Glogo

القصة الإماراتية الجديدة – لولوة المنصوري

 قبل عامين من الآن تقريباً، وفي جوّ حماسي تشكّلت الفكرة مع القاص محسن سليمان في وضع حجر الزاوية الجديدة للقصة في الإمارات، مجاورة لحجر الزاوية الجنينيّة الأولى التي رصدت القصة في أوائل الثمانينات عبر كتاب «كلنا كلنا نحب البحر» (1)، وذلك عبر إصدار كتاب جديد يعتمد على جمع وتوفير قصص كتّابنا الجدد في القصة القصيرة الإماراتية، ليكون كدليل استرشادي يمكّن الباحثين من وضع خارطة مبدئية وتخمين نموّ المسار، عبر رسم ملامح تحولات الكتابة القصصية والتعرف على درجة وعيّ القاص الإماراتي ومدى ثقافته وتفاعله مع معارف عصره، والمقارنة بين النصوص القصصية الأولى في «كلنا نحب البحر»، وما يُكتَب اليوم من قصة قصيرة في الإمارات.

 ينطلق الجيل الجديد في قصتنا من ثقافة العالم الموحدة، من موسم الحضارة والانفتاح والتلقي والمواكبة للنور، هو جيل القراءة المعولمة، منبعثاً من المقطوعة الزمنية الشاملة للفترة المعرفية والتكنولوجيا، حيث فضاء الإنترنت المنفتح على الأرض، ودور السينما والمنتديات الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي ومراكز الانبثاق الفردي نحو التمازج العالمي، وحيث الأسفار والرّحلات الزاخرة بالحياة والحِراك والتيسير، سفر متطلّع للتغيير، محصّلته زخم نوعيّ في الذاكرة، وكمّي في الصورة والضوء. أصوات جديدة تخرج طازجة ومكتنزة بالثقافة البصرية المتغذية على الخيال والحوار والتفاصيل الراقية في الحياة الإنسانية.

هذه الأصوات الجديدة في القصة الإماراتية وإن نأت مؤخراً وبشكل ملحوظ عن فن القصة منشغلة بالرّواية، إلا أنها بين حين وآخر تحاول التدفق داخل موجة طفيفة عائدة إلى مرافئ السرد القصصي، مستعيدة التشابك مع هذا الفن الحميم، وفق خط يحاول الخروج من الحيز الجغرافي الضيق، إلى فضاءات العالم وفهم العالم والتعبير عن مختلف قضايا الإنسان برؤية نبيلة وطامحة وبثقافة إنسانية كبيرة. جيل له روحه وموقفه، وميزته التقبّل والتفاعل مع الجمهور العالمي، يسافر ويحاور ويطّلع ويتلاقح فكرياً وذوقياً، وقد أفادته الإمكانات الراقية والمتطورة في التحصيل المعرفي في دولة الإمارات العربية المتحدة، والتي منحتها لنا قيادتنا الرّشيدة التي لم تألو جهداً في توفير الطريق وتمهيده ورعاية سالكيه، على رأسها حركة الترجمة الواسعة لمختلف الآداب والمعارف والفنون والفلسفات، المشروع الذي يُعتبر درّة المشروعات الغنية بالمعرفة والتثاقف والتواصل الإنساني، من خلال عنايتها بثقافة الكاتب الإماراتي وتجسير الهوّة القائمة بين الثقافة العربية وحركة التأليف والنشر في الثقافات العالمية، ما يعني الاقتراب من تطور المعرفة وتحقيق التواصل الفكري بين الحضارات، في عصر يزداد فيه الحديث عن صراع الثقافات وتنافس الحضارات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فشتّان ما بين البدايات واليوم، من حيث القلق من المستقبل، والفارق في الوضع الاجتماعي والتنموي، ومن حيث الأحلام النبيلة في توفير الإمكانات العلمية والمشاريع المعرفية، وعلى حسب مقولة إدوارد سعيد، فإن البدايات دائماً مليئة بالصخب، لأن حواس المرء تكون مشتبكة مع الأشياء.

أتوقع أننا قد تجاوزنا صخب البداية، وإن صح تخيّل البداية بخط زمن تتابعي له بداية ونهاية، فإننا الآن نسير في منتصف السلسلة ونهاية البدء، حيث يكون (الجموح) بديلاً رمزياً للصخب والقلق.

