ناصر الظاهري

في القرية لا أحد يبول واقفاً – ناصر الظاهري

حين تقدم ابراهيم بتربيته الدينية وافكاره التقدمية ضد مرشح الشعب، حبيب الملايين حسب ما تقول لافتة الانتخابات، والتي كتبت بخط سريع ورديء، كان واثقا من الفوز، مثلما كان واثقا من كذب وانتهازية خصمه، دخل بحلم كبير أن يجعل من قريته الصغيرة وطنا مثاليا كبيرا، كعادة المثقفين اليساريين حين يتورطون بمثالية الأدب وطهرانية الدفاع عن الفقراء الذين كثيرا ما ياخذلون مرشحهم إن اغروا باكلات شهية وبقطع قماش جديدة تفرحهم.

ابراهيم كان يمكن أن يكون مشروع مدرس، وهكذا فعل لبعض الوقت، كان يمكنه أن يكون مشروع مدير البريد في منطقته، وهكذا فعل بطريقة أخرى، لأن كثير من الرسائل التي تخرج من البلدة كان يكتبها، وجل الرسائل التي تصل البلدة الصغيرة كان يقرأها، كان يمكن أن يكون مشروع طبيب ريفي، وهكذا فعل في حدود الاستشارة، وجلب الدواء في كل مرة كان يهبط إلى العاصمة أو يسافر للمدن الكبيرة، كان يمكن أن يكون محاميا ناجحا، وهكذا فعل في تقريب وجهات النظر التي كانت تشط إلى العنف والمخاصمة وحتى رفع السلاح، كان يمكن أن يكون إماما وقاضيا، لكنه لم يفعل رغم أنه كان عارفا قارئا وحافظا للقرآن، وهذه المهارة كانت تغيظ إمام المسجد الذي يعد نفسه إماما ومختنا وحجاما وقاضيا وحيداً، حيث بنى سلطته عند الناس بحكم العمر والجهل، وعن طريق أبيه وجده من قبل، وأي فضح أو تعرية للمقام السامي كان يمكن أن يفسرها الأهالي بطريقة خاطئة، ولأنه كان ينزع لروح جديدة وحديثة، ويريد أن يطرد الجهل بطريقة غير ثورية.

كانت الأهالي تحب ابراهيم وتعتبره شرفها ومشرفّها في العاصمة حتى حينما كان يذهب إليه طالبا أو سجينا سياسيا، كان يقوم بالواجب ضمن حلقات معارفه والتنظيم السابق الذي كان ينتمي إليه وقت الدراسة والمشاغبة السياسية، كانت الأهالي تعتبره مثلها وتاج رأسها لسبب بسيط ووحيد أنهم لا يقدرون على مزاحمته  في معارفه والنور الذي يحمله حتى عرف بينهم أنه ” متنور.. وفاهم وقاريء، ويعرف الفلسفة “. 

في حمى الانتخابات سربت الحكومة لمندوبيها أن يخرجوا مثل ابراهيم من تشريف البلدة، وفهمت الرسالة بدقة: أن لانجاج لأمثال ابراهيم في الانتخابات القادمة، وحده ابراهيم السياسي كما يفترض به لم يفهم، حتى اضطرت كل السلطات أن تتدخل وتحاول افهامه، لكنهم كانوا عاجزين عن ايجاد الحيلة التي قدمها لهم إمام المسجد بطريقة مجانية، كوفيء عليها فيما بعد، والذي استحق الاحترام كله من ابراهيم، واغدق عليه حلة من ملابس جديدة، وعين ابنه حارسا يتقاضى مبلغا يغنيه عن اعانة أبيه التي لا تصل في موعدها، وتعينه على الزواج وتأسيس بيت يليق بحارس عند مدير البلدية، وظل يوصل عائلة الإمام بأكلات كانت دسمة وغنية ومشتهاة.

بدأت الاشاعة تسري في الناس أن ابراهيم لا يصلي دائما، لكن الأهالي تجاوزوا عنها لانهم هم أيضا غير مواظبين على الصلاة في اوقاتها، فحقولهم تريد رجالها، والماء إن لم تلحق به في اوقات شربها تسرب بين الاصابع، وما كانت متكلة عليه من ماء تغدقه السماء ويجلبه الدعاء، تاخر كثيراً ذلك العام، لذا كان تقدم ابراهيم لا يعوقه كل تلك الاقاويل، والتي يصر الإمام أن يقولها مع تفخيم في الصوت، وعينان تلولبان في محجريهما.

وفي اللحظات المثقلة بهم السياسي القديم شعر ابراهيم أن النجاح أو الهلاك لا محالة، فبدأ يقصرّ في عطائه للأمام حتى صواني الأكل ظلت تصل متأخرة وباردة ولا تسمن أو تغني من جوع تاريخي في سلالة الإمام الشرهة والمشتهية أكل الناس.

الامام الذي أبصر المال من خصم إبراهيم وشكره عليه كثيراً، قدم له حيلة لعينة أخرى وتكفل بتسريبها بين الناس، مدعياً أن ابراهيم يبول واقفا مثل الكلب، ولا يتطهر من نجاسته وهو أمر لا يسر المسلمين، ويخالف ما تنزل على الرسول من قول مبين.

وهكذا سقط ابراهيم في الانتخابات، وفاز خصمه السياسي كما كان يدعي، لأنه لم يعرف عنه التبول واقفا أو عدم الاستنجاء أو التطهر رغم أنه لم يكن معلما محترما ولا مدير بريد أميناً أو طبيباً ريفياً مخلصاً ولا محامياً ناجحاً، وكاد أن يكون إماما جاهلا وقاضيا في النار.

ولم يعد الناس يصدقون إبراهيم أو يستشيرونه أو يقربونه أو يتقربون له، ولم يعد ابراهيم مشروعا لمعلم صادق أو مدير بريد أمين، ولا طبيب ريفي كمهنة مجبر عليها، ولا محام ناجح، مثلما لم يكن إماماً وقاضياً من قبل.

كانت سقطة ابراهيم التي لم يعرف عنها بعد، أنها بسبب تلك الإشاعة التي أطلقها الإمام وصدقها الناس الذين كان يدافع عنهم، كانت عبارة أنه كان يتبول واقفا مثل أي كلب، ولا يتطهر من النجاسة تسري في البيوت وتتبعها ضحكات لا تنقطع وعلامات دهشة، تختتم بتعجب من النساء: إبراهيم.. الله يخسك يا الخايس!

وكبار السن رجعوا لتسميته القديمة، وهو صغير: إبراهيموه!