Glogo

جدلية الحياة لسيدة الجبل – أسامة الحداد – حول رواية «خرجنا من ضلع جبل» للولوة المنصوري

يولد الأطفال كهولاً ويموتون والبطلة هند وحدها خارج جينات اللعنة… من الأسطورة التي لم تعد نتاجاً لطاقة تخيلية بل تحمل دلالات ورؤى ورموزاً، إنها شفيرة داخل النص وطريقاً لتأويله وإنتاجه من جديد عبر التفاعل معه…. تبدأ الرواية حيث الجبل بقسوته وشموخه، يقف في مواجهة البلدة ويحتضن أطفالها الغرائبين المصابين باللعنة، فمن الموت تبدأ الأحداث وتنتهي به أيضاً، وكأنها دائرة مغلقة، ووحدها فاطمة تظل حية بعد أن تحولت إلى نخلة، وكأن النخلة هي الطوطم الإلهة التى تهب الحياة، وتعيدنا لما يعرف بالأديان البدائية والتي تؤمن بها إلى الآن بعض القبائل الأفريقية والقليل من السكان الأصليين للعالم الجديد، خاصة القبائل القاطنة في غابات الأمازون في البرازيل، والجدة التي تحاول إنقاذ الأطفال الكهول عبر إطعامهم بحلوى شعبية بسيطة هي غزل البنات أو شعر البنات بلا جدوى، وهند تقص سيرة حياتها في رواية لولوة المنصوري الثانية «خرجنا من ضلع جبل» وكأنها المرأة الأولى حواء، وإن خرجت من ضلع جبل «جيس» وليس من ضلع آدم كما في القص الديني، وبالطبع فللمرأة الأولى حضورها لدى الشعوب القديمة ومئات الأساطير التي تدور حولها مثل «نينخور ساج» لدى السومريين، والتي عرفت بالسيدة الطاهرة، و«هيرا» و«ماعت» و«إيزيس»، ومن البديهي أن المجتمع لا يوجد دون أنثى، فهي الأرض التي تنبت الزرع كما في الأساطير القادمة من بلاد بين الرافدين وغيرها، والجبل له حضوره هو الآخر، فآلهة سومر يقيمون على «جبل الكون المقدس»، وآلهة الأغريق على «جبل الأولمب»، فوحدها من تملك أن تلد اطفالاً لا يحملون اللعنة ولا يولدون كهولاً، وهي المقرونة بهلال محرم، أول شهور العام العربي وبداية السنة القمرية – أي بداية التاريخ – وهو ما يعيدنا إلى عنوان روايتها الأولى «آخر نساء لنجة» وارتباطه بالرواية التي بين أيدينا، فمنذ العنوان عتبة النص وهي تعلن عن كونها المرأة الأولى، وتعيدنا إلى لحظة الخلق كسؤال وجودي – يرتبط بالميتافيزيقي والماورائي – ليس بالخروج من جنات عدن عبر خطيئة التهام ثمرة محرمة، يكتشف معها الإنسان عجزه وهزيمته ومتاعبه، بل عبر كونها منبع للحياة، فالموت يمثل سؤالاً محورياً وحالة جدلية داخل النص، فالبطلة تقاومه إلى أن تغيب لتبدأ دورة جديدة من الحياة التي قدمتها لسبعة أولاد، واللعنة التي أصابت البلدة والبحث عن وسيلة للخلاص منها، هي في جوهرها إعادة لإنتاج أساطير وملاحم قديمة، وكأنها تستعيد تاريخ البشر عبر اكتشاف حياتها، ففكرة الخطيئة وارتباطها باللعنة نجدها لدى الشعوب القديمة، وترتبط بالتعاويذ والتمائم كما في مصر القديمة، وارتباطها بالثواب والعقاب كما في مفهوم الضمير «ماعت» التي غدت إلهة للعدالة وتعاليم أمنموبي وبتاح حتب، وفي إنليل العاصمة الدينية لسومر وقصة الرجل العادل وابتهالاته للأرباب لإنقاذه مما أصابه، وكان الزرادتشيون يقدمون القرابين لإنقاذهم من قوى الشر أهرمان والياتوسيين وأتباعهم من الشياطين والبشر والأمراض التي خلقها انكراماينيو (روح الشر)، وهنا البطلة تواجه اللعنة بالبحث عن سببها ومحدثها (بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم.. ترى، من نحت هذه العبارة على جسد الصخرة) ص 57 الفصل 12 و(نحت بعيد في أسفل الجزء الأيمن القصي من الصخرة بخط صغير وكأنه كتب بخط طفل: «النفس التي تخطئ هي التي تموت، النفس التي تخطئ هي التي تموت») ص 59 الفصل 12، هكذا تضعنا الرواية في مواجهة اللعنة والبحث عن الخلاص الذي لا يتحقق، ومن هنا فنحن أمام رواية لها خصوصيتها، حيث تنطلق من الأسئلة الأولى حول الوجود والماهية وبلغة شعرية تقترب من قصيدة النثر.