إننا نعيش في زمن جموح السّرد، ولا أعني هنا الوصول إلى ذروة المضمون الفكري والرؤية الفنية والابتكار السردي، فالكثير من الخطوات والبنى الفنية والصّيغ والموضوعات الإنسانية الكونية لم نطرق أبوابها بعد ولم نصل إلى ذواتنا الإبداعية بثقة وتميّز حتى الوقت الراهن، كل ما أعنيه هنا هو وصولنا إلى ذروة المستوى التشجيعي والتقديري المتجسّد بالجوائز والتكريم والتمثيل خارج الدولة، إضافة إلى المستوى التنموي الذي ركّزت الإمارات فيه على منح الأقلام الإماراتية فرصة اقتحام السّرد بثقة تعزيزية ورعاية مادية.

ولا يخفى علينا الدور البارز الذي حققته الجوائز الثقافية في دفع عجلة النور والتعزيز الإنساني للإبداع، فقد ابتُكِرت الجوائز لتحرك المجال الساكن في المشهد، والمتقدمون لهذه الجوائز يشاركون بدورهم في دفع عجلة الحراك الثقافي وإبرازه مشرقاً ومشرّفاً على الصعيد العالمي.

من شأن الجوائز والتكريم والملتقيات والمهرجانات أن تخصّب المناخ القرائي والكتابي والإنتاج المعرفي، وهو أسلوب تنموي صحي درجت عليه الدول المتقدمة في تنمية وتطوير مختلف آدابها وفنونها.

 وبما أننا في فلك الحديث عن القصة القصيرة في الإمارات، فمن واجبنا الامتنان والإشادة لتلك الجوائز التي أظهرت على الساحة السردية أصواتاً قصصية إماراتية جديدة، وسلطت الضوء على فرادة إنتاجهم، مثل جائزة الشارقة للإبداع العربي التي ترعاها دائرة الثقافة في الشارقة، وجائزتي جمعة الفيروز وغانم غباش، المطلقتان من جهة اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، وجائزة لطيفة بنت محمد للقصة القصيرة، إضافة إلى الإطلاق السنوي من وزارة الثقافة لجوائز القصة القصيرة الخاصة باليافعين، وفي هذا الصدد لا نغفل عن مسابقة «قصتي» التي أطلقتها مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، والتي بدورها كشفت عن المستوى الإبداعي الملحوظ والنّفس القصصي في السلك التعليمي لدى الطلبة والمعلمين.

 يبدو أننا نحيا في الزمن الذهبي للسّرد والنشر الإماراتي، فثمة فرص مبتكرة في إعمال الكثير من مشاريع النشر وتشجيع وتحفيز المنتج الإبداعي، والشاهد هو أن السرد الإماراتي يتدفق باستمرار وتوتر وحماس، إلا أن هذا الاندفاع وهذا التضاعف لا ينبغي أن يكون على حساب تراجع قيمة المنتج الذي يشكل إحدى روافد نموّ وحيوية المشهد الثقافي الإبداعي في الإمارات، فثمة أعمال تثير الشك في مدى نضج بنائها القصصي ومدى تضافر الوعي بمتعلقات السرد وإدراك آليات فن القصة على حقيقته.

في المقابل وفي ظل تلك الحماسة السردية يغيب وجود الناقد المحلي، بل يكاد وجود الناقد الإماراتي المتخصص في حقل النقد منعدماً، مما يسهم في تسطّح النقد وتسارع تسجيل الأحكام، وأن يطفح على الساحة كتّاباً انطباعيين يتشبّهون بالنقاد ويحكمون على النصوص من زاوية انطباعية ضيّقة قائمة على الاعتبارات الشخصية، لا تعدو مجاملات تساق هنا وهناك وفق أهواء شخصية لا علاقة لها بمعايير النقد وضوابطه. غياب ناقدنا المحليّ المتفهّم لمناخات السرد الإماراتي وخصوصيته هو ما يفسر العجز الكبير عن مواكبة المنتج الثقافي المحلي الذي لا يزال في اطراد مستمر.

