لدي صديق يتقاسمه: قلب عصفور صغير يظل فرحاً بريشه الملون، وصوت الحياة فيه. وجثة كبيرة، يمكن أن تعده بين الرجال قُهمة، وقلما يراه أحد، ولا يلتفت له.
غير أن قلب العصفور هذا، هزم الجثة الكبيرة، وقدر أن يسيّرها نحو الأشياء الجميلة في الحياة، ورضي أن يُغلب، ولا يكون غالباً، وأن يُظلم، ولا يكون ظالماً، رضي بفعل الخير وفقط.
ولو سمع لنصائح أهله الذين أجبروه على العمل غضاً، لكان اليوم ملاكماً متقاعداً أو متعهداً لحفلات المصارعة الحرة، وبائع لأشرطتها التسجيلية أو يمكن أن يخدمه الزمن، وقد لا يمانع، ويصبح “بادي جارد” لدى شخصية ذات شأن، وإن خان به الزمن، فلن يعدم الوسيلة، فربما تجده يقف أمام ديسكو أو ملهى ليلي يسد الباب عن “الزعران” ما دون الثامنة عشرة.
ولو بقي في أمريكا أو أوروبا التي يعشقها لحلق شعره المتبقي على الصفر أو ربى ظفيرة ذيل الحصان، ووضع حلقاً في اذنه، ولبس نظارة سوداء في الليل دون داع، وظل يخطط الشوارع ليوهم الناس أنه شخصية غير عادية، وأن مواهبه لا تعد ولا تحصى. كان يمكن أن ينتهي به الأمر، بأن يتزوج أرملة رمادية، جمالها في غناها، وينضوي في بيت الستر، متخلياً عن مغامراته الفاشلة.
كان يمكن أن يكون نوخذا لـ “لنجات” تسافر إلى أفريقيا والهند، تهتدي بالنجم في الزمن الصعب، أما لو عاش في زمن العرب القدماء، فهو إما مثير الفتن في أزقة البصرة، مجالساً المعتزلة، أو ملازماً سوق الورّاقين في بغداد.
كان يمكن أن يكون من الطلقاء من كفار قريش الذين لم يصدقوا الرسول حتى فتح مكة، وسيرتد عن الإسلام بعد وفاته مباشرة، مانعاً دفع الزكاة، وتابعاً لسجاح التميمة في مغمرتها النصيّة.
أما لو صادف وكان مع جانب جيوش المسلمين في حروب الردة، فسيقتل في أول مبارزة دون جدال، أما لو كان في زمن ملوك الطوائف في الأندلس، فسيستقل بإمارة صغيرة تزرع العنب، ولها صلات مع الأفرنجة، أما لو كان أول الداخلين مع جيوش الفتح إلى فارس، فسيقسم جهد ايمانه ألا يخرج منها إلا وتحت جناحيه، واحدة من أصفهان، وواحدة من سمرقند، سيعشق الحلائل، وسيخلد إلى جنته التي رأها بالعين، وسمعها بالأذن، وما كانت تخطر على باله أو بال أحد.
كان يمكن أن يكون مسؤولاً عن ديوان الجند في عهد عمر، أما لو مد به العمر، وأدرك خلافة علي بن أبي طالب، ورغم حبه لأبي الحسن والحسين وفاطمة الزهراء، فإنه لن يأمنه على أربع غنمات سارحات والرب راعيها، فحكمة الإمام، أن تحب أحداً أو يحبك أحد، لا يعني بالضرورة أنه يمكن أن يعمل معك.
كان يمكن أن يكون مغنياً أوبرالياً في وقت تشح فيها المواهب الغنائية، أما لو دخل السينما المصرية، فلن يكون إلا في عصابة محمود المليجي، وإذا ما إنشق فسيلجأ حتماً إلى توفيق الدقن في مغامراته غير المحسوبة.
أما لو كان في اليمن في عهد الإمامة، فسيكون مسؤولاً عن المدفعين الرابضين أمام القلعة، واللذين بالكاد تنطلق قذائفهما في شهر رمضان المبارك.
أما وأن الجثة انهزمت، وبقي قلب العصفور هو المسيّر، فيمكن اليوم أن يكحّ شاعر معدم أمام بيته اللندني مرتين، حتى تجده يفرش كل غرفه مضافة له، يمكن أن يكسر مدع يده، ويقول: أمي أصبحت عمياء، وخالي لم يعد يحبني، وبلدي أنكرني، وحوربت في رزقي وعملي حتى من آلهة المعبد، فيفتح له قلبه ويديه وجيبه العامر.
يظل يكبرّ في أولاده، وأولاد أولاده، حتى يضنيه الوجع، ويتنكر له الجميع، ولأن قلب العصفور كان صاحب القرار، فهو كافل اليتم، ومرضع الفطيم، ويملك خاتم سليمان، يومه ليس له، ونهاره عرضه لكل رياح الظهيرة المتقلبة، والواقفون أمام باب الشكوى يستطيعون أن يعجنوا أيامه، أما أحلامه هو.. فبقيت اليوم، إما مسافرة أو بعيدة عنه.. أو سرقها ذلك العصفور الرقيق الذي كان فرحاً بريشه الملون، وصوت الحياة فيه، وهرب..