Glogo

الحيــاة – أسماء الشامسي

فتحت عينيّ من بعد انغلاق دام تسعة شهور، بدأت أفتحها رويداً رويداً لأرى الحياة، فسطعت أشعة الشمس في عينيّ، وشممت أنفاس الحياة، عند ولادتي وكان عمري يوماً، لأول مرة أسمع ضحكات أمي ووالدي، وهما ينظران إليّ بحبّ وودّ، أردت أن أعانق تلك اللحظات التي جعلتني أتأمل أكثر، كنت أميراً بل سلطاناً الكل يحملني، وتتهافت عليِّ القبلات والأحضان، أتلقى مئات الهدايا، وإن بكيت جرى الكل ليرضيني ويزيل مزاجي العكر، فماذا أريد أكثر؟ لقد تغيّر والداي، ولكن تنبؤاتي كانت خاطئة فقط تغيرا لشهر واحد فقط، وعادا إلى لعبتهما المفضلة لعبة المشاحنات والمشادات بالكلمات، وددت لو كنت أصم حتى لا أسمع مشاحناتهما، كنت وقتها أريد أن أسمع كلمات حنونة تحنّ على طبلة أذني لتزيل تلك المشادات الكلامية والمشاجرات الدائمة التي ترسبت في أذني، فالتحمت وامتزجت مع طبلتي، كنت أكره تلك اللحظات، وحتى وأنا خارج أحشاء أمي ما زالت تلك المشاحنات تلاحقني، تخيّلت بأني سأنسيهما مشاجراتهما وخلافاتهما، ولكن هيهات أن يتغيرا، فهما لن يتغير أبداً وسيبقيان على عاداتهما وأفعالهما، وسيقعان في نفس أخطائهما، كنت أبكي بل أصرخ لألفت انتباههما بوجودي في حياتهما، هي لحظات تهدأ أمي، ويقتنص والدي الفرصة ليرمي بكلمة تجعلها تثور وتشتعل غضباً فتهزّني وتربّت عليّ وتقول لولا بكاء الطفل لأكملت مناقشتي، أمي العزيزة هل هناك مناقشة أخرى؟؟ أتصدقون إني مللت، أريد ذلك الشهر الذي كنت فيه سلطاناً، مررت مع الأيام وتبدلت الشهور، وتغيّرت الفصول، وهما كما هما، على أتفه الأمور يصنعان قضية عالمية، صرت أتجاهل عنادهما ومشادّاتهما، لم أعد أكترث إن تشاجرا فصارت هذه هي قصة حياتي وبداية تزعزع استقراري، لم يكن لي أخ، فكنت أنا وحيدهما، ولكن المشاكل كانت هي أختي التي لم يعرف عنها أحد، كبرت وما زالت تلاحقني، خنقتني أجواء الضغوط فجعلتني في أجواء متزحزحة، عانيت من طفولة بائسة، فكلما أردنا أن نضحك تباغتني تلك اللحظات التي أشعلت ظلّي، أتتخيلون أني أعيش كل يوم على خناقات ومشاكل ومشاحنات، العالم يقول صباح الخير ويغرق في تأمل الصباح، ونحن نقول صباح المشاكل لتبدأ مشكلة جديدة، حتى مستواي التعليمي تأثر في البداية، فأنا أرجع قبلهما، يرجعني السائق وتستقبلني الخادمة، آكل وجبة غدائي معها، فهما يتأخران ويرجعان منهمكين، التلفاز والآيباد هما رفيقاي، لا أتكلم كثيراً، ألعب كثيراً وأسرح مع التلفاز حتى لا أنشغل بمشاكلهما، لا أدرس لأن لا أحد يستطيع تدريسي ومساعدتي، فهما منشغلان بمهامهما وبمشاحناتهما المعتادة، أنهيت مرحلة الابتدائية بصعوبة، ونجاح على حافة السقوط، كنت طفلاً وحيداً في منزلنا، فهو بارد وقاسٍ، بل أشدّ قسوة من الجليد، وهناك لهيب يحرقني ويصهرني، لهيب المشاحنات، أحس بالاختناق كلما رجعت إلى البيت، أريد الهرب إلى البعيد، لا أرغب في الانجراف خلف تيار التفكك، ولكن لم يبق الكثير على الافتراق.

