ناصر الظاهري

حجر الرغبة – ناصر الظاهري

” ليس هناك في المكان.. غير الحر والبرد، الجفاف والرطوبة.

النار حارة جافة، والماء بارد رطب، الهواء حار ورطب، والتراب بارد وجاف.

ومن هذه الخواص يمكن للإكسير أو الزئبق الأحمر، ذلك السائل من حجر الفلاسفة أن يعطي شيئاً من الخلود، والكثير من الرغبة”.

 

                                في محاولة لفهم جابر بين حيّان، ولما كانت العبادة للحجر!

 

 

 

في منزل المثّالة، التي غاب اسمها في مهنتها عند الجيران البعيدين، لا يرد إلا على لسان صحفيين ممن يفرحون بأيام الافتتاح لمهرجانات أو معارض فنية مقترحة، وكأنه واجب مهني أو نقّاد قادرين على النفاذ للعبة الأصابع على الحجر.

الصومعة كما تحب أن تسميه في لحظات مرحها القليلة، ذلك البناء الحجري الذي يستقر في طرف المدينة، كدليل كد سنوات طويلة في العمل الدبلوماسي الخارجي، لرجل ضاع بين الخدمة الملكية، والقراءات، والمتع الناقصة، والأسرة غير المكتملة، وأوجاع زوجة من بنات العم، لم تعش طويلاً.

في ذلك المنزل الذي تحيطه حديقة برية متوحشة، عملت عن قصد، لكي تتواءم مع نزق الحجر، وجفاء المكان شبه البعيد، في حين تتوزع منحوتاتها الزوايا، والأركان الصغيرة، ومرات تجدها مبثوثة هنا.. وهناك، عند خاصرة البيت مثلاً، تحت شباك مضاء، ومزين بزجاج معشق، في الحديقة التي تشبه مقبرة كاثوليكية في قرية صغيرة.

” حجر.. حجر، ما أروع الحجر، من قال أنه لا يطوّع؟ من قال أنه صخر صوان، كتلة حجر؟! حجري ناطق تجري فيه دمائي وعرقي، وتلك الأحاسيس التي أبثها له وحده، تلك الوشوشة، والحديث الصامت بيني وبينه، شوقي له، بحثي عنه، لا يدخل بيتي إلا حجر منتقى، لأن كلام الأزميل والمطرقة ورقص الأصابع والفرشاة، حديث همس له كل المعنى، يكاد يسبر الروح في متاهتها البعيدة.

الآن.. وحين يستوي التمثال، ويصبح كائناً مكتملاً بكل عافية الحجر، وحلمي المتخيل، وحين تنطق تفاصيل الجسد، ويتهيأ لي مثل بطل أسطوري تهمه الإنتصارات، وأتهيأ له مثل نساء المعبد، الشرقات باللذة الصامتة، ينطق الحجر، وأغيب في دفئه: حجري غير الحجر”!

 

هكذا شهقت المثّالة بحديثها ساعة التجلي واكتمال المولود، غصّت بالفرح وهي خارجة من بحر نشوتها، وهي تغطي التمثال، الرجل الجديد، بغطاء سريري أبيض، مضمخ بسر عطرها.

تمضي المثّالة جل يومها تحاول أن تستنطق انفعالات الحجر، وتفصّل شجر الحديقة، فليس يعكر زهو الصباح، مثل وظيفة دبقة على روح فنان، هكذا كان قرارها، رغم إلحاح معارف الأب الكثيرين الذين بودهم تقديم خدمات مجانية للـ “بيك يوسف” ووظيفته المحترمة.

كانت تعشق ظل الصباح، وروائح زهر الليمون، لقط أوراق الشجر اليابس المتساقط على مهل، كانت تعطي الأمور شيئاً من نكهتها، وتفصلها وفق فلسفتها الجمالية الخاصة.

فناجين القهوة في فترة راحتها، واستراحتها، تنتقل معها من ركن إلى ركن، مرة تحت شجرة التين، ومرة أخرى تحت شجر اللوز، وهي تستمتع ببرودة الجدار الحجري المسندة عليه ظهرها، لا يشاركها وحدتها، ووحدة فنجان القهوة، غير أصابع السيجارة التي تستلها من العلب العديدة من ذلك الصندوق المعزز على الطاولة.

