في شارع ولنغتون والمحاط بمحلات صغيرة لعواجيز من الإنجليز لن يصبروا في خريف عمرهم على ضجيج لندن، وسيتركونها لأول مهاجر آسيوي يقترح بيعاً مجزياً، وبنظام نقدي لدكاكينهم التي تفوح برائحة الصابون الإنجليزي أو أزهار اللآفندر ليحولها لمواد غذائية وخضروات وفواكهة زهيدة الثمن، وبهارات نفّاذة تجلب العطس للمارين المعتادين طريقهم الصباحي نحو المخبز القريب.
بعد خطوات تقطعها في دقائق خاصة إذا ما كان المطر يطاردك كعادته التي يأتي بها دون استئذان، تستطيع أن تصل المنزل 21، وهو إختيار جاء بالصدفة البحتة، لأن هذه الأسرة هي التي أختارتني لأقيم عندها مدة دراستي للغة الإنجليزية، وليس لعائلتي أي فضل، ولا درسوا ملف هذه العائلة، ولا تراسلوا معهم، فقط كان أبي يعتقد أن الإنجليز كلهم جادون، ولا يكذبون كثيراً بحكم تعامله معهم لسنوات طويلة في الخدمة العسكرية. إذن الصدفة وحدها هي من جعلتني أحل ضيفاً ربما ثقيلاً، وطفلاً جلفاً بحكم صدمة مدينة كان يعتقد بخيال البدوي أنها مقرطسة دائماً، ومغلفة بورق سولفان لا تعرف إلا نظافة العائلات الإنجليزية التي كان يراها على شاطئ أبوظبي أو حين يمرون في اجازات عابرة للعين والبريمي.
كانت أشهر في البداية متعبة على عائلة ديفيد ماكلوهان.. لكنها سرعان ما سارت الأمور وكأنني أبن لايرغبون أن يبقى بعد البلوغ كثيراً معهم، غير أن حادثة أن أكون مرة “بيبي ستر” كجليس مسائي لأبنهما جيسون، قد علّت مراتبي عندهم، وقد فعلت ذلك في بداية الأمر تطوعاً ومكراً، ولكي أرقق قلب السيدة حرم ديفيد الطيب أكثر من زوجته، والذي يشعرك بالغبن أول ما يتبادر من الباب أو تصادف محياه فجأة وهو عائد من العمل بفم مُرّ، ولكي تغير أيضاً من كمية ونوعية الأكل الذي تقدمه لي كفطور إنجليزي لا أستسيغه كثيراً، ولكي تجعلني أنعم باستحمام كاف، لا “سبوح الصفاصيف” الذي كثيراً ما تشتكي منه، وتنصحني أن لا أغسل شعري أكثر من مرتين في الأسبوع.
ما سمعت تلك السيدة الإنجليزية بتطوعي للبقاء كجليس لطفلها، حتى بدت الفرحة عليها، على غير عادتها، وسبب الفرحة أولها أنها ستوفر على ميزانيتها 10 جنيهات، وهذا كاف ليجعل الإنجليزي يشهق من الفرحة، ويظل يشكرك على الدوام، وثانيها أنني لن أزعجها بقدومي الليلي شبه المتأخر، وثالثها أنها لن تضطر أن تكتب ملاحظات كثيرة عني، وعن انضباطي طوال الأسبوع، والتي تقدمها للمدرسة بانتظام ودون كلل أو ملل من امرأة أجبرت أن تكون شبه محافظة بتربيتها الدينية.
أما أنا فمنيت نفسي يومها بمكتبتهما التي ستكون سهرتي تلك الليلة، قراءة في سكون، وإرضاء لفضول لم أستطع التخلص منه بسهولة حتى الآن، خاصة وأن أولاد الإنجليز لا يظلون مثل أخواني الصغار “يزغّون” كل ساعة، و”يباغمون” بلا سبب أو أن “البزا” حالّ عليهم، جيسون ينام من وقت مبكر في لباس قطني مختار بعناية، ومثل ملاك ليلي، لا تسمع له حس، تحرسه قطتان.
وضعت دروثي أو مدام ديفيد التي عادة لا تعتز به كثيراً خاصة في مجتمعها المخملي أو الديني طفلها جيسون في سريره، وأعطتني بعض التعليمات الخاصة بولدها، أكله وشربه، وما يفرحه، مؤكدة أنه لن ينهض من سريره، لكن عليّ مراقبته بين الحين والآخر، ودعتهما متمنياً لهما سهرة جميلة وحميمية، خاصة وأن زوجها ديفيد بدت عليه عوارض عدم إكتراث حقيقي، وغير ميال للألفة أو الملاطفة مع زوجته في الآونة الأخيرة، وهذا ما قد يشاهده الأغراب مثلي.