التحقت بالمدرسة المتوسطة، وكبر همّي بل زاد، كنت أريد أن أركز على تفوقي والانحسار عن الانهيار الدراسي، كنت أرغب في تحقيق أحلامي لأسعدهما، ولكن يبدو أن أحلامي لم تعد من أولوياتهما، ولكن كان لي طريقي نحو ذلك الهدف أريد أن أناله، لن أسرد كل تفاصيل معاناتي مع الدراسة، ولكن هناك من وقف إلى جانبي، أصدقائي، ومدير مدرستي وكل أساتذتي، جميعهم ساندوني لأتخطى مشاكلي، لأركز على دراستي، كانت مصيبتي عندما أنهيت المتوسطة، وكنت مقبلاً على مرحلة الثانوية، لقد قررا من دون أن يخبراني، فلقد انفصلا وتفككت عائلتي، كنت مشتتاً عندما طرحا عليّ ذلك السؤال: «سعد، لك مطلق الحرية في اختيار من تعيش معه؟»، أنا لم أشأ أن تضعاني في هذا الموقف القاتل الذي بعثرني، أتعلمان لقد تحطمت بل انكسرت، بكيت في حضنيكما ولكن دموعي تساقطت بلا فائدة، لأنكما ربّتّما على ذلك الكتف، ثم حدقتما فيّ منتظرين إجابتي، قلت لكما: «الوداع يا والدايّ لقد كنا أسرة، والآن ما عدنا، فليمض كل منا في طريقه، وأنا طريقي لن يكون مع أي منكما، سأعيش مع جدتي».

منذ أن رحلت عنهما عشت مع تلك الجدة التي عوضتني عن الحنان الذي هرب عني وتركني، كانت جدتي هي حياتي الجديدة، هي أمي وأبي، نعم تلك المسنّة ذات الشعر الأبيض هي من جعلتني أكون ما أنا عليه الآن، فوالداي تخليا عني وتركاني أتجرع مرارة الفراق، وأنوح على ظليّهما، كنت أنا من يزورهما حتى أرى إخوتي، نسيت أن أخبركم منذ أن انفصلا، كل منهما ارتبط وتزوج وعاش حياته، كنت أراقب عناقهما المطول لأولئك الأبناء، أكنت أنا السبب في فراقهما؟! أم لم أكن الطفل الذي يُريدانه؟ لن أنكر أن قلبي اشتعل غيظاً لسعادتهما، لأنهما لم يسعداني كما أسعدا إخوتي الذين لم أشهد على وصولهم في الحياة، لم يخبروني بأنهما رزقا طفلاً جديداً، بل كنت اكتشف لوحدي عندما كنت أزورهما، وكانت زياراتي لا تأخذ الكثير من وقتهما، فزوجة أبي لا تطيق وجودي، ترمقني بنظرات ازدراء، وتقفل عني المطبخ، تخاف أن آكل من طعامهم أو أسرقه، تجعلني أنتظر في الخارج، لا تدخلني إلى داخل المنزل، وإن دخلت تتبعني ولا تتركني لدقيقة واحدة، لا أدري أتخشى أن أسرق شيئاً؟ وأحياناً عندما أزورهم أطرق الباب وتجيبني الخادمة بأنهم غير موجودين، في حين أنهم في الداخل، فلم أحزن. وأما زوج أمي فعندما يراني يقول لأمي: «أهذا ابن ذلك الزوج الذي انفصلت عنه؟ أيشبه أباه؟ وبعدما يفرغ من أسئلته يقول لي باحتقار: هي أنت لا تؤذي أبنائي، اهتم بهم وإلا سأبرحك ضرباً فأنت ابن ذلك الرجل، فأنت تشبهه وستكون مثله»، أطيل النظر في وجهه بحزن، وأصمت وأقول لذاتي: العفو منك يا زوج أمي، فأنا لن أصبح مثلهما أبداً، فلو كنت مثلهما لما زرتهما على الرغم من جراحي وأحزاني.