في يومها الذي يبدأ -إذا لم يكن ليله قلقاً- في الفجر الذي يضحك مع أول ضوء الشمس، تظل تعمل حتى منتصف النهار، بعدها تذهب في رحلة الماء، وتناول إفطارها الخفيف، تغط بعدها ساعة زمن، لتخرج من جديد هذه المرة متزينة، متعطرة، لتنسج عملاً جديداً أو نحتاً استعصى عليها في ساعات الصبح الأولى.

تبقى متأخرة حتى العصر، بعد أن تأخذ إغفاءة داهمتها بشكل مفاجئ، وطرأت على جفنيها المتخفيين خلف نظارة سميكة، بإطارها المذهب، وخشبها العاجي، والذي كان يحمل يوماً ما قيمة غاليه.

تنزل حديقتها بعد أن تصبغ الشمس كل الأجواء بلونها البرتقالي الغائب، ليخلق مع حجر الدار تلك السكينة المشتعلة.

تضحك بصوت عال، إذا كان يومها على درجة من الرضا، في حين تكتفي بابتسامة خاصة، إذا ما سارت أمور اليوم بطبيعة كسلى، تبتسم وهي تهم بدخول باب البيت المنحوت بطريقتها، مطبقة على ما بقي في العينين من منظر تعشقه، ولا تعوضه المدن الكثيرة الأخرى.

الليل.. عندها له طقس آخر، وتدبير مختلف، فبعد أن تحضّر وجبتها النباتية، وتستقر زجاجة النبيذ الذي تحرص على انتقائه من أركان دافئة في مطارات مختلفة، بجنب الحواضر، وكأسها الخاص، تذهب من جديد إلى رحلة الماء الثانية، وترتدي خفاف الملابس، بألوانها المدعاة للمشاغبة الليلية.

الليل عادة ما يمضي بين القراءة، والتلذذ بالأوراق النباتية المغسولة بالحامض والخل، وتلك الكأس المشربة بحمرة دم الأتقياء، وحين يبدأ الجسد يرتجف بأول هزات النشوة، ترفع من صوت الموسيقى ليؤنسها، ويؤنس وحشة البيت، والليل الذي بدأ بغوص في ظلمته، تبقى في متعتها تلك، حتى تشعر بالخدر يسري في كل الجسد، ويستدعي أحزاناً مستقرة في الرأس، ولحظات فرح كانت غامرة يوما ما، حين كانت صغيرة، مستبشرة بتمدد الجسد، وبداية تفاصيل النحت الأنثوي فيه، وتلك المغامرات الصغيرة صوب براءة التكون، والتي تعنّ اليوم، وكأنها لم تغب طيلة هذه السنين، وحده وهج النور يطفئها، لا تأتي بها إلا هبوب الليل الباردة، والتماعة الكأس التي نادرا ما تفرغ، وإن فرغت، كان الجسد يتفصد عرقاً، منهكا من التعب، ومن تلك النشوة حين تذهب إلى مداها، دافعة ضريبة العمر، والجمال غير المكتمل، والآفل بسرعة نحو العطب.

تتكوم كقطعة حجر بدائية تضمها الكنبة العتيقة، لا توقظها إلا الأحلام التي تهاجمها بشراستها أو تلك الكحة التي توقظها أحيانا في منتصف الليالي الشتوية، وحين تئن العظام من برودة الحجر، والصمت الذي يضفي عليه الليل شيئاً من سواد الشر، تسحب قدميها، لتلقي بجثتها على السرير الكبير، وتنغمس في فراشها الدافئ، والوثير، باحثة يدها عن شبح رجل ليته كان هنا.. الساعة.

ضوء الصبح يكشف عن ملامح امرأة خمسينية، ينتعها الطول، وتصقلها النحافة، لولا سمنة العمر، وترهل الوقت اللذان يحيطان الخصر والأرداف، ويثقلان الصدر للأسفل.

