علي العبدان

المَـأْدُبَة – علي العبدان

1

ذهبتُ إلى المؤسسةِ المنافِسةِ وأنا أطيرُ حَماساً، فقد أرسلوا إليَّ ليُخبروني بأنهم قد سمعوا الكثيرَ عني من خلال محاضراتي، والندوات التي شاركتُ فيها، والتصريحات الإعلامية التي أدليْتُ بها، وبأنهم مؤمنون بأن أفكاري التي “لا تنتهي” – على حَدّ تعبيرهم – هي ما ينقصُ مؤسستَهم ذائعة الصِيت، كما أخبروني بأنهم سيُقدّرون موهبتي أكثرَ من أيّة مؤسسةٍ أخرى، وكانوا يقصدون بذلك – كما أظن – المؤسسة التي كنتُ أُقدّمُ لها خِدماتي، لكنهم كانوا يقصدون في الواقع – كما أظن أيضاً – تجنيبيَ التفكيرَ في محاولة تقديم ملفّي وسيرتي العملية إلى أيّةِ مؤسسةٍ أخرى سوى مؤسّستِهم، هذا ما ظننت، والحق أنني لم أتمكن من مقاومة العرض، ذلك لأن المؤسسة التي كنتُ أعملُ بها، لم يكن بها الكثيرُ من الموظفين الذين يتمتعون بذكاءٍ استثنائيّ، الأمرُ الذي لم أكن أحتَمِلُه، وأكثرُ من هذا أنني لم أجد فيهم أحداً يفهمُ أفكاري، وكنتُ أُعاني من كثرة تذكيرهم بالأهداف العظيمة التي تنتظرُ المؤسسة؛ لو أنهم شَرَعوا في تحقيق أفكاري، وسئِمتُ تكرارَ الشرح والتوضيح والتوجيه، وكان عليّ أن أبذلَ جهوداً مُضاعفةً من أجل الترويج للمؤسسة، ومشاريعها الأخيرة التي بُنيت أصلاً على بعض أفكاري الإبداعية، ومع الأسف كنتُ بذلك أُثيرُ الإعجابَ خارجَ المؤسسة، أما في المؤسسةِ ذاتِها فقد كنتُ أحتاجُ إلى التفاهم لتخفيف العِبءِ عني، وهو المطلبُ الذي لم يحصلْ لي أبداً، فقد ظَلَلْتُ أُعاني.

