عبد الحميد أحمد

حالة غروب – عبد الحميد أحمد

 

يمتد جسد البحر مسجىً تحاصره جدران قوقعة عجوز، بعد أن كان يحتضن القواقع والمحار و… الأجساد. ها هو يذرف بعيداً عن شاطئه الرطوبة والعرق العالقين بجسمه ورائحة “الشبا” التي راحت تداعب أنف مبارك فتأخذه رعدة و… غيبوبة حلم.

(2)

رآه مليئاً بالقوارب والصيادين والشباك والصبية والأعراش وبالعيون التي تسكنها أحلام في مستقبل أبيض. ها هي “السنابيك” المقبلة تجاه الشاطئ والأعلام المرفرفة فوق البيوت وأهازيج النساء وصراخ الصغار العابث والعيون الوالهة وإيقاعات الأمواج وهي تراقص دقات القلوب تعود خيوطها إلى عقل مبارك لتنسج منها ذكرى وصورة للوطن الراحل في مرايا الزمن. مبارك الجالس فوق “الفنة”  دامي اليدين مشقق الرجلين، تحرق عينيه ملوحة البحر والرطوبة وهما تعانقان النخيل فوق البر وترحلان إلى الأرض المزروعة بعفراء والأهل والأحبة والأحلام، وكلما ازداد الشاطئ قرباً كلما ضجت عيناه حنيناً ولوعة.

(3)

حين زالت سحابة الغيبوبة وجد نفسه وحيداً و .. عاجزاً. وحيداً على الشاطئ المقفر إلا من طيور ترف بأجنحتها هنا وهناك، رجلاه ترتعشان فوق الرمال وآلام أسنانه المهترئة تشعل حريقاً في فمه. الشاطئ لم يكن مليئاً كما رآه منذ لحظات. كان خالياً موحشاً بارداً في علاقته معه. تصوره جثة إنسان نسي  أهله أن يضعوه في اللحد، فتعفن وانتشرت رائحته إلى الأمداء، لكن عينيه الغائرتين راحتا تلاحقان خطوطاً سوداء من مخلفات السفن، ناقلات النفط، و”القار” وبقع الزيت القاتمة التي تشوه وجه الذكريات في قلبه. على مرمى البصر صدمه “النادي البحري”منتصباً كاشفاً عن سحنة قبيحة وعلى مقربة منه رأى أجساداً حمراء تستجدي الشمس لوناً زائفاً!

(4)

لم تكن هناك عفراء.. لم تكن هناك أعراش .. لم يكن على الشاطئ إلا مبارك والوحدة والوحشة و.. النسيان المدمر. ضجت عيناه دمعاً وصرخت أعماقه ألماً :

– “في القاع عظام أبي، وهناك ذرفت أمي دمعاً، وهنا مات أخي الصغير غرقاً، وهناك داهم الطلق أختي وهي تنتظر أوبة زوجها فقذفت بوليدها إلى داخل البحر لتشرب مسامه الملح غضاً.. هنا فقر امتد حبله من الماضي إلى الحاضر.. هنا “قار” وبقع سوداء تلطخ جبين الأرض.. هنا جوع وموت”.

(5)

والشمس تتساقط إلى الأفق أخذته نوبة بكاء. ريح الشمال زمجرت في الأفق معلنة بدء الهجوم، تذكّر “عفراء” كان في شبابه يتبعها  عند الغروب إلى مورد الماء، يراها أمامه بقوامها المعتدل تحمل فوق رأسها “الجحلة” ومن تحتها تنهمر جدائل  شعر أسود. على البئر كان يساعدها في جذب الماء وملء “الجحلة” بينما يرتوي هو من غدير عينيها الصافي. وعندما يتمشيان إلى البيوت جنباً إلى جنب تنساب نسمات مليئة بالرؤى والأحلام فيما ترتعش أنفاسهما مع نسائم لافحة من هبوب القيظ و … الحب.

مضت الأحلام إلى غير رجعة ومضت “عفراء” في أردية الزمن الأهوج.

(6)

كان الوطن “عفراء” يذوب فيه مبارك حباً ويستميت لأجل الإبقاء عليه…

أمسك التراب يعصره، صار الوطن كميات من قهر يومي حين يبحث عن دراهم لأجل العيش وللإبقاء على نقطة كرامة.  صار وحيداً.. وحيداً، الوجوه لم يعد يعرفها، ولم تعد الوجوه الجديدة تعرفه.. صار شيئاً لا وجود له إلا في خفقات الذكرى.

(7)

حين يراه البعض ساهماً مختنقاً في صمته يلومه، يرد :

راعي الهوى مستانس إلا الصدر محروق

كله من البهانس الدوخة والنشوق.

يتضاحكون : “مبارك فقد عقله!”.

ويغرق هو في صمته ويكثر من “الدوخة” و”النشوق”، لكنه يعلم أن صدره محروق بالعذاب، وبهوى “عفراء”.

(8)

حين غابت الشمس ولف الغروب المدى كانت عيناه تحومان حول الأفق المشتعل، مسته رجفة بكاء وعندما لامست عينيه نسمة آتية من خلف البحر، صار يردد في ذهول :

– كأن شيئاً لم يكن .. كما بدأت تنتهي.

دفع بأنظاره إلى البحر. أدرك أن هذا الجسد الذي تعيث فيه السكينة والموت سوف يصحو يوماً، فاستبد به الاشتياق إلى معانقة “عفراء” الوطن الراكضة في الزمن الآتي.

استلقى على الرمل فيما أخذت ريح الشمال تعوي والغروب يسدل أستاره ببطء شديد.

في الصباح، كانت الشمس رائقة. وبينما كان هندي يتمشى على الشاطئ اصطدمت رجله بيد مبارك.. جرى هلعاً يبلغ عن وجود جثة.

كان الرمل الناعم قد دفن جسده! لكن يده امتدت من تحت التراب وخرجت إلى الفضاء وكأنها تطاول “عفراء” المطلق.

حالة غروب

قصص البيدار