ينحسر الشعر المحنا عن الجبهة، ليضاعف من سنواتها الخمسين، والنمش المتناثر على الوجه والصدر، وقليل منه على اليدين، بتلك الأصابع الطويلة التي تشبه أصابع عازف تدرب كثيرا، تزينها خواتم الفضة والأحجار الكريمة ذات الفصوص المهيبة.

شيئان لا تجد فيهما اللمعة الحقيقية: الأظافر دائمة التكسر والتقصف، والأسنان التي اعتادت القهوة اليومية والنيكوتين، وحده الجلد ظل محافظاً على نظارة ما.

كانت دائما تفتش عن حجرها الخام، تبحث عن الأشياء المركبة من الناس أو تخلق تلك العلاقة بين المرأة وبين الموجودات، كان جسد الرجل هو فرحها الحقيقي، كانت تتعامل مع كل عضلة فيه، تطرقه بقوة جسد أنثى مسكونة بحرقة العطش، كان رقص الأصابع يوحي وكأنها تحممه بالغار أو تغسله بعطر الورد،  في لحظات النحت كانت كل الحواس تتجاذبها مع لغة التواصل، والى أن يمنحها الفم الإحساس بتلك القبلة الغائبة، تظل درجة رضاها محل اختبار، أما حين يكتمل التمثال، فليلتها ليلة عرس وثني، يظهر هيامها بالمعبود الجديد، تجل حضوره بطقوس الصلوات القديمة، تظل مثل كاهنة المعبد تتلوى على نشيد رب الخصب والنماء، تتحدى مطره، وتنتظر عشبه الذي يخضّر حولها، ليلتها تشعل نارا من بقايا نار المجوس، وطلاسم من أناشيد الهداية الأولى، وتظل تطوف بالنار، وتهب للجسد انطلاقته وعفويته حتى يسقط في بحر الرجس!

تصحو بعد تلك الصلاة الوثنية، خفيفة متطهرة من جروح النفس، وكأنها عروس الخصب الجديدة، تفرح بلحظة التملك التي تتمنى لو كانت تدوم بصيغة أخرى، أي صيغة في الحياة.. حتى ولو كان ذلك الحداد الكافر الذي حضر مرة وهي صغيرة يركّب بوابة البيت الكبير، كانت معجبة باليد المعروقة، المتعرقة، وبتلك البدلة الزرقاء التي تخفي تفاصيل جسد فارع، كانت تراقب ثني الحديد ونار الأوكسجين التي تذيب كل شيء، كانت لحظة مراقبة طفولية، لأشياء ستحبها في أيامها المقبلة، غير أن نظرة الحداد جرحت  عمرها، وشغفها بمراقبة  اليد وهي تعمل.

اليوم.. ليته يأتي بكل رغبته الشيطانية تلك!

أما ذلك الذي هرب بزهر العمر الغض، وبتلك الرسائل المدرسية الوردية، فليعش مع زوجته تطحنه لقمة العيال، ولعنة السكّري الذي حوّله إلى شبح مخضّر مطارد، مثلما هرب ذلك اليوم متخلصا منها، ومن كل عطاياها، متذرعاً بأنه عاطل عن العمل، وغير قادر على الارتباط الزوجي، وكل همه أن يجد فرصة السفر للخليج بأي ثمن، ساعتها أخرجت من صندوقها الذي ورثته عن أمها ربطة نقود، ورمتها في صدره، أخذها ولم يعد من الكويت إلا وهو يجرجر زوجة سبقته إلى هناك، تعمل بوظيفة مدرسة مطلقة، وتعيل بنتا وولدا في الخامسة، أجبره عليها طمع مستقر في النفس، والأيام الرجولية في مدن السواحل التي لا ترحم!

يومها نحتت وجها نصفيا لرجل متأنث متخنث، ونصفه الأخر متفتت، محفور، وكأن دواب الأرض جلست تنغلّ فيه، وتقتات عليه لأيام متواصلة.