أمّا هُم، فـ.. أوه! إنهم مُتفاهمون مع بعضهم البعض بقدرٍ كبير، خاصةً أنهم جميعاً – ما عدا مديرَ المؤسسة وأمينةَ سرّهِ – يتشابهون في شكل الوجه، فكلٌ منهم يملكُ وجهاً مُربّعاً بعينٍ واحدةٍ فقط، وكان هذا مُستغرَباً بالنسبةِ لي، فقوانينُ التطور التي عرفتها كانت تقضي بأن يكون لكلٍّ منهم عيْنان، أما عينٌ واحدةٌ؛ فهذا تراجعٌ وتخلفٌ في نظري، ثم ما الذي جمعَهُم في هذه المؤسسةِ بالذات؟ وحين ذكرتُ هذه الملاحظة لمدير المؤسسة في أول يومٍ عملتُ فيه هزّ رأسَه دون مبالاة، وعلّقَ قائلاً بأنّ البشرَ ليسوا كأسنان المشط، ولكنْ كأصابع اليَد، فهُم ليسوا سواءً أبداً، ثم قال إن الدنيا لا تأتيك كما تشتهي دائماً، وذكّرني ببعض الآداب والحِكَمِ العربية في هذا السياق، كقول الشاعر: تأتي الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ، وكقول المثل الشعبيّ: “الزين ما يكمل”، وغير ذلك مما هو جديرٌ بجعل الأمرِ عاديّاً بالنسبةِ لي، وبالرغم من أن وجود العديد من الموظفين والعاملين برؤوسٍ مُكعّبةٍ تماماً كالصناديق الصغيرة؛ وأن في كل رأسٍ عيناً واحدةً؛ أمرٌ ليس عاديّاً ولا طبيعياً أبداً؛ فقد اعتبرتُ الأمرَ عاديّاً لسببٍ ما، ولم أُعِرْهُ اهتماماً بعد ذلك، خاصةً أنني لم أرَ من أولئك الموظفين والعاملين إلا كلَّ خيرٍ ومعاملةٍ حسنة، بل كنتُ أُشفِقُ عليهم حين كان أحدُهُم يُحيّيني بتحيّةِ الصباح وأنا أرى وجهَهُ المُربَّعَ المَليءَ بالطِيبة، وعيْناً واحدةً تريدُ أن تقولَ الكثيرَ لكنها لا تستطيع، وكنتُ أحياناً أتخيّلُ هذه العينَ الواحدةَ تدمعُ لطارئٍ ما، فيسيلُ الدمعُ نازلاً، لا على خدّ، بل على الأنف، ومع أن هذا الخَيالَ كان يُثيرُ ضحكي أحياناً، فقد كان يُثيرُ إشفاقي عليهم في الوقتِ نفسِه، وكان الشيءُ الوحيدُ الذي أزعجني هو قِلّة استيعابهم أفكاري وكيفية تنفيذِها، الأمر الذي كان يُضيّعُ الكثيرَ من الوقت، فيُضيّعُ من ثَمّ إبداعاتي وجهودي، كما كان يدفعُني إلى أن أحمِلَ عنهم بعضَ أعمالِهم التي تتطلبُ شيئاً من الدقةِ والانتباه في التصميمِ والتنفيذ، ممّا لا يتمتعون بالاتصافِ به، وكان ذلك كلهُ أمراً مُرهِقاً بالنسبةِ إلى إنسانٍ مثلي، كثير التفكير، وربما.. عبقريّ، واعتقدتُ أن ذلك كلهُ كان بسبب العين الواحدة، فالإنسانُ الذي يرى من عينٍ واحدةٍ فقط لا يمكنُ الاعتمادُ عليه، بل إن بعضَ العُميانِ في رأيي أفضلُ حالاً من هؤلاء ذوي النظر الواحد، ومع ذلك كلهِ لا أدري لِمَ كنتُ أراهم يَحْيَوْنَ في انسجام، وربما في رِضاً وامتنان، أو في سعادةٍ لا يُمكنني الشعورُ بها، وهذا الأمرُ لم يكن معقولاً أبداً بالنسبةِ لي.

عليّ أن أعترفَ بعد ذلك بأن مديرَ المؤسسة كان كريماً معي، وقد أعطاني وظيفةً براتبٍ جيّد، ومنحني المجالَ لتطبيق أفكاري ضمن مشاريع مؤسستِه، لكنه لم يكن أفضلَ حالاً من موظفيه، بالرغم من أنه يحمِلُ عينيْن وشهادةَ (ماجستير)، فقد كان مُعجَباً بي في الإجمال، لا في التفصيل، فلم يكن يرى فيَّ أكثرَ من مظهري اللائق، الدالّ على إنسانٍ يتمتعُ بشيءٍ من الذكاء الذي لا يُمكنُ تفسيرُه، ومن الجيّد أن يكونَ مثلُهُ موجوداً في المؤسسة، إذ كان يفخَرُ أمامَ الناس بأن موظفاً مثلي يعملُ معه، وحسب، وكذلك كانت أمينةُ سِرِّ مكتبه ذاتُ العيْنيْن الرماديّتيْن، التي لم تكن تهتمّ سوى بإنجاز الضروريّ من العمل، ثم تتفرّغُ للنظرِ في هاتفها لمتابعة وسائل التواصل الاجتماعي، وتُرسِلُ لي بعضَ نظراتِ الإعجاب من حينٍ إلى آخَر.

مع مضيّ الوقت لم يكن بإمكاني الاحتمالُ أكثرَ مما كان، فقد كانت موهبتي تستعدُ للرحيل، خاصةً مع التقدّم في السنّ، وازدياد مسؤولياتي الاجتماعية، بالإضافة إلى كثيرٍ من المَشاغِلِ اليوميةِ التافهة، وأخذتُ أتألَّمُ كلّما مضى الوقت لعدم قدرتي على تحقيقِ أفكاري العظيمة، ولهذا، فحين جاءتني رسالةُ المؤسسةِ المُنافِسة، لم أتمكن من مقاومةِ العرض الذي أوضحَ الكثيرَ من التقدير المُفصَّلِ بموهبتي وأفكاري، كما تضمّنَ تقديراً ماديّاً لا بأسَ بهِ كذلك، تمثلَ في عرضِ راتبٍ جيد، بالإضافةِ إلى بعض المكافآتِ الجانبية، فذهبتُ إليهم وأنا أطيرُ حَماساً.

