسامير، تلوى جسدي كحية، استطعت أن أغيّر موجة اللون الأبيض إلى موجة النحيب، وجهت أنظاري نحو كومة اللحم، كانت تبكي، تلطم وجهها، لأول مرة أرى ذلك الوجه منذ أن اعتُقِلتُ هنا، كانت تتعارك مع فراغ أمامها، تتشبث بدميتها الخشبية، تتبدل قسماتها بسرعة غريبة، تبكي ثم تبتسم لدميتها، نبهتها طقوسها اليومية أن هناك نظرات دخيلة، كانت نظراتي، نَظَرت إليّ بغضب، كِدت أعتاد على نِبال نظراتها الغاضبة، ترجلت عن سريرها، دنت مني شيئاً فشيئاً، تجرّ خلفها مخيطها الأبيض، شعرها الأشعث يتدلى أمام قسماتها، يغطيها، يجعلها كمومياء فرّت من قبر فرعوني، رائحتها النتنة تستحوذ على كل شيء، خطوات قليلة تفصلني عنها، شَعرتُ أني سأقضي نحبي على يديها، أغمضت عينيّ بقوة، تصبب جبيني عرقاً، أوصالي كلها مقيدة، والأرض تحتي محظورة، والهواء مُلغَّمٌ بالصقيع الأبيض، سأموت.. ستقتلني لا محالة اقتربت، التصقت بنعشي الأبيض، جَلست.. ارتجَفْتُ وأنا ما زلت غير قادرة على تحريك أوصالي، أزاحت ستار شعرها الأشعث عن وجهها، دموعها تشق طريقها، خطوط سوداء نحتتها تلك العبرات المتمردة، أسنانها مهشمة، انحنت على جسدي، تُقلِّبُ عينيها في مغبة الذهول، قلبي يخفق كزلزال، همست في أذني:
- يريد أن يخطف طفلي
- رَدّدتُ بصوت مخنوق.. مَن؟
نظرت يميناً ويساراً بحذر:
- ألا ترينه؟ إنه هناك ينظر إلينا، يريد أن يأخذ طفلي، طفلي الجميل، انظري إلى وجهه..
بحثت عن ذلك الذي يريد خطف دميتها المشوهة، كان البياض في الغرفة متصحراً، لا أعرف بدايته من نهايته، وبؤرته نحن، بحثت يميناً ويساراً، وأنا منتصبة على نعشي الأبيض!
بين زحام التفكير المثقوب، هزت ذراعيّ بعنف.
قالت والزبد يسيل من ثغرها:
– انهضي لننصب له مصيدة يقع فيها، يموت، نرميه من هذا الشباك، لقد سلب مني طفلي مرة، لا أريده أن يأخذه مرة أخرى..
حاكني الصمت بإبرة دقيقة، غزلني كمعطف طوّق ما تبقى من روح ماثلة أمام ثورة الصقيع الأبيض، نظرت إليّ من جديد اقتربت مني، سددت سبابتها بين عينيّ:
- إنك عميلة له.. أجل أنت عميلته.. تريدين أن تخطفي ابني الجميل..؟! سأقتلك.. سأقتلك!
أحكمت يديها على عنقي، استخدمت كل ما أوتيت من قوة، كنت أتلوى تحت غضبها، أحاول أن أتخلص من قبضتها لكني مقيدة من كل صوب، أصرخ..، يتدفق الزبد من فمي، أحاول قضم أناملها، فجأة.. تحرر عنقي من تلك القبضة الحديدية، اندفع الهواء الأبيض إلى رئتيّ من جديد نَظرت خلفها، ابتعدت عن جثتي المُمددة، اقْتَربت من دميتها المشوهة:
- طفلي.. أنت تبكي..؟
- تريد ماما..؟
- تعال حبيبي.. تعال
هَدْهَدت طفلها الخشبي، أخذت تراقصه في الغرفة وتدور به، قفزت على مربع أبيض ملغوم، انفجر صوت الإنذار فوقي، كنت أجمع أنفاسي المتشرذمة، صفقت أقدام الملاك الأبيض خلف الباب المؤصد، فُتِحَ فجأةً، تابعه صوت أزيز صدِئ، دخل جيش من الملائكة، أمسكوا بكومة اللحم وطفلها الخشبي، قالت لهم وهي تشير إلى لا مكان:
- إنه هناك ينظر إليّ يريد أن يأخذ ابني..!
- وتلك اللئيمة عميلته..!
- لقد نصبت له مصيدة.. كي يموت..!
- ألا ترونه.. إنه يقترب منا..!