استقر ذلك التمثال خارج البيت، ترمقه بنظرة كلما سنحت لها فرصة التذكر أو السهو. مضت حياتها بعد مغامرة ذلك الرجل الهارب بنصف رجولته تسير نحو نجاح في الحياة والشهرة التي تحظى بها من خلال الصحف والمجلات والمعارض، وكلمات النقّاد اللعابية، والسفرات الكثيرة، والمشاركات العديدة، وجلسات زوّار طارئين من مثقفين عابري المؤتمرات الوهمية، وعشاق فنها، والتي عادة ما تنتهي بقبلات من تعتعة السُكر وقلة الحيلة، والتعلل بضرورة المبيت عند الزوجة المثقلة بنداءات الانتظار.

كانت ليالي.. تبتدئ بالفرح الأولي، سرعان ما يخلو البيت، وتبقى طاولات العشاء بصحونها الرابضة، والتي تتمنى لو لم تكن تخصها ساعتها، كلبوة ملت من الشبع والتسافد، ليال.. سرعان ما تخبو، سارقة إتمام الفرح الأنثوي الذي كانت تمنيّ النفس به دوما، لا يبقى عادة بعد تلك الجلسات الحميمية إلا ما يوجع الرأس من ذكرى أم لم تستطع أن تكبر معها، وأب ستتآكله العواصم السياسية، والزوجة الثانية، وسنوات طويلة من الغياب كفيلة بأن تجعله يشبع من ابنته الوحيدة بلقاءات فاترة، سرعان ما تنتهي بكثير من العتب، والنصائح المتأخرة والمسّربة بلسان الزوجة الثانية!

هكذا سار بها العمر الذي كان يفرض عليها مقاييس جديدة لطريقة الحب، ولنوع المغامرة، كانت شروطه تزداد يوما بعد يوم، وهي لم تعد قادرة على إعطاء سر الجسد المتحول لكل شخص، حتى قرع بابها ذات يوم شحاذ أعمى يقوده طفل في الحادية عشرة من عمره، فقدمت له من فطورها المتبقي، وأرادت أن تعطيه أشياء كثيرة بكرم.

أحست لأول وهلة أنه مشروعها الفني الجديد، وأنه يمكن أن يعالج البكارة الذاوية بطريقة جلفة، كانت تتأمله وهو يأكل، وهو يشرب، وهو يمسح شاربيه، وكيف يتحسس الأشياء، تفاصيل الجسد، يقظة الإذنين، الأنف المتوثب، اللحية النافرة كعشب ليل بري من قلة الحلاقة.

كانت تسترق النظر حينا إليه وهو يعبث في الفراغات، مشكّلاً حواره معها، وحينا أخر تشاركه في حديث كله أسئلة.

صبي الشحاذ تنبه لنظراتها، وكادت أن ترتبك، رمت في حضنه حبة برتقال، كنوع من طلب الرضا، وتشتيت الرأس الصغير، وشراء الصمت!

بعد تجشؤ الشبع، دعا لها الشحاذ الأعمى كعادته حين يرضى عن ما يقدم له بطول العمر، والصحة، ومباركة الرزق، والولد، وعمار البيت.

شعرت أنه يقولها بصدق أو هكذا أوهمت نفسها، طلبت منه أن يزورها كلما مرّ من هنا، وحاولت أن تفهمه أنه مشروعها الفني المقبل، وأنها تريد أن تصنع منه تمثالا.

لم يفهم كثيرا، ولم يقتنع كشحاذ محترف خبر الطرقات، قائلا:

” يا ستي.. حنا دراويش على باب الله..  قولي: يا رزّاق.. يا كريم”!

قالت له بطريقة مومس مبتدئة: “سأعطيك عن شهر من العمل مائة دينار، وستأكل وجبتين كل يوم، وربع بطحة عرق..”

قال: ” موافق.. بس انطيني فوقها علبة سيجارة كاملة كل يوم”

ضحكت، وقالت: ” كنت لن أوافق.. لو طلبت ربع لفة حشيش”

برقت عينا الأعمى في الغبش، وبان نابه ضاحكا: “والله يا ستنا.. أنت كريمة.. ومن ناس أجاويد، وأنا استاهل عطفك”.