2

كانت المؤسسةُ المُنافِسةُ جميلةً جداً في مظهرِها العام، وقد جاء مديرُها بنفسِهِ ليستقبلَني في مدخل المؤسسة، فتحدّثَ معي، وأبدى تفهُّماً كبيراً لرؤايَ العَمَليّة، وشخصيّتي الثقافية، ثم أخذني في تَجوالٍ أراني بهِ إداراتِ المؤسسةِ وأقسامَها، وخلال الجولة ارتحتُ كثيراً لمنظر الموظفين والعاملين الذين بَدَوْا أذكياءَ ومُتفهّمين، وحمِدتُ اللهَ على أن كلاً منهم كان ذا عيْنيْن، وبعد أن وقّعتُ على عقدِ العمل، عرّفني المديرُ إلى مجموعةٍ خاصةٍ من الموظفين ممن سيتعاملون معي مباشرةً في إدارة الإبداع في المؤسسة، وقد وصفهم بأنهم “نخبةٌ من خِيرةِ مُوظّفي المؤسسة”، وسَعِدتُ بذلك بادئَ الأمر، لكنني لا أدري لِمَ شعرتُ بأن هذه المجموعةَ الخاصة من الموظفين كان بإمكانها أن ترى مَوهبتي وأفكاري ظاهرةً لهم منذ هذا اللقاء الأول، وعلى أيّةِ حال تقدّمتُ لمصافحتهم، وهُم (أ، ب، جـ، د، هـ، و، ز، وأخيراً ح)، وبالرغم من أن المدير ذكرَ لي أسماءَهم وهو يُعرّفني بهم، فإني لم أتمكن من حفظ أسمائهم، لا أدري لماذا؟ فسمّيتُهُم بهذه الأحرُفِ الأبجديّةِ التي تعلّمتُها في وقتٍ ما من طفولتي، وأطلقتُ على مجموعتهم فيما بعد (أبجد هوّز)، وقد تبادلوا معي أرقامَ هواتِفهم، لكنني لم أعرف كيفَ أحفظها في هاتفي، إلا بتسجيلها بتلك الحروفِ الأبجدية، فأنا لم أهتمَّ كثيراً بأسمائهم، ثم إنني باشرتُ العملَ في المؤسسة، سعيداً بمكتبي الجديد الفخم، الذي يقعُ في زاويةٍ جميلةٍ من قاعةٍ كبيرة، كانت تضمُّ مكاتبَ مجموعة (أبجد هوّز) كذلك، إلا أن نافذةَ مكتبي كانت تتميزُ بإطلالةٍ على منظرٍ جميلٍ في الخارج، يمتدُّ حالِماً في الأُفق، تُزيِّنُهُ أزهارٌ قريبةٌ من النافذة، تتمايَلُ حين يتحرَّشُ بها الهواء، الأمر الذي رَغّبَني في العمل بجد، وإن كان قد ذكَّرني بشيءٍ من كآبةٍ رومانسيّة، لكنني لم ألتفِت لذلك، وحاولتُ أن أُفرِّغَ ذهني لإبداع أساليبَ جديدةٍ لتطوير العمل في هذه المؤسسة، مبنيّةٍ على أفكاري السابقة التي تعطلت في المؤسسة التي عملتُ بها سابقاً.