جلست أقلب تلك الكتب، مستمتعاً بهدوء غاب عني طويلاً، راجياً أن لا يعرضوا فيلماً ممتعاً في التلفزيون البريطاني، لكي لا يسرقني من متعة الوحدة، والقراءة التي أحياناً أشعر أن لها طعماً حلواً في الفم.
مرت ساعة، وكل شيء كان هادئاً في ذلك البيت الإنجليزي الذي تسمع طقطقة خشبه ولو مشيت فيه كراقص باليه معتزل، وفجأة.. تعاركتا القطتان، وضج البيت، وصحا جيسون، والتلفزيون البريطاني عرض فيلماً ممتعاً، وأنا تخربطت حالتي، مرة “أحايز” بين القطتين المتشاجرتين بدون سبب، ومرة أسكّت جيسون عن البكاء، ومرة توزني النفس على متابعة مشاهدة فيلم ليلة السبت.
في عز اليقظة التي انتابت القطتان، وصراخ الطفل جيسون، وتنبه القائمين على التلفزيون البريطاني بعرض فيلم المساء والسهرة، والدوار الذي أصاب سكوني وهدأتي، في وظيفة لم أطلبها يوماً كجليس لطفل إنجليزي، كان يمكن أن أتنازل وأتحمل صريخ الطفل لكن من غير بلل، ثم تنازلت ورضيت بالصراخ وبالبلل، لكنني لا أطيق، وسأحتج بعنف وشدة على الحفاظات، خاصة حين تتدلى من الطفل كالمخرافة من ثقلها، وأنا أشد ما أكره اللعب في المناطق الموحلة، وأي غلط مني أو فتنة في وجه الصبي من غير قصد، والتي نبهتني عليها “مدام ديفيد” أكثر من مرة، وأوصتني مراراً وتكراراً بعدم عملها بالذات في لندن، يمكن أن تزيد المسألة سوءاً، ويمكن أن تجعل من جيسون يلعب لعبته القذرة، ويملأ سريره، وأنا بصراحة لا أقدر على تحمل نتائجها المترتبة، خاصة وأنه طفل متغذ بشكل صحيح، ولا يحصل إلا على الحليب الكامل الدسم، ولا يشبه ما كنا نرميها في صغرنا من الجوع كبعر الماعز يظل يدربحه “اليعل” بسهولة.
ظللت أسلي جيسون، وأحاول أن أضحكه عله ينام، والاطف القطتين بعين حمراء، وأخرى باردة، كفاً لشرهما، ولمتابعة فيلم السهرة التي تبدو فيه بطلته”رومي شنايدر” وكأنها ولدت لتغري طلاب الصف أول ثانوي بالذات، أولئك الذين ودعوا النجابة، والذي يصر مديرهم السمين أن يفزعهم بعدم الحضور إلا برفقة أولياء أمورهم.
جيسون كان يغط في النوم في حضور أمه على ربع الدلع الذي أدلعه الآن، وبأقل قدر من المذلة التي ذلني بها هذا الصبي الذي قد ينظم إلى البحرية الملكية في كبره، ورغم ذلك ظل مسمراً عينيه في السقف حتى تملكتني الدهشة، وأفزعني القلق عليه، فالأطفال في مثل حاله وعمره، لا يئنون ولا يتوجعون، وبكاءهم لا يفهمه أحد غير أمهاتهم، وأم جيسون غائبة، وربما رأسها مثقل بأحاديث الحانة المزدحمة والصاخبة بحديث السكارى ودخانهم غير المنقطع، وبآمال كان يرميها زوجها ديفيد في فضاء المتخيل والممكن، والتي لا تأتي عادة كما تتمنى النفس، خاصة حين يكون فرحاً بعض الشيء من غير أن يحسب حساباته بدقة، أما أنا فلا أخفيكم أنني بقيت متعاطفاً مع “مستر ديفيد” لآخر لحظة من وجودي مع تلك الأسرة الإنجليزية المثالية التي تعرف ماذا ستفعل بعد ستة أشهر من الآن، وماذا يترتب عليها من ضرائب ومصاريف محسوبة بعد الإنتهاء من شهر سبتمبر مباشرة، وبداية حلول فصل الخريف، كما لا أخفيكم أني كنت أعتقد قبل سفري أن “مدام ديفيد” قد تشبه شيئاً من تلك الأم المنعمة في ظل وخرايف نخيل العين مثل كل صيف، لكنني لم أقدر أن أقلدها مثل هذا الأمر، وتلك الميزة، لأنها بصدق كانت تشبه أي مجند برتبة دنيا، حاول معه أبي آمر السرية في الجيش حينها أن يدربه على الضبط والربط لكي ينفع نفسه، ويترقى لرتبة أعلى، فلم يستطع، نفس ذلك الأب العسكري الآمر، كان يريد أن يزج بي في بريطانيا في عمر مبكر أكثر من الآن، لو لا دموع المرأة الصغيرة الساكنة مقلة “العين” مكتفياً بتقطيبة استقرت بين عينيه، وبهزة من رأسه تنبيء بعدم اقتناع بتربية النساء للأولاد البكر لوحدهن.