لحظتها كانت تريد أن تسبر ما تحت ثيابه، تظاهر الشحاذ بسواد عماه، وأتى بحركة تنم عن خبث علّمه إياها العمى من وقت مبكر، لم تعرف ساعتها، هل كان يقصدها ذلك الأعمى النجس، ليبصر طريق ظلمته نحوها، أم جاءت هكذا كعفو خاطر، لم تقتنع بالثانية، ولكنها اقتنعت بعملها الفني القادم، رضي هو بعرضها السخي، ضامنا شهرا من المتعة: الأكل، الأجر، قلة المشي، وكيّف قادر أن يسد أذنيه عن مشاجرات لا تنتهي عادة كما يشتهي مع أم العيال بإراقة ماء ظهرها.

فقط.. بقي سؤال يؤرقه، هل يساوي كل هذا العرض الذي قدمته؟ وماذا فيه من أشياء لا يراها في نفسه؟

كان حديثا مقتضبا، وطارئا بين الشحاذ وابنه، لكنه استهلك كل الطريق، كانت أسئلة كبيرة لصبي اعتاد أن يجيب على أسئلة أبيه غير المبصرة، كان هو عينيه، لكنه هذه المرة،  تمنى لو كان هو هالة العينين!

ثمة أمر يبدو أنه يخص الفحولة، تمنى الأعمى أن لا يدركه الصبي أو يسرّ به إلى أمه الغاضبة دوما، الحاصية عليه كل شيء في مسائها الضجر عادة.

قال الأعمى لصبيه المرافق: “يا ابني.. دعنا نوكل وجبتين في اليوم، ونقبض الميّة دينار، ونقول لأمك، أنّا كسبنا نصف المبلغ، وعلبة سيجارة بحالها، بتدخن منها لوحدك خرطوشة بعد كل وجبة، شو رأيك؟ خلنا نقضي هالشهر دون أن تدري أمك الساحرة، هذا إذا بدك توكل زي الناس، وتطعم البرتقان عن حق، وتجرب السيجارة، وتخف المشاوير السابقة الطويلة”.

همهم الصبي، وتمنى لو كان يعرف كل شيء بسرعة، وبوضوح.

تتالت الأيام من حضورهم قبل الموعد، كعادة الناس المغبشين قبل أن يخطف الطير رزقهم، والذي كان يضايق المثّالة، ويشكل ضغطا لا يتناسب مع إيقاع يومها الذي تشتهيه أن يسير كمجرى الماء.

الابن ظل يتذكر تلك البرتقالة الناضجة التي رميت في حضنه ذاك النهار، وذلك الفطور الذي حافظ على موعده في الحادية عشرة والنصف تقريبا، وذلك الظل الذي يجلب نعاس الظهيرة الذي ترسله شجرة التين الكبيرة، ونظرات تلك المرأة التي حاول أن يفهمها بعمر لذة الاستمناء، ويفهم كلامها العذب، مثلما حاول أن يتصيد لها تشكيلا أنثويا يسحبه إلى تلك الفرشة المتهالكة الرطبة، وصور آخر الليل العارية، والذي يستدعيها العمر في المخيم البائس.

الأب جلس بعد تلك الأيام المقلقة مع ابنه بعد عودة المساء، كان يريد أن يعرف منه شيئا نسيه أو شيئا يريد أن يفيض به، ولما اطمأن دونما جواب من الأبن.. ذهب متسللا يتعكز على أصابع يديه، ويتلمس خطواته في الظلمات، ورضي بالسكون، ومشاغبة امرأة عرفها باللمس، ونشدان النشوة معها من تلك التضاريس التي تلتقي بالأصابع، وتستدل عليها دونما عناء، منتزعين الرغبة الساكنة من وجع التعب اليومي، الذاهب في المشاحنات واللغو وتفاصيل الأولاد، ومضايقات الحارة المكتظة، وسكانها الذين يجبرهم الفقر على خلق يومهم وعوالمهم، وتلك الأمور الصغيرة التي تعطي للحياة حيويتها الناقصة أحياناً.