الجنس، بطبعه، يتضمن في نفسه نفيه، مؤلفات «فن الشعر» المدعية أنها قوانين للكتابة، لا تلبث أن تحرر حتى تصمها بالبطلان خروق، مقصودة أو غير مقصودة 1، والرواية تتعرف بخمسة أمور دقاق: كتابة نثرية، مكان التخييل، وهم الواقعية، إدراج الشخصيات، الوصف 2 لقد انطلقت من لغة شاعرية لتواجه أول معايير التعرف على الرواية لتضعنا منذ اللحظة الأولى في جدلية الأنواع بلا ضجيج،

والتمييز بين الأنواع الأدبية لم يعد ذا أهمية في كتابات معظم كتاب عصرنا،

فالحدود بينها تعبر باستمرار، والأنواع تخلط أو تمزج 3.

وهذا التمهيد ضروري – بعيداً عن هجوم بنديتو كروتشه لمفهوم الأنواع في كتابه الاستطيقا -، فهذه القضايا الجدلية تتراجع سريعاً أمام النص الذي يقدم آلياته وأدواته، فإذا كانت المقولة الشهيرة إن الخطاب بضمير الأنا هو فعل شعري صحيحة، فهذا لا يعنينا كثيراً، فالرواية يمكن أن نقول عنها إنها سير ذاتية، وأيضاً أن نقول إنها متوالية سردية صنعت رواية برغم استطراد الزمن ووحدة المكان، وإنها تتبع تيار الوعي، حيث التداعي والمونولوج الداخلي، ومع صحة كل هذا بدرجة ما، فنحن أمام رواية تعتمد في بنيانها اللغوي على لغة شعرية تصل بنا كثيراً إلى قصيدة النثر، حيث تباغتنا الراوية في المفتتح (هل ترسم الروح؟

ربما… باللون الأبيض،

وعلى صفحة بيضاء جداً.

كيف أرسم الجثث التي ارتفعت من البلدة وهي الأرواح من أمر ربي؟

لا أملك سوى لونين، لبحر وجبل!

هنا تكون اللوحة ناقصة دون قارب نجاة

   * * *

خرجت من ضلع جيس جبل يأكل نفسه ويكبر، يحتضن بيوتنا الساحلية بقلق، وينام على حافة الحكايات). ص 7 الفصل الأول، ومن هنا ومنذ البداية تكشف عن رواية تقدم من خلالها التفاصيل والأحداث بلغة شعرية، لتحطم المسافة بين السياق الشعري، والسرد الموضوعي، وتتجاوز فكرة الأنواع الأدبية بتلقائية، وتقدم خطاباً سردياً عابراً للأشكال السردية عبر الاسترسال الحر للتخييل، وتشعير اللغة من خلال معمار لغوي مغاير بقوة الانحرافات والغيبي والخرافات والأساطير، وألسنة

المستحيل، لقد أعلنت عن قطيعة تشكيلية ومعرفية مع الأشكال الروائية السابقة ليغدو المنطق التجريبي هو السائد، لتقدم آلية تشكيل سردي مغاير، حيث اللغة وهي نظام تفكير وجزء من الهوية الثقافية هي لغة شعرية بامتياز وكأننا أمام قصيدة نثر بما يضعنا في جدلية تجاوز الأنواع، حيث يأتي مقطع كهذا: (ركلت رأسك أيها الجبل، وكم يشعر رأسي الآن بالإثارة، لإنني سئمت أن ينام في علبة تدحرجها الفتن والوشايات والنميمة والأكاذيب القديمة أعرف أنه سيأتي من يهرس العلبة يوماً…) ص 70.