مع مرور الوقت تنبّهتُ إلى أن مجموعة (أبجد هوّز) كانت تنظرُ إليَّ على نحوٍ مُريب، لكنني أخذتُ أقولُ في نفسي: لعل الأمرَ لا يتعدّى مُجرّدَ المُتابَعة، مُتابَعة عمل موظفٍ جديد، وملاحظة ما قد يحتاجُ إليه، لكنّ طبيعةَ نظراتهم لم تكن تؤيّدُ مثلَ هذا الاقتراح المُتفائِل، هكذا ظننتُ، ثم تأكدتُ من أنهم كانوا يُراقِبونني، بل تبيّنَ لي أنهم كانوا على مستوياتٍ في مُراقبتي، فكان البعضُ منهم يلتفتُ إليّ بعينٍ يشغلُها التفكيرُ فيما أفعل، وكان البعضُ الآخَرُ منهم يختلسُ النظرَ إليَّ اختلاساَ بارداً باحترافٍ ظاهرٍ أثناءَ انشغالي بعملي، مُتفحّصينَ وجهي، وخُيِّلَ إليَّ أن بعضَهم كان بإمكانه قراءةُ أفكاري بكل وضوح، كما لو أنها كانت مَعروضةً في صفحةِ حاسوبٍ كبيرة الحروف، ولا تَسَلني كيف أدركتُ هذه التفاصيلَ كلها ونقلتُها إليك، فإدراكُ التفاصيل وتصنيفُها على قائمة مهاراتي المتعدّدة، ولعلّي تأسفتُ يوماً على امتلاكي مثلَ هذه المهارة، لأنها تجعلني إنساناً غيرَ عاديّ، أي غيرَ مرتاح، ولكنْ – على أيّةِ حال – إنّ مهارةً مثلَ هذه ليست سوى موهبة، فقد اكتشفتُ لاحقاً أن القدرةَ على ملاحظةِ التفاصيل قد أنقذتني، وأنجَتني من شرورٍ عظيمة، لذا قلتُ إنها موهبة، فالنجاةُ – على نحوٍ دقيق – هِبةٌ من الله، أَلستَ ترى أن الناسَ يلجأونَ إلى السماءِ وقتَ اقترابِ الهَلاك؟ لكنّ القدرةَ على ملاحظةِ التفاصيل هي إحدى مهارات هذه المجموعةِ أيضاً كما تبيَّنَ لي لاحِقاً، وحينَها فقط أدركتُ أن العالَمَ ليس فراغاً، وأنّ السماءَ للجميع، ولكنْ على نحوٍ مؤسِف.

في صباحِ أحدِ الأيّام كنتُ وحيداً في المكتب، ومنهمِكاً في عملي الذي كان دقيقاً، ويستدعي تفكيراً عميقاً وهادئاً، وفي أثناء عملي الدقيقِ هذا رَنّ هاتفي فجأةً فأزعجني، وقطع حبلَ الأفكار الضروريّ، فاطّلعتُ على شاشة الهاتف لأرى مَن المُتصِل، فإذا به أحدُ أفراد (أبجد هوّز).

لم أرغب في الردّ عليه، فقد كنتُ أرغبُ في مواصلةِ عملي الذي كان في مرحلةٍ دقيقة، ولذا تركتُ الهاتفَ يَرنّ حتى صَمت، ثم عاودتُ العمل، إلا أنهُ رنّ مرةً أخرى، ونظرتُ في شاشةِ الهاتِفِ لأرى مَن المُتصِل، فإذا به فردٌ آخَرُ من أفراد (أبجد هوّز) أيضاً، فبلغَ بيَ الضيقُ مبلَغَه، ماذا يريد منّي هؤلاء؟ وانتبهتُ إلى أهميّةِ أفكاري التي كنتُ بصددِ تدوينِها، ولم أشأ أن يُقاطعني واحدٌ منهم مرةً أخرى، فحوّلتُ نظامَ الهاتفِ إلى وضع الصامت.

عُدتُ إلى أفكاري، وحمِدتُ اللهَ لأنني لم أنسَ الفكرةَ الأساسية التي كنتُ سأنسجُ بقية أفكاري بخيوطِها، وحالَما شرعتُ في محاولةِ تدوينها بدقّةٍ على الحاسوب، انتفَضَ الهاتفُ فجأةً لِيهتزَّ اهتزازاتٍ متقطّعةً على سطح طاولة المكتب، فقد كان الوضعُ الصامتُ الذي اخترتهُ للهاتفِ لا يمنعُ اهتزازَهُ حالَ وُرودِ مكالمة، وأزعجني الأمرُ كثيراً، فنظرتُ في شاشةِ الهاتِفِ لأرى مَن المُتصِل، فإذا به أحدُ أفراد (أبجد هوّز) أيضاً، فأُصِبتُ بالقرَف، وتجاهلتُ الأمر.