لم يكن ليستطيع في ذلك المساء، وهو يلامس زوجته من عدم إدخال صوت المثّالة طرفا بينهما أو محاولة خلق تمثال لها في ظلام العيون، كانت الصورة الجديدة فاعلة، مثلما هي الليلة، حيث كانت ضحكة زوجته، ورضاها قد تحولا إلى يدين ناعمتين، مسدتا ظهره، وأطرافه المتيبسة، وجعلتاه يخّر في سبات لم يستدعه طويلا.

كان حضوره اليومي إلى دار المثّالة يتبع ابنه، لا شك أنه أربك برنامجها، ووتيرته الكسلى بلذة، لكنها حاولت أن تكيّفه بقدر ما استطاعت، وبقدر فهمه، وفهم ابنه، حتى وضعتهما على خط سيرها، وضمن تفاصيل يومها المجبرة عليه بفعل مهنتها.

الابن كان في بدايته ملازما لأبيه، إلى أن اخترعت له ألعاباً تتناسب وسنه الراكضة نحو الرجولة المبكرة، فقد ضمنت سكونه، وركونه بذاك الجهاز المدهش الذي قلما تفتحه إلا إذا كانت هناك برامج تسجيلية أو أخبار لا تسر خاطرها أو تلك التي تذّكرها بوجع الوطن القديم، والقرى المتناثرة على الضفة الأخرى المنسية، كان التليفزيون مسكّن الصبي، والأفلام التي تبث بالأبيض والأسود مصدر سروره، وضحكه، وإحتلاماته. الأعمى في بداية الأمر، أعتقد أن الاهتمام الموجه للصبي، أنه هو المعني بالأمر، وأن وجوده هو مثل كوز الماء، فحاول أن يفهّمها  أن لديه وجهة نظر، وأنه رجل، ويريد أن يعرف: “الإتفاق ما هيك يا ستنا.. وإذا بدك إياني، أنا مستعد”!

كان الشك يسيّره مثل أي أعمى، فهمت المثّالة بعض نياته، وحاولت جاهدة أن تثبت له، أنه مجرد مشروع فني وحسب، وعليه أن يلتزم بهذا، ولا يزعجها بأموره الخاصة في عملها، أما الأساسية منها فإنها ملباة.

صرخ من شكه: “ولكن يا ستي .. الصبي بعده صغير، ولسا ما طرّ شاربه، شو طلباتك.. عندي أنا.. الله يرحم والديك”.

“افهم يا رجل.. خلي الصبي يلتهي.. بدنا نشتغل”.

“أنا يا ستنا والله حاضر.. بس تشري بصّباعك.. كرمك مغرقنا من تحت لفوق”.

” أسمع.. أفهم عليّ.. بدي أصب لك قوالب لكل شيء فيك”.

” أنا يا ستنا حاضر.. شو ما بدك.. أنا حاضر، ولو إني ما فهمت.. بس خليك بعيدة عن هالصبي”.

” أسمع عاد.. هلكت ربنا بالصبي.. شو بدي بالصبي، أنت موضوعي.. بتفهم، وإلا.. لا”.

” ستنا مثل ما بدك.. أنا من إيدك هايّ، إلى إيدك هايّ”.

” بلاش ستنا.. هلكت ربنا فيها..”.

” مثل ما بدك..”.

” تعا معي.. بدي أعمل قوالب.. بس ما بدي ولا نفّس ها..”.

” حاضر يا ستنا.. الله يوفقك، وينجّح مقاصدك”.

” الله يطولك يا روح.. تعا معي.. عالساكت، بلا غلبة”.

” والصبي.. يا ستنا”.

” خليه يشوف التليفزيون.. وإلا بدك إياه يكون أعمى زيك..”.

” يا ستنا خذينا بحلمك.. نحن ناس غلابه، دراويش.. على باب الله”.

” بلا كثرة حكي ورغي.. خلينا نشوف شغلنا..”.