كذلك “مدام ديفيد” لم أشعر أنها أعجبت بي يوماً كرجل غير مدنس بعد، بل كانت تشعرني أنني ولد لم يتبع تعاليمها، ولم يمتثل لأوامرها مرة واحدة، ولا يعود من مدرسته إلا وثيابه مباشرة إلى الغسالة العجوز التي تشارك الزوجان في ثمنها المبالغ فيه حينذاك، والتي يريدان أن يحافظا عليها كأيقونة قديسة في البيت.
في لحظات التأمل والتفكير غفت عينا جيسون، والقطة الرمادية بدأت عيناها تومضان بكسل مقنع، مقرراً أن تشاجرتا في ذلك السكون أن أرمي التي أقدر على مسكها أولاً من الشرفة الوحيدة لذلك المنزل غير الواضحة المعالم، إن كانت للشمس أو هي لنشر الغسيل أم هي مستودع مؤقت لأشياء غير ضرورية.
تمنيت أن تدخل “مدام ديفيد” وزوجها في تلك اللحظات المسيطر فيها على مجريات الأمور، يتقدمها عطرها المحايد، والذي يشعرك نحوه، ونحوها بمودة غير دائمة، والذي يصلح أكثر ما يصلح لعاملة في “سوبر ماركت” المواد الغذائية التي يطلق عليها أهل لندن “كيميتور” لأنها تنشر صباحاً في القطار من أقصى الضواحي لتعمل وسط لندن، وترجع مساء برجفة الجوع، وعدم تناول المواد الضرورية، تعد ساعات مساءها الكئيب متسلية بقراءة كتاب أشترته مستعملاً، وقد تبيعه دون ادنى أسف منها يذكر على تلك الرواية التي شعرت في مرات كثيرة أنها مملة في صفحاتها الأربعين الأولى، وأن صديقتها لم تخلص لها النصح، وأطلقت حكماً مطلقاً على الرواية دون التأكد من محتواها.
قبل أن تدخل “مدام ديفيد” حسب التقاليد الـ”بروتوكولية” وبمحبة من زوجها ديفيد الذي يبالغ في هذا الأمر بعد كأسه الثالثة، ويصر على مبدأ النساء أولاً وبحرص ممل، سعيت إلى تنظيف البيت من أي آثار للعدوان الذي شنته القطتان في غفلة مني، واستكملت الاعتناء بجيسون، وقياس درجة حرارته، والحرص على تدفئة صدره ورجليه، وبُعد البلل عن مؤخرته الرطبة والمحمرة في أحد أطرافها، وجاهدت أن أقوم بكل ما يلزم من المباديء الأساسية للعناية بالطفل، الأمر الوحيد الذي لم أستطع منع آثاره، ومقاومة ما يعرضه التلفزيون الذي سيبقى ساخناً سواء أغلقته الآن أو قبل حضورهما بخمس دقائق، ولا أستبعد أن “مدام ديفيد” ستتحسسه بقصد، لتطمئن على فاتورة التيار الكهربائي أنها لن تأتي عالية هذه المرة، متمنياً في نفس الوقت أن لا تظهر مشاهد في الفيلم المعروض متسعة وكبيرة للممثلة “رومي شنايدر” وهي في عمرها الجميل الخامس والثلاثين، وهي تغري الممثل الماثل أمامها والذي يجمع رومانسية الفرنسيين وأناقتهم، ووسامة الإيطاليين ومرحهم، ومتانة الألمان وجدهم، وأن لا تسقط “مدام ديفيد” أمورها الزوجية على بعلها المسكين، والذي اشفق عليه كثيراً وبجد، لأنه لا يحمل أي صفة من صفات بطل “رومي شنايدر” ببنطاله الترابي المخملي، والفانيلة السوداء المملحة بعض الشيء، والذي نسي لحيته دون حلاقة منذ يومين بالتمام، وبنظارته المغبشة التي تشعرك أنه مدان لأكثر من بنك، ولن يقدر على السداد في الأيام المنظورة، وأن أحواله مضطربة، وغير قابلة للنقاش أو التحسن، وليس هناك أي بوادر هيمنة قد تطرأ فجأة على حياة زوجين مملين، ونهايتهما دار للعجزة في مكانين منفصلين، وقد يمتد بأحدهما الخرف بحيث لا يتعرف على شريك عمره.
