Glogo

خضار بشري – محمد يوسف زينل

منذ أن قررت الذهاب إلى النادي الرياضي وأنا أتعامل مع الأشياء حولي بالوزن.

أركب سيارة وزنها يقارب ألفي كيلوغرام.

وزني الحالي 88 كيلو غراماً، وزني المستهدف 80 كيلو غراماً ليتناسب مع طولي حسب مقياس مؤشر كتلة الجسم.

وجبة الغداء أمامي، صحن دائري أبيض لمّاع يحتوي على 150 غراماً من صدور الدجاج، مع قبضة من البازلاء والبروكلي (التي أكرهها جداً)، و500 مليليتر من الماء القلوي مواكبةً للموضة.

تورطت في هذا البرنامج الغذائي أخيراً، لتدور سلسلة وجباتي حول أطعمة محددة مثل قطعة سلمون بوزن 150 غراماً، قطعة ستيك بوزن 150 غراماً، 100 غرام من الرزّ الأبيض، ومجموعة من الخضروات المختارة.

أحمل صغيري لأول مرة، لتكون أول كلمة أوجهها له: خفيف. ربما تكون هذه الكلمات مبكرة نوعاً ما. ربما توقع عبارات عديمة المعنى مثل التي اعتاد سماعها. لكن يبدو أنه تفهَّم، ولم يتقبل هذه الإهانة، فعمل على مضاعفة وزنه خلال أشهر قليلة.

بتقديري لم يكن انضمامي إلى النادي بحثاً عن عضلات استعراضية بقدر ما للبحث عن تعايش ما، أو لاكتساب القدرة على التحمل وإزاحة أثقال باتت تكتم أنفاسي. وراء الوعي ثمة شيء يعيش في أعماقي؛ أفكار، مواقف، مشاهد منسية تماماً ثم ما تلبث أن تظهر على السطح، لتكشف لي أن زمناً طويلاً مرّ على وجودي على هذه الكرة.

في مرحلة ما بين الابتدائية والإعدادية، وجدت نفسي أضع مجموعة من التكي[1] على صدري لأقارب قصة سمعتها من أستاذ التربية الإسلامية عن شخصية صحابي عُذّب بوضع حجارة على صدره، حتى يحيد عن مواقفه، وأصبحت أردد معه: أحد.. أحد..

وعند مراهقتي تأثرت بأبطال التلفاز الخارقين، اضطررت في نهاية الأمر للإعجاب بشخصية سبايدر مان، بحكم تقارب بنيتنا الجسدية حينها. أظهر في صورة أرشيفية وأنا أرتدي تلك الملابس التي يغلب عليها الأزرق والأحمر، تمر من خلالها خطوط طولية سوداء، وفي منتصف الصدر هناك العنكبوت. أظهر فيها بدون قناع متجهماً بما يليق ببطل خارق، لعلي كنت أتساءل عن خطورة مثل هذه الصور إن وقعت في الأيدي الخاطئة، وكشفت عن هويتي الحقيقية. أتذكر محاولات تسلق فاشلة. أتذكر تقربي للعناكب التي قابلت طلب انضمامي إليها بالركض.

والآن أصبحت أميل أكثر لسوبرمان. ربما تكون محاولاتي أغلبها محاولات للتغلب على ضعفي البشري، أصبح فيها مضاداً للرصاص، منيعاً ضد خيوط الزمن المتسارعة، وحصيناً ضد الصدمات النفسية. قد تكون محاولة أبدية للبحث عن إنسان أعلى.

في طريق حلمي قبل سنتين، أتذكر خطواتي الأولى في ذلك المكان. استقبلني مدرب مدجج بالعضلات كعادة العاملين هناك. بدأ بالتعريف بنفسه، وبعد مجموعة من الأسئلة الاستطلاعية عن اسمي وإخواني وأصدقائي ومكان عملي، يصمت لبرهة ليقوم بمعالجة المعلومات في رأسه الخالي من الشعر. هل تعرف هذا الشخص؟ أحمد؟ عبد الرحمن؟ علي؟ تظهر مجموعة صور من هاتفه؟ أهز رأسي بالرفض بصورة تلقائية..

هل هذه المرة الأولى لك هنا؟ نعم. أجيب..

ثم يأتي السؤال الأهم: ما هو هدفك من القدوم هنا؟ أن أصبح سوبرمان. أبتسم لأخفي جدية الجواب..

في اليوم التالي، يستقبلني بابتسامة متعبة.. بعد مجموعة من تمارين الإحماء، يوصيني باتباع نظام صحي مبني على البروتين الحيواني. البروتين النباتي مجرد هراء كما يقول، إضافة إلى بعض الفيتامينات والمكملات الغذائية.

يتجول واثقاً كالملك في ساحته، وهو يشير إلى أجهزته ويردد عدد التكرارات. فالتكرار هنا يصنع الأبطال.

يتكئ على مقدمة جهاز المشي الرياضي، تضيء شاشة هاتفه النقال، ويوجهها نحوي..

أخلع سماعة واحدة، بينما أترك الأخرى تصدح بالموسيقى..

انظر هذا أنا في بطولة العام الماضي وأنا أحرز المركز الأول..

وهنا.. أحرز المركز الثاني في بطولة هذا العام. كنت استحق المركز الأول، ولكن عامل العمر.. هذه المنافسات لا تخلو من المجاملات.

بذلت قصارى جهدي لسماع ما يقول، وتظاهرت بالإعجاب..

بعدها بأسابيع انقطعت لظروف تراوحت ما بين خليط من الكسل والانشغال، لأغرق مرة أخرى.

مرت سنتان، ليظهر فيها من غير ميعاد، كدت أنسى فيها شكله وطعمه.. هذه المرة اختبأ بين قطع اللحم. كان رخواً، ويقطر منه سائل لزج، وقد استحال لونه إلى الأصفر. رميت البروكلي خارج الصحن.

عدت بعدها إلى النادي الرياضي مرة أخرى، استقبلني بنفس الابتسامة التي كنت أتذكرها، إلا أن الشيب غزا لحيته.

ثم أعاد مجموعة من الأسئلة. هل هذه المرة الأولى لك هنا؟ نعم. أجيب..

وبدأنا بالتعارف من جديد..

انظر، هذا أنا أحرز المركز الثالث في بطولة العام الماضي.

هذا أنا أحرز المركز الرابع في بطولة أقيمت الشهر الماضي.. يتقطع صوته تدريجياً بين أنغام الموسيقى..

العمر.. الشباب.. ليست عادلة..

كانت بضع كلمات كافية لأتمكن من استكمال بقية الجملة، هززت رأسي تعاطفاً.

أنتهي من تمارين المقاومة التي تضمنت حمل أثقال بشرية، ثم أصبحت أدور وأنا أحمل أكياساً من التراب على ظهري. أتنقل بين مستويات التطور؛ فأنا حمار وحصان، قرد وكنغر.

تبدأ بعدها رحلة الكارديو[2] التي كنت أقضيها وأنا أطلق ساقي لتواكب سرعة الشريط الدوار. يشير إليّ بأصابعه من بعيد بما معناه السرعة 5 لمدة 40 دقيقة.

ثم يأتي السؤال الأهم.. ما هو هدفك من القدوم هنا؟

ألّا أتحول إلى بروكلي. تخرج الجملة فجأة من فمي..

 ألّا أتحول إلى خضار.. خضار بشري..

أكملتها لأشعر بعدها بشيء من الارتياح..

[1]  التكية: مخدة كبيرة أو مسند يستخدم في المجالس.

[2]  الكارديو: تمارين رياضية تهدف إلى رفع معدل نبضات القلب.