لم أكن أريدُ شيئاً يقطعُ تفكيري وانهماكي، فعُدتُ محاولاً اصطيادَ الفكرة التي كادت أن تختفيَ عن أفق خيالي بهذه الانتهاكات، ولكنني أمسَيْتُ مضطرِباً، فقد اختلط تفكيري في عملي بالشيء الذي يريدهُ منّي هؤلاء المُتّصلِون من مجموعةِ (أبجد هوّز)، وقد عدتُ إلى محاولةِ تدوينِ فكرتي، لكنني لم أتمكن من ذلك أبداً، فقد فُتِحَ بابُ المكتب فجأةً، ودخل اثنان من (أبجد هوّز)، لا أدري هل هما (أ) و(ب)، أم (جـ) و(د)، أو غير ذلك، وحقاً لم أكن مرتاحاً أبداً لأيّ فردٍ من (أبجد هوّز).

أخبرني أحدُهُما أو كِلاهُما بأنني مَدعُوٌّ إلى مأدُبة، وبعد الاستفسار علمتُ بأنها دعوةُ غداء ستُقامُ للموظفين بعدَ قليل في قاعةٍ خاصةٍ في المؤسسة.

أَكلُّ هذا من أجل مأدُبة؟

شككتُ في أمرِ هذه الدعوة، خاصةً أنني لم أتلقَ أيَّ بريدٍ إلكترونيٍّ أو حتى رسالة نصيّة بشأنِ هذه المأدُبة، لكنْ غلبَ على ظنّي أن مديرَ المؤسسة كان هو الداعي، لذا استسلمتُ وتركتُ عملي، وأومأتُ برأسي موافقاً، ومضيتُ معهما إلى المأدبة، وكانت المأدبةُ مُقامةً – حسبَ قولِهما – في إحدى قاعات الاجتماعات بمبنى المؤسسة، وهي قاعة لم أزرها من قبل، وكانت تقعُ في آخِرِ دِهليزٍ طويل في الجانب الآخَر من مبنى المؤسسة، وحين وصلنا إلى باب القاعة، أَمَراني بحزمٍ بأن أتفضّلَ بالدخول قبلهما، وأنكرتُ الأمرَ، لكنني لم أجد بُدّاً من الامتثال، وحين فتحتُ بابَ القاعة لأدخلَ وجدتُ نصفَ أفرادِ (أبجد هوّز) جلوساً حولَ مائدةٍ في الداخل، لا أدري هل هم (أبجد) أم (هوّز)، أم شيئاً بين ذلك، كما تبيّن لي أنها قاعةٌ تختلفُ عن بقية قاعات المؤسسة، إذ لم يكن لها نوافذُ تُطِلّ على الخارج، ثم إنها ضيّقةٌ جداً، وفي هذه الأثناء كان النصفُ الآخَرُ من المجموعةِ قد وصلوا إلى مدخل القاعة، ووقفوا خلفي في انتظار دخولي، وكنتُ واقفاً على حَدّ الباب، لا في الداخل، ولا في الخارج، وكنتُ في حالةِ اضطراب، وخشيتُ أن أدخل.

– حيّاكَ وبيّاك!

– ..

– تفضّل، ما بك؟

– أين البقيّة ؟

– أيّةُ بقيّة ؟

– بقيّة الموظفين! ثم أين مديرُ المؤسسة؟

– آه، لقد ذهبَ الجميعُ مع مدير المؤسسة ليشهدوا حفلَ افتتاح فرع المؤسسة الجديد في أقصى المدينة.

– ولِمَ لم يُخبرْني أحدٌ بذلك؟

– لأنك لا تردُّ على الهاتف!

وقبلَ أنْ أُعلِّقَ على هذا الكلام، دفَعَني أحدُهُم إلى الداخل بمَلاسةٍ تُشبهُ جِلدَ الأفعى، ودخلَ مَن دخلَ بعدي، ثم أُغلِقَ الباب، وأشاروا لي بالجلوس، فلم أجد بُدّاً.

جلستُ إلى المائدة وأنا قلِقٌ حينَ لم يكن أحدٌ غيري قلِقاً كما يبدو، وقد جلسَ نصفُ (أبجد هوّز) على يميني، وجلسَ نصفُهم الآخَرُ على يساري، وكان الصمتُ حاسِماً في رَسْم المشهد، إذ من خلالِ سَطوةِ الصمت في هذه القاعة سُمِعت نبضاتُ قلبي، وابتلاعاتُ ريقي، وانقباضاتُ نَفَسي، في عَمَلٍ (أوركستراليٍّ) بغيضٍ بالنسبةِ لي، ثم تحدّثَ أحدُهُم قائلاً:

