سلطان العميمي

ركض بعيداً

جربت معه مختلف المحاولات التي قـد تخـطـر عـلـى بـالـكـم، لكنه جاملني كشخص لا يعرفني، کغریب ربطته الأقدار بي، ويرفض التعامل معي، كيف أُلّفت انتباهه؟ كيف أحادثه؟

أربعة وثلاثون عاماً مرت على صحبتنا دون أن يساورني شك أنه يختلف عني في شيء! أو أن أحـداً مثله قـد يـتـمـرد على رفيق عمره فجأة! هكذا ودون سبب! أو أن قصتي هذه حدثت لغيري وحكاها لي، ما كنت أرى المشكلة، إنه ليس بمقدور أحـد أن يـصـدقـنـي أو يرى ما أراه!

صرت على حافة الجنون!

أكره الجلوس وحيداً أو النوم في مكان يدخله قليل من الضوء، والسبب هذا المخلوق الوهمي الذي كان يعيش على هامش حياتي، ولم ألق إليه بالاً في يوم من الأيام. إذ صار اليوم شغلي الشاغل.

كان يلحق بي حيث أذهب، والآن هو يرفض إطاعتي. تخلى عني بعد هذه العِشرة الطويلة، لم تعد صحبتي تعنيه،  وصار يتمرد عليّ عندمـا نـكـون وحـيـديـن، أما أمام الملأ؛ فيعود مطيعاً لا يتبع أحداً سـواي.

بدأت قصتي معه قبل أشهر، يوم أن زارني ذلك الـكـابـوس مع بداية إجازتي السنوية، حلمت ليلتها أن نوراً هبط من السماء لينزع مني شيئاً ثم يـصـعـد بـه!

ظننت أن ساعتي قد حانت، أخذت أردد الشهادة في الحلم؛ واستيقظت فزعاً على آخر رمق؛ كنت أصارعه. كنت ألهث وقـلـبـي يـدق بـعنف، ضغطت زر الإضاءة لأشرب كوباً من الماء، فلمحت ظلاً بالقرب من النافذة!

ظننت في البداية أن غريباً دخل البيت، وسرعان ما تنبهت إلى أن الـظـل المـنـعـكـس عـلـى جـدران غرفـتـي يـأتـي مـن الـداخـل وليس من الخارج، التفت بسرعة خلفي فلم أجد أحداً سـواي، بحثت عن ظـلـي فلم أجده إلى جانبي، وهذا الذي أراه يـتـحـرك في الـغـرفـة بـحـريـة لم يكن إلا ظلي. ظلي الذي أعـرفـه لـم يـعـد يـعـرفـنـي! ماذا حدث لي ولـه بـحـق رب السماء!

أخذت أتأمل ماذا يـفـعـل هـذا المـجـنـون؟ كـان يـزرع الـغـرفـة ذهاباً وإياباً، يـعـقـد يـديـه خـلـف ظـهـره. كـأنـه في انتظار شخص ما، ثم يتخذ فجأة وضع الـقـرفـصـاء ويـطــرق بـرأسـه نـحـو الأرض، ثم يهـب واقـفـاً مـرة أخـرى، ويـعـود إلى حالته السابقة في المشي في حدود جدران غـرفـتـي، تنحنحت كـي ألـفـت انتباهه إليّ فلم ينتبه!

ناديت عليه: لـو سـمـحـت! فـلـم يـجـب. اقتربت منه فلم يلحظ وجـودي. كلمته، توسلت إليه أن يسمعني، هذيت بأشياء كثيرة.

سألته: من أنت؟

أجبني. هل أنت جني؟ ماذا تريد؟

لكنه لم يعرني أدنى اهتمام.

لـوّحـت لـه بيـدي فـلـم يـجـب! خرجت من الغرفة فانتقل معي؛ يتحرك كما يريد هو، لقد انفصل هذا الظل عني تماماً، لم يعد ظلي، لم يعد ظلاً، المصيبة أنه كـان يـعـود إلى طبيعته أمام الآخـريـن، ويـنـفـصـل عـنـي عـنـدمـا أخـتـلـي بـنـفـسـي، لذلك لم يـكـن بـمـقـدور أحـد أن يرى ما أراه كـي يـصـدقـنـي. ترددت عـلـى أكـثر مـن طـبـيـب نـفـسـي، اخـتـلـفـت تـشـخـيـصـاتـهـم لحـالـتـي، لا أدري إن كـانـوا صـدقـوني أم لا، وصـف لـي بـعـضـهـم أدوية مهدئة، رميتها كلها، قال لي أحـدهـم إنني ربما أعاني مـن انـفـصـام في الشخصية، ونـصـحـنـي بـالـسـفـر إلى الخارج لقـضـاء فترة من الراحة والاستجمام.

لجأت إلى رجال دين، ومشعوذين، والأخيرين أكلوا أموالي ومـارسـوا عـلـيّ مختلف خزعبلاتهم، تورم وجـهـي وجـسـدي ذات مرة عندما ضربني أحدهم بعصا غليظة كي يستخرج الجني الذي زعم أنه يتلبسني.

فكرت في الزواج، حتى تبقى زوجتي إلى جانبي طوال الوقت. ولكن كيف ستلازمني هذه المسكينة؟ وماذا سـتـقـول لـو عـلـمـت بـحـالـتـي؟ خفت أن يؤثر ذلك على علاقـتـي بهـا فـيـفـشـل زواجـنـا. استقلت من وظيفتي واعـتـزلـت الناس.

قال لي أحد الأصدقاء بعد أن رآني على تلك الحالة إنه يعرف رجلاً صالحاً في الطرف الثاني من المدينة. سبق أن عالج حالة مماثلة لحالتي.

عبرت الشارع الرئيسي الذي يفصل بين طرفي المدينة، كنت أفـكـر إن كان هناك فعلاً من أصيب بنفس حالتي من قبل، لم ألتفت وأنا أعبر الشارع إلى تلك السيارة المسرعة القادمة مـن شـارع فـرعـي، صـدمـتـنـي بـقـوة ورمـتـنـي بعيداً.. كـنـت مـلـقـى عـلـى طـرف الـشـارع. أشـعـر بـلـزوجـة الـدم الـدافـئ الذي يسيـل مـن فـمـي وأنـفـي، كنت أود تحريك يدي، لكني لم استطع، كل ما استطعت تحريكه هو رأسي رفعته قليلاً، ولم ألمح إلا ظلي، كان جالساً إلى جانبي، ثم وقـف فجـأة وركـض.

ركـض بعيداً عني.. حتى اختفى!

ركض بعيداً