عودة إلى تطلعاتنا في القصة الإماراتية الجديدة، فإننا نرنو نحو النضج والتجريب والبناء الحرّ وتخطي عتبة العزلة والاختفاء، فثمة كتّاب كُثر اقتحموا القصة بوعيّ فني ّوجدارة ثقافية، ثم سرعان ما لبث المحصول أن أصيب بالجفاف والانحسار. ظاهرة ظهور قاص ثم اختفائه عن الساحة الإماراتية من شأنها أن تثير القلق والجدل والبحث في الأسباب، فما زلنا نطمح بمدّ رافد قصصي ناضج، تنهل منه الأجيال من بعدنا، ونراكم على ضفافه خصوصية السرد الإماراتي وملامحه الاستثنائية. ولعل المضيء من نفق ذلك الاختفاء الغامض – الذي أسهم في اضمحلال التراكم القصصي في الإمارات – هو الخروج من المحليّة المفرطة والموضوعات المكررة في الشكل والمضمون، والانفتاح على التراكم الإنساني قبل الأوان، وإنتاج محصولنا القصصي بناءً على فضولنا الواسع في الاطلاع على محاصيل الآخر، والاستفادة من تجارب كتّاب القصة في الوطن العربي، والعالم الإنساني، ولا شك أنها فرصة عظيمة لأن تخرج أقلام إماراتية واعدة بالتنافس المشرّف على الساحة الثقافية الإماراتية .

وفي الحقيقة لا يمكننا أن نلقي كل مهام الحراك القصص على المؤسسات الثقافية فقط ونتهمها بالتقصير، وإنما القاص الإماراتي هو جزء أساس من ذلك الحراك، وهو من يفعّله بإسهاماته وإنتاجاته السردية، سواء بحضوره الملتقيات والندوات والمشاركة فيها أم بإنتاجه أدباً رصيناً وغزيراً يساهم في نهضة الثقافة وإعلاء شأنها.

ونحن كأقلام جديدة على الساحة الثقافية في الإمارات في حالة بحث متواصل عن حقل صحي يحتضن مشوارنا وحبْوَنا الأول على السطور الفارغة المغرية بالتدفق والغزارة.

ولعل اللافت في الأعمال القصصية الجديدة هو الحضور الأنثوي حضوراً إبداعياً مكثّفاً، بل أقوى من حضور الكاتب الرّجل، (فلقد حملت القصة الأنثوية خطاباً أنثوياً جديداً تمثل فيه معادلة الأنثى / الذكر، ناهينا عن محاولة المرأة كسر التراتبية في البناء الفني، ففي قصصها نلمح انفتاح نهايات النصوص كمعادل لفضفضة جديدة متعلّقة إما بالحرية كهدف مبطّن، أو استكمال الشكل كمنهج فني ضد التراتب الذكوري المهيمن على النص. وهو أمر إن دلّ على شيء فإنما يدل على رغبة المرأة في المشاركة والتفاعل الإيجابي من خلال إسهاماتها الثقافية والمجتمعية، مما يعكس حالة التقدم الاجتماعي في دولة الإمارات العربية المتحدة). (2)

 وخاتمة القول، لا يفوتنا أن نذكر المناخ الفكري الذي ترعرعت فيه الأصوات الجديدة والتي مثّلت قواعدها امتداداً للنهج التعبيري الخاص بالمؤسسين في فن القصة، ألا وهو المناخ المتمثل في الاحتكاك المباشر مع عناصر عربية وغربيّة مثقّفة ساهم حضورها في تكوين رؤى أدبية جديدة، وبذلك أتت مواضيع القصة في الإمارات متنوعة في طرحها ومعالجتها للقضايا الإنسانية.

تصوير المشهد القصصي في الإمارات يستلزم رؤية شفافة وقراءة متفحصة عقلانية، فهو متنوع بعدد الفترات الزمنية التي مرّ بها، وهو أيضاً متفاوت بقدر تفاوت متعاطيه من حيث المعرفة، الموهبة، الإبداع والالتزام، فلا يمكن أن نقوّم مضمون المشهد القصصي إلا من خلال تقييم متعاطيه، وبذلك فإن إعادة النظر في ما يُطرح على الساحة الأدبية أصبح أمراً ضرورياً. (3)

________

  • أول عنوان صدر عن اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات في العام 1986 وشمل مجموعة مشتركة لكتّاب وكاتبات القصة القصيرة في الإمارات.

  • ملامح القصة الإماراتية الجديدة، ميثاء الطنيجي، وقائع ملتقى الشارقة السابع للسرد، إعداد عبد الفتاح صبري، دائرة الثقافة في الشارقة.
  • المشهد القصصي في دولة الإمارات، رؤية تحليلية، د. سعاد زايد العريمي، وقائع ملتقى الشارقة السابع للسرد، إعداد عبد الفتاح صبري، دائرة الثقافة في الشارقة.