– كيف حالُك؟

كان سؤالاً سخيفاً، لكنّه لم يكن غبيّاً، وحاولتُ أن أكونَ شُجاعاً، فابتسمت، ومع أن بعضَهم أخذ ابتسامتي على مَحمَلِ الجَدّ، فإنّ بعضَهم الآخَر لم تَنطَلِ عليهِ مثلُ هذهِ الشجاعةِ المُصطَنَعة، فعلِمتُ حينئذٍ أن (أبجد هوّز) مُستوَياتٌ من الخِبرة في.. في.. لا أدري في ماذا؟ لكنني أظنُّ جازماً أنهم جميعاً خُبثاء، وشعرتُ بأنني كالمُهرِّج بينهم، فتوقفتُ عن الابتسام.

مَرّت دقيقةٌ دون أن أُجيب، ودون أن يبدوَ عليهم أنهم ينتظرون منّي جواباً أصلاً، وظللتُ صامِتاً، وحدّقتُ في المائدةِ أمامي. لم يكن عليها سوى بضعة أكوابٍ بلاستيكيةٍ تحوي ماءً، ثم حدثت أمورٌ غريبة.

التفتَ إليّ واحدٌ من (أبجد هوّز) ممّن كانوا على يميني، وسألني سؤالاً عن عملي في المؤسسة، وحين شرَعتُ في الإجابة، لاحظتُ أن السائلَ لم يكن يهتمُّ بما أقول، ثم شعرتُ بأن بعضَهم ممن كانوا على يساري، كانوا ينظرون إليَّ بشكلٍ فاحِصٍ وأنا أُحاوِلُ الحديث، فأمسكتُ عن الكلام، إلا أن الذي على يساري مباشرةً تلطفَ فسألَ السؤالَ نفسَه، ولكنْ بصيغةٍ أخرى:

– كيف هي أمورُك في المؤسسة؟ يُقالُ إنك مُبدِعٌ كبير! فما عساكَ فاعل؟

لم أعرف كيفَ أردّ، وكانت تعبيراتُ وجوهِهم لا تُنبئُ بخيرٍ بعدَ طرح السؤال، فقد كانوا جميعاً ينظرون إليَّ شَزَراً، ثم انتبهتُ فجأةً إلى أن الذي يليني مباشرةً من جهة اليمين كان قد قرَّبَ وجهَهُ كثيراً من وجهي، وأخذ يُحدِّقُ فيَّ، وحين التفتُ إليه، انتبهتُ إلى أن الذي يليه كان ينظرُ إليّ بخُبثٍ ظاهر، فأخذتُ أنظرُ إليه حذِراً، وتركتُ النظرَ إلى الأول وأنا قلِق، ثم سمعتُ هَمهمةٌ صدرت ممن كان على يساري، لا أدري أهو (أ) أم (ح)، فالتفتُ لأرى، فلم أعرف مصدرَ الهمهمة، ثم رأيتُ اثنيْن ممن كانوا على يساري يتهامسان وهما ينظران إليَّ، لا أدري أهما (ب) و(و)، أم (ز) و(ط)، وبدا الوضعُ مُريعاً، وبدا لي أيضاً كأنّ الجميعَ هنا يتربّصونَ بيَ الدوائر، ولم أكن أدري ما الذي سيحدثُ تالياً، وحَضَرَ في ذهني مُجمَلُ الذي مضى، وأدركتُ بتفكيري المُضطرِب أموراً كثيرةً تتعلقُ بالحياة، وإن لم أستطِع التعبيرَ عنها في ذهني، لكنني شعرتُ بأنني كنتُ إنساناً لم يكن يرى إلا من منظورٍ واحدٍ لمدةٍ طويلة، ولا أدري لِمَ تذكرتُ في هذه اللحظةِ بالذات وجوهَ مُوظّفي المؤسسةِ السابقة، والعينَ البريئةَ في وجهِ كلٍّ منهم، وتمنّيتُ لو كنتُ معهم، وتخيّلتُهم يبتسمون لي بأسف، وتنحدرُ دمعةٌ يتيمةٌ من عينِ كلٍّ منهم، فتجري فوقَ أنفِه، وتمنّيتُ أيضاً في هذهِ الساعة لو لم أحضُر المأدُبة، بل لو لم أقبل العملَ في هذه المؤسسة، وتمنّيْتُ أيضاً لو لم أكن كما أنا.