Glogo

وقفة حُلُم – آمنة القايدي

عشقت كرة القدم مذ كنت طفلاً صغيراً لا يعرف كيف يرتّب شعره؟ ولا كيف يُتِمُ كلماته أمام الغرباء؟ أحببتها بأحجامها وأشكال الزخرفات الجميلة فيها، لتصبح حياتي كلّها كرات، كان أبي يشجعني دائماً، سدّد الكرة يوماً وهو يدرّبني كالمحترفين، انبهرت كثيراً بحركاته ومهارته؛ سألته يوماً:

– هل كنت تلعب الكرة مع الفريق الأول لكرة القدم؟

 نظر إليّ باستغراب وابتسم قائلاً:

– كنت أحلم بذلك وأتمنى أن تحقق أنت ذلك يا علي (الكرة)، بعدها عُرفت في حيّنا باسم «الكرة» أصبح الجميع يناديني بهذا الاسم حتى نسيت اسمي الأساسي «علي». لعبت في كل مكان ومع العديد من الأصدقاء الذين كثر عددهم بفضل حبّي لكرة القدم.

 بدأت أكبر وبدأت تصيبني بعض الإصابات في قدمي؛ كانت أمي توبّخني دائماً وهي تقول:

 «الله يهديك ويريحك من هذه الكرة التي كسرت قدميك».

كانت الكرة في اعتقادها داءً حلّ بي منذ الصّغر، وأضاع عمري ووقتي بل سيضيّع حياتي، أتذكر جيداً أنني جئت يوماً ورجوتها كي تسمح لي بالالتحاق بنادي متخصص في التدريب على كرة القدم؛ نظرت إليّ نظرة لم أحتج بعدها لأن أفتح الموضوع مرّة أخرى.

حزنت حزناً عميقاً، وانزويت في ركن من أركان غرفتي، كلّما دخل أحد إخوتي سألني:

 ما بك يا علي؟

لم أرد على أحد، جلست على الأرض مقطب الحاجبين، ضاماً رجليَّ الذهبيتين إلى صدري المليء بالمشاعر المختلفة؛ لم أستطع تجاوز حزني وألمي، فالذّهاب إلى النادي كان ولا يزال وسيظلّ حلمي لأصل للعالمية في كرة القدم.

دخلت أمي بعد سويعة، تسألني عن سبب هذه الحالة، غير أني لم أُجب بل أجهشت بالبكاء. تركتني أبكي حتى اكتفيت وهدأت وتوقف بكائي، اقتربت مني بهدوء وقالت لي:

 هل تحبّ الكرة لهذه الدرجة؟ أجبتها بصوت واثق:

  • نعم، نعم.أحبّها أكثر من نفسي.

ابتسمت وقالت لي:

– ما دمت واثقاً بحلمك فلن أمنعك. لكن عليك أن تنتبه لدراستك مع كرتك، لا تدع الكرة تسرقك يا علي!

قفزت فرحاً، واقتربت منها وقبّلت رأسها ويديها ووعدتها أن أكون من المتفوقين.

مرّت السنوات ووفيت بوعدي لأمي ولحلمي، فها أنا أتخرّج من المرحلة الثانوية بمعدلٍ عالٍ سعدت به أنا وعائلتي وخاصة أبي وأمي، وها هي الآفاق تفتح لي للعمل، لكنّي توقفت قليلاً قبل أن أقرر، فلقد انهالت عليّ العروض من بعض الأندية لأكون لاعباً أساسياً فيها؛ لكنّ الراتب قليل جداً ولن يعينني على تحقيق احتياجاتي ورغباتي؛ لكنّه خطوة مهمّة لأصل لحلمي؛ هنا صارحت أمي وأبي، وحدثتهما عن رغبتي في أن أكون لاعباً محترفاً في الدولة وأنني أريد أن أبدأ باللعب في أحد أندية المحترفين؛ لأتمكّن من الوصول إلى هدفي في احتراف كرة القدم، سمعا  كلامي وطلبا مني وقتاً للتفكير في الموضوع؛ لكن أبي أصرَّ  أن أقدم أوراقي في مختلف الهيئات والمؤسسات والجامعات للعمل حتى نقرّر جميعاً بشأن النادي أو العمل.

مرّت الأيام ببطء شديد على نفسي بل الساعات كانت ثقيلة وعنيدة، بينما كان والداي يسألان ويقارنان ويوازنان الأمور، كي يصلا إلى حل مُرضٍ وجيد يحقق حلمي، ويبني مستقبلي الذي لن يكون مضموناً بالاعتماد على كرة القدم وحدها.

جاءت اللحظة المنتظرة قدّم أبي وأمي لي جدولاً، وطلبا مني الجلوس لقراءته بتمعّن، ثم نجلس للنقاش.

