Glogo

مطاردة من هواء – عائشة الجابري

الشارع خالٍ على غير العادة.. ولا حتى سيارة واحدة في الطريق سوى سيارتنا!

كان المشوار الذي يستغرق خمس دقائق كأنه خمس ساعات من فرط الفراغ الذي يحيط بنا.. الكثبان الرملية التي تقع على طرفي الشارع كانت محطَّ اهتمام بعد أن كنا لا نلقي لها بالاً أثناء كل المشاوير التي كنا نقوم بها، وحتى الأشجار الصغيرة التي بدت تنبت من جراء المطر في كل مكان على أطراف الشارع كنا نشير لها بلا هوادة، كأطفال أعجبهم المنظر فاتسعت أعينهم من شدة الفرح!

كان مشوارنا في هذه المرة مختلفاً قليلاً.. الشارع المؤدي إلى المكان يتسع لسيارة واحدة فقط وإن كان لا بد من وجود سيارات أخرى فستكون أمامنا أو خلفنا.. كانت الشمس حارقة كعادتها، إلا أننا لم نشكُ من حرارتها أبداً بل بقيت رؤوسنا ملتصقة بنوافذ السيارة خشية أن يفوتنا مشهد واحد!

– وصلنا..

نزلت أنا وشقيقي من السيارة، وإذا بكل المحيطين بنا يشبهوننا في كل شيء! الجميع يستخدم نفس الباب، أقصد يدخلون من نفس الباب الموجود على الجانب الأيمن، ويخرجون من نفس الباب الموجود على الجانب الأيسر. الجميع يستمع إلى التعليمات بدون أدنى حرف واحد، والجميع يلتزم بالنظام!

صمت أخي، وهو يحدق برجل الأمن الواقف عند المدخل.

لم يكن وقوفه عبثاً.. لقد فرّقنا بعد أن كنا جماعة.. يهذي أخي بكلمات مبطنة، فأطيل النظر في عينيه ليصمت ولكنه لم يفعل. نمشي مترين إضافيين لنجد محطة وقوف جديدة.. ارتداء قفاز وكمامة.. نؤدي المطلوب ثم نمشي مترين إضافيين، فإذا بطابور طويل ينتظرنا حتى نصل إلى المحطة..

– سأدخل أنا وأعود سريعاً وانتظرني أنت هنا..

– أحسن.. ما أحب أقف في الطابور!

التحق أخي بالبقية ضمن الطابور الطويل، وفضلت أنا الانتظار خارج تلك المساحة.. بجانب محل الساعات المفضل لدي، مستنداً إلى الجدار ومقابلي ستاربكس؛ محل القهوة المفضل الذي ظننت أنني لا يمكن أن أعيش بدون قهوته يوماً واحداً، ورائحته التي كانت تشدني إليه، تبدلت لتصبح رائحة ديتول تخترق جهازي التنفسي!

دخلت في لحظات صمت رغماً عني وأنا أنتظر.. ممسكاً بهاتفي لمدة تزيد على ساعة دون أن أشعر، تفحصت فيها وجهي من خلال كمية الصور التي أخذتها عبر سناب شات بكل أنواع «الفلتر».. لأول مرة أراني بهالات سوداء، شعري غير مسرح.. لحيتي غير مهذبة على غير العادة.. أنفي تعلوه حبة حمراء أحاول مداواتها بلا جدوى..  لم أتأمل نفسي هكذا منذ زمن!

رفعت رأسي على وقع صوت أقدام رجل قادم باتجاهي..

– ممنوع الوقوف هنا..

لم أتجرأ أن أقول كلمة واحدة..

– حسناً سأتحرك.

