كنّا رجلاً وامرأة، والآن امرأةٌ فقط!
قالت هذا، ثم خرجت إلى فناء بيتها هذا الصباح، وقد عرفت حالة الجو، فطالما لا توجد ظلالٌ إذن لا شمسَ، وهذا يومٌ غائم، وقالت في نفسها:
– هذا الضياءُ الخفيفُ يكفيني، وإن احتجبت الشمس، بل إنهُ يجعلُني أرى كما لم أرَ مِن قبل!
ثم أخذت مكنسةً وشرعت في كنس الفناء، مع أنها كنسته مرّتيْن يومَ أمس، فقد كانت تشعرُ بالضيق منذ الليلةِ البارِحة، وهي تظن أن الشعورَ بالضيقِ يزولُ مع الكنس.
لقد تعلمَتْ هذا من الماضي البعيد، حين كان الخلافُ يثورُ بينها وبين زوجها، فيقومُ بصفعِها أحياناً، وبعدَ صورٍ عدةٍ مَرّت في الذاكرة، قالت لنفسِها وهي تبسِمُ:
– إيه، لقد كان ذلك قبل ظهور هذا الذي يُسمّونه حقوقَ المرأة كما يقولون في الإذاعة، يا لحظ بناتِ اليوم!
ولأنها لم تكن قادرةً على الردّ على زوجها، أو حتى مناقشته، كانت تشعرُ بالضيق، وتقومُ بكنس الفناء بعد كل حادثةٍ معه، وها هي الآن تكنسُ الفناء، وقد أدّى بها هذا إلى التذكُّر، فتذكَّرت أيامَ العزاء قبل أسبوع، حين كان أقرباؤها وجيرانُها ينظرون إليها بإشفاق، وكان الكثيرُ منهم يُطيلُ الجلوسَ في العزاء لعلّ أمراً خافياً من مشاعرها ينكشفُ لهم، إلا أن شيئاً لم يظهر أمامَهم طِيلة أيام العزاء، الأمرُ الذي أرابَ الكثيرَ منهم، وازدادوا ريبةً حين رأوها تلاعبُ بعض الأطفال الذين حضروا مع ذويهم، إذ كانت تُلاعبُهم بانصرافٍ كبيرٍ عن المناسبة، إلى الدرجة التي وجّه البعضُ فيها نظراتِ لومٍ إليها، لكنها لم تُبالِ بهم، إذ لم يكن يَنقُصها أيُّ شعورٍ بالضِيق، وسألت نفسَها لأول مرةٍ وهي تكنس:
– هل حقاً إن الشعورَ بالضيق يتشابهُ في مختلِفِ الحالات؟ أم إنني أنا فقط دون بقية الناس مَن لا يُفرّقُ بين حالاتِه؟
ثم عادت عن هذا التساؤل، وقالت:
– ولِمَ يشعرُ المرءُ بالضيق أصلاً، وفي إمكانِهِ أن يكنس؟
كان تحرّكُ الغيوم في السماء يُغيّرُ درجاتِ الظِلال على الأرض، وكان نسيمٌ باردٌ يُداعبُ وجه ليلى، حتى خُيِّلَ إليها أنها لم تَعُد في بلدتِها الصحراويّة التي تتسلّطُ عليها الشمسُ في غالِبِ السنة، فتفكَّرت هُنيهَةً فيما يدورُ حولها، ثم ابتسمت، وقالت:
– يبدو أنه ليس الكنسُ وحدهُ يُعينُ على تفريج الهموم! بل هذه الغيومُ أيضاً.
وتوقفت عن الكنس وقد اكتفت، وقصدت إلى أريكةٍ قديمةٍ فاستلقت عليها، ونظرت إلى النخلةِ الوحيدةِ في الفناء، فقالت عَفْوَ الخاطِر:
– أكرِموا عمّتَكم النخلة.. يا ليتني كنتُ نخلةً فأُكرَم!
ثم تذَهَّنَت، فقالت:
لكنّ فضيلة الشيخ قال في الإذاعة إنهُ حديثٌ ضعيف!