 ويبدأ النقاش: ماذا تريد أنت؟ كي لا تلومنا يوماً على اختيار أنت الأحق بأخذه.

قرأت جزءاً من الجدول، أبهرتني المقارنات ودقة التفاصيل، الوقت والراتب، المميزات والسلبيات لكل وظيفة وإمكانية ربطها بالتدريب في النادي، لقد كان خيار العمل والاحتراف مقترنين معاً في عدد من الوظائف، ومن بينها كانت الدراسة الجامعية؛ تحمّست لهذه الفكرة بل أثارتني وهي أنّ بإمكاني الدراسة واحتراف كرة القدم معاً، انطلقت مسرعاً إلى والدايّ وتناقشنا، أخبراني أنه قرار جيد وسيمنحني الفرصة ليكون لي مستقبل زاهر جداً، ابتسمت وشكرتهما على تعبهما في البحث والسؤال، تمنّيا لي التوفيق ودعا كل منهما لي دعوة غالية على قلبي.

تسارعت الأمور وتعاقدت مع النادي بدأت أظهر في بعض المباريات وأحرز الأهداف، وبدأ اسمي يتردّد في الأوساط الرياضية بقوّة، مع ذلك كنت أدرس أيضاً وأجتهد في تخصصي، بدأت أرى أحلامي تتحقّق في مقابلات صحفية وتلفازية جعلتني أكثر شهرة.

دخل أبي عليّ يوماً وأخبرني أنّ عليّ الالتحاق ببرنامج الخدمة الوطنية كان ينظر إليّ متوجّساً من ردّة فعلي، لكنّني رددت وبكل فخرٍ:

 لبيك يا وطن.

 ابتسم أبي وقال:

– خفت أن تغضب من أجل الكرة؟

رددت عليه أنا أحب الكرة، لكن وطني أهم مني أنا، وعليّ أن أسعى لخدمته، وكرتي ستبقى معي حتى أنتهي من فترة الخدمة، ثم سأعود معها إلى الملاعب.

ارتديت اللباس العسكري وكلّي سعادة وفخر، سعادة لم أشعر بها حتى وأنا في الملعب، ودّعت إخوتي وهم يتلمّسون الزيّ العسكري، ويعلّقون على طريقة ارتدائي له، ودّعوني وهم يقولون:

– عد لنا قوياً لتحقق هدفاً عسكرياً في الملعب.

 بصوت مبحوح بدأ يخفت كلّما اقتربت من أمي احتضنتني بقوّة وهي تقول:

– ستمرّ الأيّام سريعاً، وستفخر بهذه الفترة يا علي، لأنها ستقدم لك شيئاً تحتاجه بلادك كما تحتاجه أنت، قبّلت رأسها ورأس أبي الذي ابتسم ابتسامة غريبة وقال:

– سأوصلك إلى الحافلة يا علي.

ركبت مع أبي، صمت كلّ منا لحظات ثم قال لي أبي:

– أنت رياضيّ قويّ ولن تتعب كثيراً في التدريبات العسكرية، لكن عليك دائماً أن تتذكّر أنّك في معسكر ولست في ملعب!

وعدته أن أبذل جهدي وقبّلت يديه، وانطلقت مع زملائي الذين اختلطت معهم كأننا جمهور اجتمع لحضور مباراة نهائية، كنت متوّجساً من خطواتي وحركاتي، حريصاً على السرعة وتنفيذ الأوامر .

نظام وقفة عسكرية، وقت دقيق لكلّ شيء ولو كان بسيطاً، لقد أعيد تنظيمي داخلياً، عوقبت عدّة مرّات لكنّني بعد مدّة أصبحت جندياً ملتزماً.

استغرب أحد زملائي حين صارحته أنني لا أريد أن أنهي مدّة العسكرية، أريد أن أعيش في هذا الجو المفعم بالنّشاط والحركة.

رد عليَّ:

– والملاعب ألا تريد العودة إليها؟

 قلت: بلى ولكن الأمر مختلف، أنت هنا تتحدّى نفسك، ورغباتك لتستمتع بالعطاء.

أنهيت أيّامي لكن قلبي امتلأ بعشق جديد، بدأت أفكر بطريقة جديدة وصلت لمراحل متقدّمة في لعب كرة القدم، طلبوا إعارتي لدولة أجنبية لكنني رفضت، لأن شيئاً ما تغيّر فِيَّ وفي أحلامي، نبض خاص يمتزج بالوطن وتشرق معه الحياة.

من مجموعة «سول» أشمعة الشمس

الفائزة بمسابقة وزارة التربية والتعليم (أقدر)