عنوانُ القصةِ مُقتَبَسٌ من قصةٍ للأديب الإماراتيّ عبد الحميد أحمد
في التاسعةِ من صباح يومِ سَبت، كانت رياحٌ شَماليةٌ نشِطة تمرُّ فوقَ البحر فتُثيرُ أمواجَه بقوّة، ثم تهبُّ على مبنى فندق
(الساحل)؛ فتهزُّ أغصانَ أشجارِه، وتَقرَعُ شُرُفاتِهِ البيضاءَ وزجاجاتِ نوافذِه، وكانت غيومٌ رماديةٌ لا معنى لها تنتشِرُ في السماء، فتحجبُ ضوءَ الشمس أحياناً، وتُفسِحُ لهُ أحياناً أخرى، وكان حُرّاسُ الشاطئ قد أنزلوا العلَمَ الأخضرَ منذ الصباح الباكر؛ ورفعوا العلمَ الأصفرَ، ومع ذلك نزلَ عددٌ كبيرٌ من نزلاءِ الفندق الأجانب إلى الشاطئ للاسترخاء والتمتع بالخَوضِ في البحر، إذ مهما كانت حالةُ الجَوّ هنا؛ هي أفضلُ للاستجمام من حالةِ الجَوّ في بُلدانهم الشمالية في هذا الوقتِ من العام، لكنّ حُرّاسَ الشاطئ ظلّوا مع ذلك حَذِرين خشيةَ ابتعادِ أحدِ الخائضين في البحر عن منطقةِ الأمان، وكان عددٌ من الأطفال يستمتعون على الشاطئ ببناءِ القِلاع الرمليّةِ، والتخطيطِ في الأرض، وفي هذه الأثناء وصلَ خليفة مع ابنَيْه؛ سالم الذي يبلغ من العمرِ عشرَ سنوات؛ وأحمدَ ذي السبع سنوات، ومعهما كُرة.
كان خليفة قد اشترَك في نادي الفندق اشتراكاً شاملاً؛ يُمكّنهُ من استعمال مَرافقهِ الرياضية كافةً، ومنها الشاطئ؛ المَرْفَق المُفضَّل لديه، وذلك لأن بقية الشُطآن العامّة ليست آمِنةً في ظنِّه. أما هنا فيُوجَد عددٌ من حُرّاس الشاطئ، كما يوجد عددٌ كبيرٌ من السُيّاح في معظمِ شهور السنة، ولا يوجد في المقابل غُرباءُ لا يمكن التنبّوءُ بتصرّفاتِهم، الأمرُ الذي سيسمحُ لهُ بممارسةِ نشاطِهِ الأثير؛ السباحة في البحر، دون أن يحمِلَ هَمَّ أيِّ خطرٍ على ابنيْهِ وهما يلعبان بالكُرةِ على الشاطئ. إلا أن سبباً آخَرَ أكثرَ عمقاً في نفسِ خليفة كان يُحبِّبُ إليه السباحةَ في البحر، فقد كان هذا البحرُ يُذكِّرهُ بأبيهِ، وجَدِّهِ، وكثيرٍ من أقاربهِ الرجال، وما كان لهم من مَجدٍ غابِرٍ في حياةِ البحر، أولئك الذين عملوا في الغوص على اللؤلؤ، وسافروا في البحارِ البعيدةِ للتجارة، وقد أخذَ خليفة عنهم في صِباه الكثيرَ من المعارفِ والخِبرات، كما أنهم علّموهُ كيف يسبحُ بمهارةٍ في البحر، وكيف يتّقي شَرَّ الدوّاماتِ المُغرِقة؛ ويتجنَّبُ مواقِعَ “الدِيلان” كما يُسمّونها بلهجتِهم؛ أي قناديل البحر الكاوِية، ولذلك كان خليفة يقولُ في نفسِهِ حين يسبحُ في البحر؛ ويُواجهُ أمواجَه:
– أنا ابنُ النواخذة.
اختارَ خليفة أحدَ المقاعدِ الشاطئية المُظَلَّلة، ووضعَ عليهِ مِنشفتَه وأشياءَ أخرى، ثم تمطّى قليلاً، وسارَ قاصداً البحرَ وهو ينظرُ إلى ابنيْهِ اللذيْن شَرَعا في اللعبِ بالكرة، وأخذَ يتذكّرُ ما كان يحدثُ أحياناً حين يركلُ أحدُهما الكرةَ فتسقط داخلَ البحر، فكان يتولّى هو وَحدَهُ إعادةَ الكرةِ إليهما؛ لأنه حذَّرَهما من الدخول في عمق البحر، وخلالَ هذا الأسبوع تكرَّرَ هذا الأمرُ أيضاً، لكنّ إعادةَ الكرةِ كانت أكثرَ يُسراً بسبب الرياح الشَمالية، التي تَهبُ إلى جهةِ البَرّ، وتدفعُ أمواجَ البحر إلى حملِ الكرةِ نحوَ الشاطئ، فكان خليفة يحصلُ على الكرةِ بسرعة، ثم يُعيدُها لابنَيْه، لكنّ رياحَ الشَمالِ النَشِطةِ كانت تأتي منذ زمنٍ بعيدٍ بأمورٍ أخرى إلى الشاطئ، إذ ما زالت السُفُنُ التي تمخُرُ عُبابَ البحار الدوليّة تتخلّصُ من بعضِ حمولاتِها بإلقائِها في البحر؛ إذا تعرّضت لخطرٍ من رياحٍ شديدةٍ وأمواجٍ عالية، ويبدو أن هذه العادة ما زالت باقيةً إلى اليوم.