وحوّلت نظرَها إلى الغيوم المُطبِقة على الجَوّ، ثم أغمَضت عيْنيْها، وغَفَت، وإذ كانت الغيومُ تمرُّ برفقٍ فوقَ جفنيْها المُغْمَضَيْن، رأت أثناءَ غفوتِها نصفَ وجهِ زوجِها، فشعرت برغبةٍ في صفعه، فَهَمَّتْ بذلك، لكنها لم تتمكن مما أرادت، لأنه كان بنصفِ وجه، فكانت كلما مدّت يدَها لتصفعَهُ، تَضيعُ الصفعةُ في النصف الفارغ من الوجه، وفي هذه الأثناء انفرجت السماءُ قليلاً من إحدى الجهات، فعادَ ضوءُ الشمس ساطعاً على ليلى وما حولها، فانتبهت من غفوتِها، وهي تشعرُ بنِقاطٍ صغيرةٍ جداً تحتلُّ جبهَتَها وجَبينَيْها، فتلمَّستها بيدِها، فإذا هي قطراتٌ من عَرقٍ خفيفٍ نتجَ عن حرارةِ الشمس، ثم تذكّرت ما رأته في غفوتِها، ومع أنها انتبهت؛ فقد ظلَّت مستلقيةً على أريكتِها، تحمي عينيْها من الشمس، إلى أن عادت الغيومُ لتُسدَّ الفجوةَ السمائيّة، فعادت ليلى إلى النظرِ في الغيوم مَليّاً وهي تتفكَّر، وتذكّرت شقاءَها مع زوجها، وتمنّت لو كان معَها اليومَ لِتُعامِلَهُ بطريقةٍ غيرِ التي اعتادَها منها، ثم قالت لنفسِها في هدوء:
– سأزورُهُ اليوم.
وجلسَت بعد أن طالَ اضطجاعُها، وتنفّست في هدوءٍ وهي تتأمّل، وقد تنزّلت غيمةٌ صغيرةٌ في خِلالِ ذلك إلى عُلُوٍّ قريبٍ منها، فلمّا رأتها ليلى ابتسمت، وقالت:
– ما هذا؟ ما الذي دعاكِ إلى الاقتراب أيتها الغيمةُ اللطيفة؟
وتأمّلتها قليلاً، ثم قامت ودخلت الدارَ قاصدةً حجرتها، وتخيّرت من بين أحسن ثيابها فارتدت، وتعطَّرت بعطورٍ خاصة، وهي تعلمُ أن هذا كله سيُثيرُ حفيظة حارس المقبرة، الذي يحفظُ بظهر الغيب قوانينَ زيارة النساء للقبور، لكنّ ليلى لم تأبه بذلك، فقد غلبَ على ظنِّها أن سِنَّ حارس المقبرة قد لن يتعدّى سِنَّ أحدِ أولادِها، لو أنها رُزِقت بأولاد، وحين هَمَّت بالخروج انتبهت إلى أنها لم تأخذ معها التصريحَ الذي جُلِبَ لها قبل يوميْن، وهو تصريحٌ تمنحهُ دائرةُ الشؤون الدينية للنساء الراغبات في زيارة قبور أقربائهِنّ، فعادت إلى حجرتها لتأخذه، وهي تقولُ في نفسِها:
– لِمَ تحتاجُ المرأةُ إلى تصريح لزيارةِ قبر قريبِها أو زوجِها، وقد رخَّصَ النبيُّ عليه السلام في زيارتِهنّ القبورَ، قائلاً للجميع “إنها تُذكِّركم الآخِرة”!
حين خرجَت إلى الفناء وجدت الجوَّ صحواً، فقد تفرّقت الغيوم، إلا أن الغيمةَ الصغيرةَ كانت لم تَزَلْ في مكانها، فقالت لها:
– هيه يا غيْمتي الصغيرة، أَما زِلتِ هنا؟ هلاّ حمَلْتِني إلى مقبرةِ المدينةِ فأَزورَ قبرَ زوجي؟
تنزّلت الغيمةُ حتى أحاطت بليلى، ثم حملتها، وصعدت بها، وجَرَت في السماء، الأمر الذي منحَ ليلى نوعاً من السعادةِ نادراً ما يأتي، وجعلها تقول:
– ما ألطفَ هذه الغيمة!