مضت أيامي وأنا أكافح حتى أصل لطموحي ونجاحي، لأجل جدتي التي أعطتني كل طاقتها لتشجعني للوصول لهدفي، كانت هي مدرّستي التي تتلمذت على يدها، علمتني أن الحياة تجارب ودروس، تعلّمنا وتشرح لنا أصعب الدروس التي تمر على الإنسان، عوّضتني عن النقص الذي شعرت به، فكانت لي كل حياتي، صبرت معي وتعلمت منها الصبر، والتوكل على الله، جعلتني إنساناً إيجابياً، وحمتني من الانحراف والضياع، لأنها تراني ابناً نافعاً وباراً، لو تعلمون مقدار حبي لها لاستعجبتم، فلو شققتم صدري لما توقف حبي لها، أنا أحبها كثيراً، ومن ذكرياتي معها، عندما نجحت في الثانوية العامة وتميزت بنسبتي، تذكّرني والداي، وكلّ منهما قال ذلك هو ابننا، الآن تذكراني، ولكن صمتّ وقلت الحمد لله على كل حال، ودخلت الجامعة وتخرجت فيها وكنت الأول على دفعتي، وكانت جدّتي تصفق لي من بين الحضور وتقول ذلك هو ابني، بكيت وأهديتها نجاحي، فعانقتها وقبّلت رأسها ويديها اللتين أرشدتاني  لدرب النور وطريق الحق، هذه الإنسانة هي كل ما أملك، وفراقها أقسى شعور، كانت منديلي الذي يكفكف دموعي، وكانت سندي في ضائقتي، كانت وسادتي التي أتوسد بها لتمتصّ كل مخاوفي وهمومي، كانت ظلّي الذي لم يفارقني، تزوّجتُ وهي من اختارت عروسي، فكانت أرقى عروس، ورزقت طفلة وسميتها خولة على اسم جدتي الغالية، ومرت سنة على زواجي ثم فارقتني، بكيت كثيراً وتمزّق فؤادي لأني لم أقدر على فراقها، وكأنما انتزعوا روحي عندما أخبرتني زوجتي بمرضها وأنها تحتضر، تركت عملي وركضت مسرعاً، وجلست بجانبها وأنا أمطرها بالقبل والدموع المتساقطة، عانقتني ثم قبّلتني، وتأملتني ثم فارقت الحياة وهي في حضني، نحت وبكيت، وتمزقت لفراقها، لم يبك أبي على والدته خولة كما بكيت أنا عليها، فالله عوضها عن أبي بوجودي في حياتها، حتى أكون باراً بها، وأصير لها الابن الذي كانت تتمناه.

أنا الآن جدّ لأسرة لن تتزحزح ولن تتشقق، ولن تقتلع عروقها، تعلمت كيف أحافظ على مشاعر الأطفال، وأن أجنبهم ذكراي المؤلمة، وتجربتي القاتلة، درّست أبنائي وأحفادي نهج جدتي، وعلمتهم دروسها، فصرنا أسرة متحابة ومتراحمة، وأريد أن أخبر زوج أمي بأني لم أصبح مثل أبي وصرت شيئاً آخر، فلا تدمر طفلاً بكلماتك، ولا تنفصلوا عن بعضكم لأنكم ستحطمون بنياناً سينهار ويتراكم الدمار والحطام، ونبقى مجرد حطام، ترابطوا ولا تفرقوا وكونوا يداً واحدة.