قبلَ أن يَغمُرَ ماءُ البحر قَدَميْه؛ توقفَ خليفة ليتأمّلَ أفراداً من العاملين بالفندق وهم يجمعون الكثيرَ من مُخَلّفاتِ البَشَر والحيوانات والسفن التي لفظتها الأمواجُ على الشاطئ، مثل قِطع الفواكه الكبيرة، والزجاجات والعلب البلاستيكية، وكذلك بعض الأسماكِ الميّتة، وقال في نفسه وهو يتأمّل:
– إن هذا البحرَ يُشبهُ الدنيا، والملوك، والآلهة التي يذكرها الوثنيّون؛ إن لديه القدرةَ على الوَهبِ والمَنع، إنه يأتيكَ بكلّ سِلَع الدنيا الفاخرة، وكذلك بكلّ هذه القاذورات والتلوّث، إنهُ يأتيك بالأرزاق النافعة؛ فيهَبُكَ الحياة، ويأتيكَ بالأمواجِ العاتية؛ فيأخذُ منك الحياة.
ومع هذه الأفكار المتقابلة دخلَ خليفة في البحر، وهو يُقاوِمُ بلُطفٍ أمواجَه الشقيّة، وأخذ يستمتعُ ببرودةِ الماءِ المُنعِشة، ثم بعدَ رُبع ساعةٍ شَرَدَ ذِهنُهُ مع ضربات الأمواج المُتتالية، فلم ينتبه إلى ازديادِها وارتفاعِها إلا حين رآها تؤذي بقيةَ الخائضين في البحر، وانتبهَ إلى ازديادِ سرعةِ الرياح، وتكثفِ الغيوم الداكنة في السماء، وفي هذه الأثناء سمعَ جميعُ مَن في الشاطئ فجأةً بوقَ إنذارٍ عالٍ، والتفتوا فرَأوا حُرّاسَ الشاطئ يُنزلون العلَمَ الأصفرَ، ويرفعون بدلاً منه الأحمر؛ وهم يصيحون بمَن كانوا في البحر، ويُشيرون إليهم بالعودةِ إلى البَرّ، فبدأ هؤلاء بالامتثال، ورأى خليفة ذلك كله، فأخذ يسبحُ عائداً نحوَ الشاطئ، ولم يَكد يقتربُ حتى سمعَ أحدَ ابنَيْه يصيح قائلاً:
– أبي أبي.. الكرة!
كان أحدُهما قد رَكلَ الكرةَ بقوةٍ جهةَ البحر؛ فسقطت بعيداً في الداخل. واستجابَ خليفة دون تفكيرٍ لنداءِ ابنِه، فعادَ يسبحُ جهةَ البحر لِيلحقَ بالكرة، وصاحَ فيه أحدُ الحُرّاس:
– سيّدي! لا تفعل ذلك، أرجوك عُد إلى الشاطئ فوراً.
لكنّ خليفة ابتسَم، وصاحَ قائلاً للحارس:
– لا تخف، لا تخف..
ولم تُجدِ نداءاتُ الحارس المُتجدِّدة، إذ لم يُبالِ خليفة بها، بل سبحَ بعزمٍ ومهارةٍ بين الأمواج الثائرة وهو يرقُبُ الكرة كلما استطاع كي يُحددَ جهتَها، وقال في نفسِه:
– أنا ابنُ النواخذة، وريحُ الشَمال ستُعينُني.