ونظرت في السماء فوجدتها أكثرَ زرقةً مما كانت تظن، وكانت مؤمنةً من قبلُ بأن الزرقةَ لونُ الروح، فحاولت أن تُطلِقَ حواسَّها في الفضاء، فأشبعت عينيْها باللون الأزرق، وملأت رئتَيْها بالهواءِ النقيّ المُنعِش، ثم مَدَّت يدَها مُداعبةً دواخِلَ الغيمةِ وأطرافَها، وفتحت ليلى فمَها، فلمّا أحسّت بلذّةِ الرذاذ اللطيف انتشَت، وتذكّرت أن اسمَها في العربيةِ يعني الخمر، وذكَّرَها هذا بقولِ الشاعر:
أَيا حبَّ ليلى عافِني، قد قتلتني .. وكيف تُعافيني وأنتَ تزيدُ؟
ولكنها بعد أن أنشدت البيتَ متأمّلةً قالت بامتعاضٍ خفيف:
– يقولُ فيَّ هذا الشِعرَ ثم يصفعُني!
حامت الغيمةُ فوقَ مقبرةِ المدينة، ثم تنزّلت بالقرب منها، وخرجت منها ليلى لتمضيَ إلى بوّابةِ المقبرة، وقد شعّت ألوانُ ثوبها في سُطوع الشمس، وفاحت رائحةُ عطرِها مع جَريان الريح، فشعرت بشيءٍ من الإثم يتلبّسُها، لكنها لم تُبالِ بذلك كثيراً كامرأةٍ شارفت على الثمانين من العمر، وتقدّمت بهدوءٍ بالِغٍ إلى البوابةِ الكبيرةِ التي كانت مُوارَبة، وتوقفت هُنَيْهَةً بين الداخل والخارج، ثم تجاوزت البوّابة، وقصدت حجرة الحارس، فوقفت بالقرب من نافذتِها المفتوحة، وأطلت على الداخل تنظر.
كان حارسُ المقبرة جالساً على سريرهِ يعزفُ على عُودٍ قديمٍ بانسجامٍ أصابَ المقبرةَ الصامِتةَ بغَيْرة، ولكنه انتبه إلى العينيْن اللتيْن كانتا مُصَوَّبَتيْنِ إليه بثقةٍ فاضطرب، ورمى العودَ جانباً، ونهضَ وهو يقولُ:
– ما هذا؟ ماذا تفعلينَ هنا يا امرأة؟
ابتسمت ليلى ابتسامةَ تأدُّب، وأرته تصريحَ دائرة الشؤون الدينية، لكنّ الحارسَ لم يرَ سوى ورقةٍ بيضاء، فخرجَ إليها، وسألها:
– مَن قريبُكِ؟
– زوجي!
– ما اسمُهُ؟
أشارت إلى الاسم المكتوب في ورقة التصريح، فلمّا اقتربَ الحارسُ ليتأكد من الاسم تفاجأ بالألوان والعطور التي تُحيط بليلى، والتي داخَلَتْ عينيْهِ وأنفَه، فأنكرَ عليها وهو يصيح:
– ما هذا يا امرأة؟ كيف تأتين إلى المقبرةِ بهذه الهيئة؟ ألا تُراعينَ حُرمةَ الأموات؟
فَزِعت ليلى لحظةً، لكنها تمالَكتْ نفسَها، فقالت:
– هَوِّنْ عليك، ولا تصِحْ بي هكذا، فأنا بمنزلةِ أمِّك.
– أنا..
– أنت ما زلتَ تعزفُ موسيقا مُطرِبةً على مَسْمعِ الأموات، أليسَ كذلك؟ لا تجادلني كثيراً أيها الصبيّ، وإلا شَكوْتُك إلى دائرة الشؤون الدينية!
سكتَ الحارسُ أمامَ هذا التهديد، ثم قال:
– تفضلي.
مضى الحارسُ معها بعد قراءة الاسم ليقودَها إلى القبر مُتبَرِّماً، ثم تركها، وعاد إلى حجرة الحراسة وهو يتأفّف. أما هي فقد وقفت على القبر، ونظرَت حولَها، ثم قالت:
– سبحان الله، إنّ القبورَ تتشابه!