كمموا فمها ليتخثر كلامها المعجون في جوفها، يتعفن هناك ببطء في طقوس من القهر، قبضوا عليها متلبِّسةً بالجرم المشهود، القتل العمد للفراغ المجهول الذي تسلل من صدع الجدار الأبيض، ونَصبُ مصيدة، وتجاوز المنطقة المحظورة، كلها تُهم تجعل سجلها الأبيض موصوماً بالعاهات السوداء، كلها كانت دافعاً قوياً ليأخذوها من المعتقل الأبيض في نزهة قصيرة إلى الغرفة التي تقع في آخر الممر الأبيض، لم أذهب إليها في نزهة قط، لكني سمعت الأصوات المنبعثة منها، ترى.. هل هي جنة أخرى، مفتاحها أصفر كمفتاح الجنة المعلق على القمر؟
أُغلِقَ الباب، لم يأبه بي أحد، ولم أكن في سِجل التُّهم الموجهة لكومة اللحم، كنت أفغر فمي ليندفع الهواء الأبيض إلى رئتيّ، أصطاد ما تبقى من جيف أنفاسي المهدورة، نسيت أني رقم وليس بجسد، تخنقني رائحة الشواء المتسربة من الباب الصدِئ، تزداد حِدةً، يسقط نظري على الأرضية البيضاء، الطفل الخشبي مرمي هناك، لم تصطحبه كومة اللحم البشري معها في نزهتها، شعرت بكتل ضبابية تخترق أفقي المكبل بالأبيض بددتها صرخات متقطعة وزفرات من آخر الممر، يبدو أن الحفل ازداد ضراوةً، لِم لم يأخذوني معها، أليس من حقي أن أخرج في نزهة؟
أفكار تتبعثر على قارعة طاعتي البيضاء، فُتح الباب فجأة، ملاك أبيض تدفع نعشاً أبيض بعجلات بيضاء، تمدد فوقه جسد غريب تنبعث منه رائحة شواء، بعد هنيهات أيقنت بأن كومة اللحم استوت هناك في تلك الغرفة، ونضجت بما يكفي لكي تنسى طفلها المشوّه مرميّاً على الأرض وتغط في غيبوبة بيضاء، وأُفطم أنا رغبتي بنزهة في الممر الأبيض إلى غرفة جهنم السوداء!
…
يوم لا أعرف ملامحه أو تفاصيله، يُسمى في معتقلنا الأبيض، يوم الأمنيات، عليّ أن أختار أمنية لتحققها لي الملائكة البيضاء، البُرغيّ مفقود، الأفكار تنزف من جعبتي، تنهمر على الأرضية البيضاء، كل الأمنيات انسكبت، ثملت منها الحُفر الملغومة، ضوء سقيم يتكئ على الحائط الأبيض، تتسكع بين شقوقه المتعرجة صفوف طويلة من النمل، تحمل شيئاً لامعاً، أخذت أراقبها، كدت أيقن بأنها تحمل البُرغي المفقود؛ لأنها طالما سارت بانتظام في أوردتي، تشُم شهد البُرغي في آخر الوريد، وتعبث بآخر مقتنيات الذاكرة المتآكلة، أسير مع تلك الصفوف الطويلة، يجول بصري بين أقدامها النحيلة، أشم الشهد وألعق بعض القطرات المسكوبة على الأرض، تدخل الملاك الأبيض، فأخبرها برغبتي بالقفز على المربعات البيضاء تحتي في يوم الأمنيات، تسمح لي، تفك الأغلال، تنزع ببطء المسامير البيضاء، أتحرر من كل شيء، حتى من مخيطي الأبيض، عاريةً أرقص، أقفز على المربعات تحتي، أصل إلى صفوف النمل، أجلس القرفصاء وأتأملها، أبحث عن البُرغي، البرغي الذي كان يحكم وثاق عقلي وبعد سقوطه تلاشيت وذابت ذاكرتي، أحاول أن أنتشله من بين تلك الصفوف الطويلة التي تشق الجدار، تندس في أغواره البيضاء، بدأ جسدي يرتطم بالجدار، أحاول أن أُدخِلُ أناملي الصغيرة في تجاويفه الهُلامية، إبليس يحثني على المضي، أن أحشر جسدي النحيل في ذلك الصدع، وأتماهى معه كأثر قديم، أو مومياء منسية، البُرغي ما زال يلمع بين تلك الشقوق، أحاول أن أمسكه، يحتك جسدي بالجدار، دمي يسيل، النمل يسري، ثمة أغنية تزاحم كل هذه الفوضى في رأسي:
صنديقي ما له مفتاح..
والمفتاح عند الحداد..
والحداد يبغي فلوس..
..
والبرغي.. “يبغي”..؟ ماذا يريد ولماذا يبتعد ويتلاشى؟
والبرغي..
“يبغي”([2]) فرحانه..
وفرحانه “تبغي” حياة..
يغيب البرغي ويتلاشي في الجدار، أرطم رأسي بالجدار مراراً، تقف لغتي..، وتضيق نافذة ذاكرتي أكثر، الطرود تتساقط، دمي يحفر أخاديد خلاصه على وجهي، يرن جرس الإنذار..
انتهى يوم الأمنيات..!
القصص الفائزة في الدورة الخامسة عشر 2024 – جائزة غانم غباش للقصة القصيرة