وكانت الرياحُ مُؤاتِيَةً فعلاً بهذا المعنى، إذ كانت تدفعُ الأمواجَ وهي تحملُ الكرةَ جهةَ الشاطئ، فلم يتمكن البحرُ من أخذِ الكرةِ بعيداً نحوَ الأفق، فلحِقَ بها خليفة، لكنْ بعدَ أن قاومَ أمواجاً لا تبدو منها رحمة، وعليه الآن أن يُحاولَ الرجوعَ إلى الشاطئ، وكان جمهورٌ من الناس قد قاموا على الشاطئ ينظرون إليه، وحين وصلَ خليفة إلى الشاطئ كان مُنهكاً تماماً، لكنه لم يشأ أن يُظهِرَ ذلك أمامَ الحاضرين، وواجهَهُ أحدُ حُرّاس الشاطئ بنظرةِ لَوْم، لكنّ خليفة رَبَّتَ كتفَ الحارس وابتسمَ له، ثم قَصَدَ إلى ابنَيْهِ؛ فأعطاهما الكرة، وأمرَهما باللعبِ بعيداً عن البحر، وعادَ إلى مقعدِهِ الشاطئيِّ فاستلقى عليه ليرتاح، وأخذ ينظرُ في البحر الهائج، ثم أغمضَ عينيه قليلاً، وتنفسَ بهدوء، ثم التفتَ جانباً فانتبهَ إلى وجود كُتُبٍ موضوعةٍ على طاولةٍ صغيرةٍ قربَ مِظلّة القشّ التي يرتاح تحتها، وكان الهواءُ يتلاعبُ بأغلِفتِها وصفحاتِها، وفطِن إلى أنها رواياتٌ مطبوعةٌ باللغةِ الروسيّة، وقد اصفرّت من جراء سقوط أشعة الشمس عليها، فقال في نفسه:
– لابد أن السيّاحَ الذين قرأوا هذه الروايات أرادوا إبقاءَها هنا؛ لعلّ آخَرين أن يقرأوها أيضاً.. هؤلاءِ سُيّاحٌ جيّدون حقاً.
وحين أنعَمَ النظرَ في الأغلفةِ المُصفرَّة؛ خالَطَهُ شعورٌ بحتميّةِ الفَناء، وانتبه فجأةً إلى أمرٍ آخر؛ فقال:
– آه، إذن فالبحرُ لا يشبه الملوكَ والآلهة فقط، إنه أكثرُ ما يشبه القَدَر.. نعم القدَر.
في اليوم التالي كانت الرياحُ قد هدأت، وعادَ العلَمُ الأخضرُ يُرفرفُ في سماء الشاطئ، وكانت الأمواجُ صغيرةً وناعمةً تماماً، وقد استمتعَ جميعُ مُرتادي الشاطئ بهذا الوضع المُريح، كما استمتعَ خليفة بالسباحة، وقضى وقتاً طويلاً في البحر، وكان مستمتعاً بمشاهدةِ ابنيْهِ وهما يلعبانِ بالكرةِ بنشاط، ثم خرجَ من البحر، واستلقى على مقعدِهِ الشاطئيّ، وطلبَ عصيراً بارداً، وأشعلَ سيجارةً، وأخذ يُدخّنُ مستمتعاً وهو ينظرُ إلى البحر الذي كانت أمواجُهُ تتحركُ بلُطفٍ ونعومة، حتى رآها خليفة كأنها جفونُ الجميلات، وتذكّرَ بيتيْن من الشِعر الشعبيّ، فأنشَدَهما ونفسُهُ طَرِبَة:
اجْفانك اللي تكسر المُوي وتغِط .. والمُوي جيشٍ بالرموش يتحرّك
سلْهامة رْموشك بحر أكحَل الشَط .. إذا وَقَفْت هناك للموت جَرّك
مع اقتراب مغيبِ الشمس بدأ الناسُ في الانصراف عن الشاطئ، وبينهم خليفة وابْناه، وتطايرَت غِربانٌ بين أشجار الشاطئ هنا وهناك؛ ولها نعيقٌ مُزعِج.
مضى أسبوعٌ كان فيه خليفة مشغولاً جداً، فلم يتمكن خلالَهُ من الذهاب إلى الفندق ليتمتع بالسباحة في البحر، وحين كاد أسبوعٌ آخرُ أن ينقضيَ على هذه الحال؛ ناشدَهُ كلٌ من سالم وأحمد أن يأخذهما إلى الشاطئ لِيَلعبا بالكرة، فانتبهَ خليفة إلى أنه هو نفسهُ بحاجةٍ إلى بعض الاسترخاء، والعودة إلى الاستمتاع بماء البحر؛ بعد ضغط العمل الكبير في الأيام الماضية، فعزَمَ على الذهاب في صبيحةِ اليوم التالي الذي كان يومَ إجازة، وفي التاسعةِ والنصفِ من صباح ذلك اليوم كان خليفة وابْناهُ على الشاطئ بين مُرتاديه، وكان البحرُ خفيفَ الموج، وكانت الرياحُ جنوبيةً نَشِطة، تَهبُ من البَرّ إلى جهةِ البحر، وكان لونُ العلم أخضرَ، فقال خليفة بصوتٍ مسموع:
– يا لَهُ من يومٍ مناسبٍ جداً للسباحةِ في عَيْني هذا البحر!