ولكنني أسررت في نفسي.. أين أذهب؟ وأخي الذي ينتظرني؟ سأقف بجانب المقهى «ذواق»، وأخبر أخي أنني هناك ليأتيني مباشرة… مشيت بضع خطوات.. المكان كبير جداً ولكنه أصبح مخيفاً.. أذكر هذا المطعم عندما احتفلنا بتخرج صديقي وكان ثمن العشاء يومها أكثر من ألف درهم! لقد كان يوماً جعلنا نحرّم الدخول إلى المطاعم قبل معرفة الأسعار جيداً.. لقد ضحكنا كثيراً حد الدموع والناس حولنا تسلطوا بنظراتهم علينا لجريمة الضحك التي ارتكبناها بهذا الشكل اللافت.. والتحدي الذي أجبرنا صديقنا على قبوله بأن يمشي بين الجموع بقبعة التخرج بكل ثقة، كأنه خريج من مرحلة الروضة! وفي هذا المحل الذي يقابل المقهى على الجانب الأيسر، كنا أنا وأخي نشتكي من التردد على نفس المكان كل يوم.. أووف ملل.. لا يوجد في الدنيا سوى هذه المطاعم؟ لقد سئمنا حقاً!

أصوات عجلات العربات تحيط بالمكان.. تنبيه صوتي عبر مكبرات الصوت بتعليمات مكررة.. أجهزة الدفع الإلكتروني وهي تصفّر.. وقع أقدام الأشخاص باتجاهات محددة.. الدخول من هنا لو سمحت.. الخروج من هنا.. شكراً على التعاون.

لم يعد هناك شيء أهم من الاستماع إلى التعليمات واتباع النظام!

رفعت رأسي مجدداً بعدما كنت أعبث بالهاتف.. المشهد كما هو لم يتغير.. إذاً إلى الهاتف مجدداً!

أصوات الجمادات فقط.. لقد سمعتُ أصواتهم فعلاً!

أصوات خالية من أنفاس البشر تماماً.. ضحكاتهم وصراخهم وثرثرتهم، وبقيت نظراتهم التي أضحت تزعجنا كأننا متهمون ننتظر الإدانة..

– يرجى عدم الانتظار هنا.

أوووف.. مرة أخرى! كأنني الوحيد في المكان الذي يستحق المطاردة!

– عفواً ولكنني أنتظر أخي في الداخل.

– انتظره في الخارج.

– ولكنه وحده، قد يحتاج إلى مساعدة.

– لا تجادل.. من هنا لو سمحت!

تتباطأ خطواتي نحو الخارج، ورأسي باتجاه الداخل متذبذب بين هنا وهناك..

فإذا به يطل بوجهه المغطى تماماً سوى عينيه.

– أشرت له بيدي كأنه عائد من سفر في استقبال المطار… سااالم.. سااالم

رد على الإشارة بإشارة وهو يدفع عربته الحديدية الممتلئة بأكياس التسوق حسب قائمة أمي الطويلة.

خرجنا معاً من نفس الباب الذي يخرج منه الجميع.. بنفس الهيئة.. قفازات.. كمامات.. مسافات تباعد بين الجميع إلا الخارجين من نفس السيارة.

– كيف كان التسوق اليوم؟

– آآه…. الحمد لله جيد. سيكون الدور عليك في المرة القادمة.

– هل ستكون هناك مرة قادمة؟

قلتها ورفعت رأسي محاولاً التمغط بعد أن أثقلني وأنا أشاهد هاتفي، رأيت غيوماً بدت تتشابك بهدوء.. شهيق طويل يملأ رئتيَّ بالهواء.. ألتفت إلى أخي فإذا به على غير عادته يعيد العربة بعد تفريغها في المكان المخصص، ويجلس في السيارة مستنشقاً ما تبقى من هواء ثم يزفره متمتماً عدة مرات: هانت.. هانت.. كل شيء….. يقطع عبارته صوت إنذار الهاتف: تووووت تووووت… يرفعه بيده اليسرى ضاغطاً على زر الإغلاق، ثم يسند رأسه على الكرسي قائلاً: هيا إلى البيت..