ثم جلست عند القبر الذي بدا تحدُّبُهُ كسَنامِ جَمَلٍ مُحنّط، وتراءى لها زوجُها داخلَ القبر ينظرُ إليها في قلق، فقالت مخاطِبةً مَن في القبر:
– إنك لا تستطيعُ حِراكاً، أليسَ كذلك؟ مع أنك لم تَمُت إلا من قُرابةِ أسبوعٍ فقط!
وبعدَ أن دَعَتْ لهُ بالرحمةِ والمغفِرة، ظلّت ليلى تتأملُ ماضيَ حياتِها مع زوجِها، والشقاء، وكنسَ الفناء، ثم فَتَرَت عيْناها وهي تنظرُ إلى القبر، وبعد مُضيّ وقتٍ طَرَفت عينُها حين رأت شيئاً غيرَ سارٍّ على قبر زوجها، فمدّت يدَها لتُزيلَ ذلك الشيءَ عن القبر، فأزالتهُ وهي لا تعرفُ كُنهَه، ثم مسحت الترابَ في الموضعِ نفسِهِ لِتُسَوِّيَه، لكنّها انجذبت في الآنِ نفسِهِ إلى مَدّ كلتا يَديْها إلى القبر لِتشرَعَ في تنظيفهِ من كل شيءٍ تراهُ قد يَشوبُ صفاءَ ترابهِ الظاهر، ثم أخذت تُنظّفُ فيما دون الظاهر، حتى دخلت في العُمق، وتراءَى لها أنّ أقذرَ الأشياءِ تُوجَدُ في العُمق، وأخذت تُنظّفُ وتُنظّفُ بانفعالٍ حادٍّ حتى أزالت الكثيرَ من تُربةِ القبر، وارتفعَ الغُبارُ في الجوّ حتى تشكّلَ فوقها في صورةِ ذَكرٍ يُراوِدُ أنثىً غيرَ آبِهة.
في هذه الأثناء كان حارسُ المقبرة جالساً في حجرته، ينظرُ إلى عودِهِ في ضِيقٍ مما حصل له مع العجوز، وحين تملّلَ نهضَ لينظرَ إلى المقبرةِ من النافذة، فرأى من بعيدٍ غباراً يرتفعُ في الجوّ حتى تشكّلَ في صورةِ أنثى تُراوِدُ ذَكراً غيرَ آبِه، فَراعَهُ المنظر، ثم رأى شبحَ العجوز خلالَ الغبار، وانتبه إلى ما كانت تفعلُ بالقبر، فكادَ يُجَنّ، وهُرِعَ إليها صارخاً بها:
– ماذا تفعلين؟ كُفّي، توقّفي.. قلتُ لكِ توقفي! أأصبحتِ كالكلابِ الضالّةِ التي تنبُشُ القبورَ بحثاً عن الجُثثِ الطريّةِ لتنهشَ لحمَها؟
لكنّ ليلى لم تكن تسمعه، فقد كانت منهمِكةً فيما تفعل، وتردّد الحارسُ في الاقتراب منها والإمساكِ بها، فهي – مهما كان – امرأة، ولن يُعذرَ إن أمسكَ بها، وخشيَ على وظيفته، فعادَ إلى الحُجرة، وتناولَ الهاتف، واتصلَ بكلٍّ من مكتب الشؤون الدينية ومركز الشرطة القريب، علّهم أن يُرسلوا مَن يتمكنُ من منع هذه المرأة ممّا تفعل، ثم خرجَ ليُراقبَ العجوز التي كاد شخصُها أن يَختفيَ في ثورةِ الغبار، وحين وصلَ فريقُ الشرطة ومَن معهم إلى المقبرة، توجّهوا مباشرةً إلى حيث كانت تجلسُ ليلى، وتأهّبوا للقبضِ عليها، فدخلوا في ثورةِ الغبار حتى وقفوا على القبر، وعِندَهُ وجدوا ثيابَ امرأةٍ مُلقاةً على الأرض، وقد عَلاها التراب، لكنّهم لم يجدوا المرأة، ونظروا إلى القبرِ فوجدوهُ خالياً، كما لو أنهُ قد حُفِرَ للتوِّ لميّتٍ جديد، ثم انتبهوا إلى غيمةٍ صغيرةٍ ترتفعُ فوقهم، وتذهبُ بعيداً، وهي تحملُ امرأةً عاريةً، ورجلاً ميّتاً.