بقيت أنتظر قدومهما، راجياً أن يبقى جيسون يأكل رزاً حلواً مع الملائكة، والقطتان لصقتا بالجدار تستشعران دفئاً تمنيته أن يطول، والتلفزيون ينهي فيلم المساء والسهرة الذي أمتد أكثر من اللازم، وأشعرتني رومي شنايدر يومها أن على شاربي أن يخضّر مبكراً، وأن أظل أحمل تلك الصور للمرأة الممتلئة عافية إلى آخر ما تسمح به الرئتان من تنفس عميق، وما تسمح به الأذنان من وشوشة رطبة وقليلة ومعطرة تحت شحمتيهما.
قدومهما المتأخر قليلاً الذي نبهتني له كحة متحشرجة خارجة من صدر “مستر ديفيد” نتيجة تدخين شبه مستمر من غليون، وتبغ طيب، له رائحة الرجولة، والصبح الضبابي المبكر، وطقطقة الخشب في منزل إنجليزي يحمل الرقم 21، والذي جاء مثل ما تشتهي “مدام ديفيد” وزوجها.
دخلا.. مدام ديفيد غير هيّابة، ومستعدة للتعارك بعد شجاعة كأس الويسكي الذي شربت الأول ببطء، والثاني كان في خطو أسرع، وأشتهت الثالث لكنها تذكرت نفسها كأم وبنت انتظمت في الدير ودراساته اللآهوتية، وديفيد شبه متخوف من سرقة من أجنبي في قطار يعرف مسالكه، ونظرة موظف بيروقراطي يخاف كثيراً من التأخير عن دوام الساعة الأولى المنضبطة، رعدة البرد والرجفة الداخلية والصوت الغائب في الصدر المتحشرج يشعرك دوماً بذنب لم يقترفه، ولأول مرة يرياني الزوجان مثل تلميذ مهذب حلّ واجباته المدرسية، واستعد للنوم مبكراً، منتظراً أن يطبع قبلة على خد “دادي وماما” اللذين لم يعرفهما في حياته الحقيقية.
اليوم.. حين أتذكر تلك المهنة المؤقتة التي لن تتكرر في حياتي، أتذكر تلك العائلة التي غيرت بيتها رقم 21 في شارع ولنغتون، وجيسون الذي أكمل الجامعة، ولم يدخل البحرية الملكية، وغدا مثل أي جحش إنجليزي يشجع نادي ليفربول ويستمتع بالبيرة الغينيس السمراء، وفرحت له مثل أي أب، ولو كان لوقت قصير أشتغلت كحاضنة له دون أن أتمنى تلك المهنة، وديفيد وزوجته زارا الإمارات بدعوة مدفوعة مسبقاً وبفرح مني، وأصرا أن يعرفا كل التفاصيل قبل الزيارة، وما يجب أن يترتب عليهما من دفع مسبق، وكم يساوي الدرهم قياساً للجنيه الاسترليني، وهل هناك ضرائب مترتبة عليهما أو ثمة تخفيضات لعجوزين متقاعدين، كانا فرحين في زيارتهما شبه القصيرة، وأضافا للصور القديمة بالأبيض والأسود في مكتبتهما الدافئة عن الخليج والصحراء، وعن زيارات رحّالة إنجليز في الأربعينيات، ومذكرات لضباط في جيش”تي.أو.إس”، صوراً جديدة ملونة، وأصبحا يعيشان خريف عمرهما في منزل خشبي في الريف الإنجليزي، ولم يخرفا بعد، ولا نية لديهما لدخول دار العجزة، وسيقضيان بقية شيخوختهما مثل أي أوروبيين حديثين عاشا معاً طويلاً حتى أصبحا يتشابهان في شكلهما وصورتهما وملابسهما، كشقيقين خرجا من بطن واحد!