إننا أمام قصيدة نثر، حيث المحاكاة والتخييل وكتابة الأجواء الباطنية، ولم يكن هذا المقطع وحده، فالخطاب السردي عبر تقنياته ووسائله التعبيرية قدم استراتيجية مغايرة، فقد بني على لغة شعرية مع القدرة على كسر مطلقية الصوت الأحادي وتعدد الأصوات داخل النص من خلال الحوار والأسطورة والحكايات الشعبية والانتقال بين السرد الحكائي والوصف كما في الفصل 11 المعنون «اشتهاكم الموت»، حيث وصف لجثث الأطفال الذين ولدوا كهولاً وبصيغة الزمن الماضي، حيث تبدأ بالجثة رقم 422 وبلا ترتيب أو استخدام متوالية عددية تصف عدداً منها، وتنتهي إلى وصف جثتين ثم تنتقل إلى عدد منها، وهو انحراف دلالي أيضاً يحمل الغرائبية والتخييل والتكثيف كذلك، حيث تصف موت صاحب الجثة 643 في جملة قصيرة (بقرت بطنها بنفسها)، وهذا الفصل مغاير لما جاء في الفصل العاشر، حيث تشغل الجثة 322 فضاء النص داخله، وكذا في الفصل 7 المعنون (قراءة على جسد الصخرة)، حيث تسعى البطلة «هند» لفك طلاسم الصخرة من خلال المفاصل التي تحمل رمزاً من اللغة باستخدام الحروف الأبجدية وبلا ترتيب أيضاً، بل تصل إلى «المفصل ي قبل أ»، ثم «المفصل أ مجدداً»، وهكذا تقدم عبر فضاء الرواية انحرافات وتناقضات متعددة تجاوز بها الأشكال السردية السابقة، وتقدم نصاً يحمل خصوصية واستراتيجية مغايرة، لتؤكد أن الأجناس مجال غزير لاختلاف الرؤى غير محدد ولا مستقر.

ولا يمكن بحال إغفال سؤال الهوية الذي يبدو مهيمناً على فضاء النص، حيث خصوصية المكان والتناص مع المقدس والتراث العربي، فجبل جيس والبترول (شاع خبر كائن اسمه نفط ينتشر بين شعاب البلدة) ص 17، والطريق الترابي الذي تحول إلى أسفلت، والبحر والقبيلة بتقاليدها التي تبدو في رفض الأب تزويج ابنته هند إلا من أحد أبناء البلدة / القبيلة، (تبيد البلدة ولا أزوجها لرجل من غير أصلابنا) ص 71، والأغنام والبغال والنخيل جميعها تحمل رائحة المكان وخصوصيته والتناص مع المقدس، حيث يكثر التناص مع القرآن والأحاديث عبر آليتي الاستدعاء والتحويل والتي يتحقق من خلالهما التفاعل النصي… مثل جيس جبل يحبنا ونحبه، أو الجبل الذي رضي بقسمة الله وقضائه، فخر راكعاً متصدعاً من خشيته، وهذا التناص دون العودة إلى نظرية النص لرولان بارت والممارسة الدلالية، أو ما كتبته كريستيفا حول التناص يكشف عن هوية ثقافية وتأثير الخطاب الديني والتراث الذي يبدو جلياً في الفصل السابع، حيث تبدأ بالحكايات الشعبية حول السحر وعرش بلقيس وزنوبيا ورؤية المجتمع للمرآة ككائن نجس إلى أن تنتقل إلى «عبده الخال».