 

امتثل لها مثل صبي نُهر على غلطته، لكن داخله كان يستصرخ خشونة الرجل، وقسوة الحياة، حين تصنع رجالها، كان يشعر بأنه مقبل على ضوء جديد سيسعد أيامه، شعر لحظتها، وكأن مسالكه البولية تريد أن تتسرب في اتجاهات جديدة، وبطرق سيراميكية لامعة لم تعتدها حياته في المخيم، ولم تسمح الظروف بتجربتها على مهل.

كانت تتعامل مع جسد الشحاذ كخامة مختلفة عن الحجر، كان أشبه بلحم ميت، وهي النباتية، ليس فيه صلابة الرخام، ولا مطواعية الحجر، كان شكلا لا يخصها، ولم تشهد التكوين، انتظرت لحظة النضج، واكتفت بالوداع قبل الباب، وكأنها كانت مرغمة على شيء لا تحبه، ولكن تأتيه، ففي ليلها الضجر ذاك، عليها أن تهزم الرجل الهارب، والعمر الهارب، وتكتفي بما تصنعه يداها!

فرّغت من طقوس يومها الشحاذ وابنه، وطعامهما الذي لا ينتهي، فقد اشتاقت أن تبقى متوحدة مع طقوس اعتادت ان تعطي أشياءها ظلا من حنين.

كلمة شكراً كان يمكن أن تكفي، لكن في منطق شحاذ أعمى، وابن على طريق التسول، فالأفضل منها فتح الثلاجة على مصراعيها، وتفريغها من حاجاتها التي قد تفقد صلاحيتها بعد وقت قليل.

لا تعرف لما طرأت عليها فكرة الاعتقاد بفساد الأشياء، وهي ماكثة في مكانها، حرّك ذلك التفكير في وجهها عضلة نائمة، بدأت تنتفض، وتتراقص بلا إرادة منها، لكنها استسلمت لفرحة الوحدة من جديد، وأن هذا الحيز من القلب والمكان لا يمكن أن يتسع للكثير، وفي كل الأوقات.

 وحده الابن ظل متعلقا بالباب، وبكل المسرة التي دخلت يومه، منذ أن ولج تلك الدار، وبها كتمثال أنثوي سكن رأسه، ولا يشبه أمه، ولا يعرف أن يقبض عليه، كما ينبغي للحالات، وبمنحوتاتها الكثيرة، وبتفاصيل عرفها خارج عطن المخيم، بات ليلتها ضائعا، كيف يمكنه أن يمسك كل تلك الأشياء مرة واحدة، ومن جديد؟ وتذكر.. أكثر ما تذكر تلك البرتقالة التي استقرت في حضنه قبل شهر تقريبا!

بعد واحد وعشرين عاماً، وسبعة أشهر، وسبعة عشر يوماً، عند ناصية الشارع الذي أخذ اسماً جديداً “شارع أحلام المجيدي” وفي دوار حديقته الصغيرة التي أستقر فيها تمثال أزاح عنه الستار محافظ العاصمة اليوم، وقبل أن أتجه لطريق منزل عرفته قدماي الحافيتان لأول مرة، تركت شيئاً من زهر الليمون يؤنس وحشة المكان الجديد، ويذكّرها بعطر كانت تحبه في حياتها، أشعلت الغليون، ورميت بشالي الكشميري حول رقبتي، ولم انتظر المطر حتى يتوقف،  فقد كنت، وكانت روحها، وكانت المدينة بحاجة له، في يوم استثنائي على الأقل بالنسبة لي، كرجل تغير منذ دخل بيت المثّالة مشدوها، ومعنيّ بالأسئلة، يقود شحاذاً أعمى.

مرّرت يدي المبتلة على وجه التمثال المبقع بالنمش، وتحسست النظارة السميكة، شاعراً لحظتها بقيمة العاج، وطال تأملي لتلك الجبهة الحاسرة قليلا، ثم طبعت قبلة الرضا على شفاه المثّالة، لا تعني غير تمجيد ذكراها، وغيرالحب لشخص عاشر كل تفاصيلها، وانغمس في يومياتها، وعلمته الكثير في آخر عمرها، والرضا على ما أنجزت يداه على هذا الحجر!