– ولكنْ لِمَ ابتعدَ البحرُ يا أبي؟
كان هذا سؤالَ سالم؛ الذي استرعى انتباهَهُ انحسارُ ماءِ البحر عن اليابسة.
حين انتبهَ خليفة إلى سؤال ابنهِ الكبير أجابَهُ قائلاً:
– إنه الثَبْر.
– الثَبْر؟
– نعم، وهذه بدايتُهُ، وسيزدادُ في الأيام القادمة، وحالُ البحرِ على الشاطئِ هكذا أبداً يا بُنيّ، فهو بين سَقيٍ وثَبْر.
بعدَ أن قال خليفة ذلك؛ طَرأَ مفهومُ القَدَرِ من جديدٍ على ذهنِه، فقال لنفسِه:
– آه نعم، القَدَرُ نفسُهُ كذلك بين سَقيٍ وثَبْر.
لم ينتبه خليفة من تأمُّلِهِ هذا إلا على حركةِ ابنيْهِ حين بَدَءا في اللعبِ بالكرة، فوضعَ ملابسَه جانباً، وسارَ مسافةً كي يدخلَ في البحر الذي بَدا لهُ بعيداً وغريباً، وشَعرَ بأنّ رياحَ الجنوبِ التي كانت تضرِبُ ظهرَه؛ تذهبُ بماءِ البحرِ إلى الداخلِ أكثرَ فأكثر، وحين غَمَرت المياهُ معظمَ جسدِه التفتَ جهةَ الشاطئ، فوَجدَهُ بعيداً، كما رأى ابنَيْهِ بعيديْن. لأولِ مرةٍ يشعرُ خليفة بالغُربةِ في هذا البحر الذي كان يعرفهُ جيداً طِيلةَ حياتِه، وأخذ يسبحُ بهدوء، ولأن مياهَ البحر قد انحسَرت؛ فقد امتدّت سباحتُهُ بعيداً في عَرضِ البحر، وفجأةً رأى طَرَفَ المدينةِ من بعيد؛ من وراء الحاجز الصخريّ الذي يفصل الفندقَ عن محيطه، ورأى خليفة سحابةً من دُخانٍ أسودَ تُكلِّلُ سماءَ المدينة، وأدركَ ما فيها من تلوّثٍ لم يَرَهُ من قبل.
عادَ خليفة إلى مقعدِهِ الشاطئيّ، واستلقى عليه ليستريح، لكنّ نعيقَ الغِربانِ الذي انطلقَ فجأةً أزعجَه، فقامَ وأخذ يتمشّى خلفَ المقاعدِ الشاطئية، حيث تكثرُ الأشجارُ والمزروعات، وراعَهُ فجأةً منظرُ صقرٍ كبيرٍ يحط على شُجَيرة.
– ماذا يفعلُ هذا الصقرُ هنا؟
وسَرعانَ ما تبيّنَ أن الصقرَ يُهاجمُ الغِربانَ كي يطرُدَها، ورأى خليفة صقّاراً يَرعى الصقر، ويُوجِّهه نحوَ الغِربان، ثم يُنبِّهه للعودةِ بجهازِ تحكمٍ عن بُعد؛ يحملهُ على حِزامِه. وحين ابتعدت الغِربان عن أشجار الشاطئ قال خليفة:
– ليتهم أبكروا بفعلِ هذا، وخلّصونا في الأيام الماضية من الغِربان المزعجة؛ التي لا فائدةَ من ذكائِها إلا لمصلحتِها.
وحين عادَ إلى مقعدِهِ الشاطئيّ سمعَ أحدَ ابنَيْه يصيح قائلاً:
– أبي أبي.. الكرة!
كان أحدُهما قد رَكلَ الكرةَ بقوةٍ جهةَ البحر؛ فسقطت بعيداً في الداخل. واستجابَ خليفة دون تفكيرٍ لنداءِ ابنِه، فسارَ مُهروِلاً جهةَ البحر لِيلحقَ بالكرة، وارتمى سابحاً في البحر الذي كان يحملُ الكرةَ بعيداً إلى الداخل بكثيرٍ من المَكر؛ تُساعِدُهُ في ذلك الرياحُ الجنوبية التي كانت تدفعُ الأمواجَ إلى داخل البحر، وكلما ظنَّ خليفة أنه لَحِقَ بالكرةِ كانت تبتعدُ عنه أكثر، وبدأ يشعرُ بالتعب، لكنه شَحَذَ هِمّتَه، وأخذ يسبحُ بكلّ ما أُوتيَ من مهارة، وهو يقول:
– أنا ابنُ النواخذة.
لكنّه لم يَلحق بالكرة، ولم يعُد إلى الشاطئ أبداً.
السِباحةُ في عَيْنَي بحرٍ يتوحَّش