كانت الشخصية هي طاغية داخل الرواية التقليدية، حيث الروائي يضعها تحت مجهره، ويحركها كيفما يشاء بحكم معرفته غير المحدودة بمكوناتها ويقودها داخل حدث يحركه، واختلف الأمر مع الرواية الجديدة عبر تطورات عديدة، وخرج من ينادي بالتقليص من دور الشخصية كما فى رواية «المحاكمة» لكافكا، حيث الشخصية مجرد رقم، أو لدى ساراماجو كما في رواية «العمى»، حيث يعرف الأشخاص بعملهم أو بإصابتهم بالعمى، حيث الأعمى الأول والطبيب ومساعد الطبيب و… إنها لا تنفصل عن العالم المتخيل وترتبط بمنظومة تعيش داخلها، ولدى بارت هي عينة من الخطاب مجرد كائن ورقي وتظل جدلية الشخصية مهيمنة، فلن يتحقق المبدأ الحواري إلا من خلالها، وهي التي تتفاعل مع الزمان والمكان، وجاءت الشخصيات داخل النص قليلة وفاعلة، فالبطلة هند تمر بتحولات عبر سيرة حياتها التي تقدم من خلالها سيرة المكان، وتتفاعل مع الأساطير والحكايات، إنها شخصية إيجابية تغير ما عجز الآخرون عن الاقتراب منه، وبدت الشخصيات من حولها في الكثير من أحداث الرواية ظلالاً لها، وإن حملت كل شخصية رمزاً ما يناسب التكثيف والدلالات التي تدور في فضاء النص مثل الأب بعجزه وسلبيته، والجدة في محاولاتها الفاشلة، وفاطمة وهيثم بل وأحمد عدنان الذي يظل طيفاً داخل النص إنه الحاضر الغائب، إنها لا ترسم الأبعاد النفسية ولا تقدم أشخاصاً يمكن وجودهم خارج العالم المتخيل للرواية، ولا يخرجون عن الوظيفة الأدائية لحمل الخطاب الروائي.

وأخيراً كانت للغرائبية تجلياتها، حيث الغرابة تتعلق بنوع من الشك وعدم اليقين، والغموض والالتباس والريبة الملازمة للمكان والزمان والتاريخ، 4.

والغرابة نوع من الحضور يدل على الغياب، حضور للموت يدل على غياب الحياة ولها قوتها التأويلية، 5.

والأطفال الكهول حالة غرائبية في ميلادهم وموتهم، واللعنة كذلك والتعاويذ والسحر جميعها ترتبط بالغرابة بالحضور في الغياب… (لم أتمالك نفسي من شدة الفزع، فنفضتها بسرعة بعيداً عن جسدي، وصحت في وجهها «من أنتِ يا هذه»)، لقد تحققت الغرابة في واحدة من تجلياتها داخل هذه العبارات، وبدت مشاعر الرعب ساطعة تنبعث من الأحرف، وكأن البطلة في مواجهة شبح، وهذه التصورات التي ارتبطت باللعنة والخطيئة، والطلاسم التي دونت على الصخرة تحمل دلالاتها وقوتها التأويلية عن التاريخ والمكان والهوية والصراع مع الغامض والمبهم وعجز الإنسان أيضاً، وهي أيضاً، وكما أشرنا، تمثل أسطورة وتختلف عن الواقعية السحرية التي ذاعت في أمريكا اللاتينية، فأشباح بيدرو بارامو وأورندالات ماركيز في «مائة عام من العزلة» يختلفون عن الأطفال الكهول، فهنا تقدم الساردة أسطورة تخص المكان، وتصورات غرائبية مغايرة، وعوالم تخرج من الجبل الذي يحتضن البلدة والبحر والنفط نشم من خلالها عبق المكان وقسوة العالم وعجز البشر حتى وإن انتصروا مرحلياً….

                 

  • الأجناس الأدبية – إيف ستالوني – ترجمة محمد الزكراوي – المنظمة العربية للترجمة ص 197
  • المرجع السابق 123
  • مفاهيم نقدية – رينيه ويليك – ترجمة د . محمد عصفور – عالم المعرفة ص 311
  • الفن والغرابة – د/ شاكر عبد الحميد – دار ميريت ص 21
  • المصدر ذاته ص 23