فتحت النافذة، فاستقبلها نسيم البحر منسابا إلى أنفها. مر وقت طويل على آخر مرة جاءت فيها إلى منزل البحر. هنا كل شيء هاديء، أكثر ما يعجبها الهدأة التي تحيط بالمنطقة كلها. السور الأبيض والمزين برسومات هندسية باللون الأزرق الفاتح، تتماشى مع زرقة البحر والسماء التي تسبح فيها بهوادة غيمات صغيرة. كل شيء هاديء ويشبهها، على عكس المدينة المكتظة بالناس، والسيارات التي تتزايد أعدادها يوما بعد يوم. هي قررت قبل يومين أنها لن تعود لقيادة السيارة، حتى السيارة التي لطالما حلمت باقتنائها منذ مراهقتها ورف قلبها كلما لمحتها في الشارع صارت رؤيتها تصيبها بالانزعاج.
يسألها الجميع عن سبب خوفها اللامفهوم من قيادة السيارات. تعبت من الشرح ومن وصف ما ينتابها كلما جلست خلف المقود. لماذا حصلت على رخصة قيادة إذن؟ لماذا ابتعت هذه السيارة؟ لماذا لماذا لماذا؟ أسئلة كثيرة تليها محاولات في تشجيعها ودفعها للتجربة من جديد.
-والله السواقة حلوة.
-حلوة في نظركم لكنها توترني، أنا شخصية متوترة بطبيعتي، ولا ينقصني مصدر إضافي يزيدني توترا.
هو عندما وصفت له فيضان المشاعر الذي يبتلعها قال بعصبية: اذهبي إلى طبيب نفسي إذن.
كل الكلام الذي قيل لها من أشخاص مختلفين كان في كفة، والكلام الذي قاله هو في كفة أخرى.
كان حري بك أن تتفهمني، وتتفهم ما أمر به. لست كاملا ولديك الكثير من المشاكل التي تؤهلك لزيارة طبيب نفسي أنت أيضا! لكنني لا يمكن أن أقترح عليك اقتراحا قاسيا مثل هذا. لم يكن هذا ردها عليه، قالت الكلام لنفسها واكتفت بالصمت.
انتهت المكالمة الهاتفية بينهما سريعا، غضب لأنها صمتت وأنهى المكالمة. لو أعطاها فرصة كانت ستتحدث، مع هذا تعرف أن سبب غضبه الأساسي هو أنها قررت أنها لن تقود، مما يعني أنه سيحمل هم مشاويرها وسيضطر إلى البحث عن سائق يوظفه ويدفع له راتبا. هم إضافي على الهموم الكثيرة التي تقع على عاتقه. وكأنها هي خالية من الهموم. اتخذت قرارا آخر: لن تخبره عن مشاكلها وعما تشعر به بعد اليوم. في الأصل لن يهتم حين تخبره عن نوبات الهلع التي تنتابها كلما فكرت في أنها ستخرج في السيارة وحدها. ولا عن الليالي التي تعجز فيها عن النوم لأنها مضطرة لقيادة السيارة في اليوم التالي. سيفكر في أنها محاولة منها لجذب انتباهه الذي لم يعد موجها ناحيتها أو أنها هرمونات نسائية غير منضبطة أو مشاكل نفسية تحتاج مراجعة طبيب.
نظرت إلى الساعة وتوجهت ناحية غرفة الملابس وأخرجت حقيبة سفر صغيرة، وضعت فيها بضع قطع من الثياب ومنشفة وحذاء خفيفا وحقيبة صغيرة فيها مساحيق تجميل وواق من الشمس. وبحثت في هاتفها عن رقم سائقة التاكسي التي أوصلتها إلى المركز التجاري قبل أيام.
-هاي دير، آر يو فري؟
-يس مام
-أوكي بليز كم تو بيك مي، آي ول سند يو ذا لوكيشن
تأكدت من إغلاق النوافذ والأبواب وأطفأت الأنوار وخرجت تحمل حقيبتها الصغيرة.
ما زالت واقفة تتأمل المنظر الذي ملأ قلبها بالحبور، كان البحر ممتدا إلى مالا نهاية، والنوارس تصدح، أصوات أطفال يتضاحكون في مكان ما على الشاطيء دفعتها لكي تبتسم للمرة الأولى منذ الصباح.
سمعت هاتفها يرن وتذكرت أنها لم تخبره بأنها قررت أن تذهب إلى منزل البحر، وحدها.