في هذا الصباح.. قالت لي أمي: قم واذهب إلى عملك، وذهبت، خطواتي تبدو غريبة، خطواتي في مدينتي غريبة. الوقت نهار والزمن صيف… والصيف في أوله.. والمدينة خاوية.. حارة مقفرة، المدينة نظيفة.. أحجارها ناصعة البياض، شوارعها فسيحة.. أشجارها ظليلة.. ولكنها خالية صامتة.
في الفندق الذي تعودت أن أذهب إليه. رأيت العمال ينظفون الغرف وينشرون الماء في الشرفات ولا يستقبلون أحداً.. ورأيت المدينة تغسل نفسها من الصباح إلى المساء لتستقبل صمتاً جديداً.
«صمت المقابر والشوارع الحزينة، كأن وحشاً من حديد، ومن حجار سف
الحياة، فلا حياة من المساء إلى النهار». *
وكانت الأزقة حارة ورطبة. وخطواتي تفجر الأرض، والوقت ساعة الظهيرة.. وأنا أستدير إلى الجدار وأبي يقول لي: «قل التوبة» وأقول وحشرجة صوتي تسري عبر الجدار.. فيرتج صمت المدينة.. وينكسر حماس أبي في صدره المنتفض.. وتتراخى يداه… وينزلق السوط، ويسقط على صدر أمي وهي تنشج بالبكاء. في الفندق الذي تعودت أن أذهب إليه تتجمع صورة أمي المهشمة.. وتسترخي في الفنجان على حواف الكأس. ويمد أبي منقار النسر وينكش في الرأس.. يديرني للجدار، يقول لي (قل التوبة).. في حينها تنغلق الذاكرة وأبقى هكذا شبحاً معلقاً بين الحلم واليقظة، بعدما استمعت إلى فيروز وموجز الأنباء.. وأشعلت سيجارة.. ورشفت قهوتي.
قالت لي أمي: أذهب إلى عملك. وذهبت.
جلست على مكتبي.. نشرت أوراقي وما بقي من لوازم العمل. وما أن جلست حتى قالت لي زميلتي: إنك لم تتناول شيئاً أليس كذلك ولم تكمل حتى مدت يدها بلفافة: خبز «ساندويش».. تناولتها وقضمت للمرة الأولى.. وكانت تراقبني مبتسمة. قلت لها: هل تدربت على هذه الابتسامة من قبل؟ ثم تذكرت أن لا يليق التكلم مع امرأة بهذه الطريقة.. نسيت أن أكون لطيفاً معها، ونسيت لباقتي.
أمي تقول لي: لا تحدث النساء بهذه الطريقة الجافة.. كن لبقاً معهن. ولكن الكلمات قد سالت من فمي. كدت أن ابتلع اللقمة الثانية عندما تحركت دوائر الريح في حلقي.. فاستفرغت على التو.. واتسخت أوراقي. رأيتها تشمئز ثم تبتسم، وقلت لها: بردان.
لم أكن في حالة إغماء عندما دفعتها بعيداً عني.. وهي تحاول أن تمسح جبهتي، رائحة يدها ملوثة بالطعام وعطر لا أحبه، وقلت لها: آسف وخجلت منها. كنت منطرحاً على المقعد وهي واقفة أنا نائم وهي واقفة وقلت لها ابتعدي، ولكنها لم تستمع إلي.. دفعتها ومضيت وعندما التقيتها في المصعد ولأول مرة يضمني وامرأة مصعد.. كنت أحاول الابتعاد، وكانت تتعمد الاقتراب مني وكانت رائحة المصعد.. لا لم تكن رائحة المصعد، بل رائحتها هي.. كانت عاصفة أشبه بدوائر الريح تنزلق إلى أنفي ثم إلى حلقي.
وكانت المرأة بجانبي والمصعد أيضاً.. وكان المصعد أشبه بامرأة. المرأة تقترب مني وأنا أدفعها.. ضمتني إلى صدرها وقالت: إنه أبوك لقد مات.. واستفرغت.
قال أحدهم: فكوا الأزرار.. إلا أنني نهضت مسرعاً المصعد كان متسخاً وصدر المرأة ويدها أيضاً.
قلت لها آسف لا أستطيع أكل الساندويش.. إلا أنها أصرت، قضمتها ودخلت الرائحة إلى حلقي كدوائر الدخان.
قلت لأمي: لقد تقيأت على صدر المرأة نظرت لي بغضب وسكتت. كان أبي معلقاً على الحائط عيناه شاخصتان قالت أمي: مضى يصلي الفجر ولم يعد.. انتظره يعود، ولكنهم حملوه وقالوا: لقد مات.. كنت صغيراً.. لقد مات أبي، ترك المسجد ومات كانت النظارة بجانب السجادة حملوه وتركوا النظارة.. ترك السجادة وأسلم الروح..
قالت المرأة: تعال لا تذهب إلى هناك لقد مات أبوك. المرأة تمسح صدرها.. أنظر اليها والقيء تحت لساني وأقول لها: آسف. تبتسم وتقول لي: لا عليك.. تقول ذلك وتشمئز.. وكان خيط من السائل الأصفر على فستانها وكانت تتبعه اقتربت منها أريد أن أقول لها شيئاً إلا أنني تركتها ومضيت. رائحة صدرها تشبه رائحة اللبن الخاثر.. كانت المرأة تمسح على رأسي وتقول لي: أبوك مات، وأنا ابتسم وأقول: أبي مات.. مشى إلى المسجد ومات، على حافة الشارع ومات على حافة الشارع كانت المرأة تمشي وفستانها المتسخ بالقيء لاصق على صدرها.. قالت: هل ستأتي في الليل؟ قلت لها وهل ستحكي لي حكاية؟ قالت: سأقول لك (خروفة) وركضت عائداً إلى بيتنا، ولم أر أمي.. مات أبي وبقيت أمي مختبئة. قلت للمرأة، لماذا تختبئ أمي؟ قالت: كي لا يراها الرجال.. عندما يموت الأب تختبئ الأم.. ولماذا لم تختبئ من قبل كي لا يراها أبي؟ ضحكت المرأة وقالت لي: نم. كانت المرأة تتبعني تقتفي أثري، وركضت عائداً إلى البيت كانت الأزقة غائمة في سواد الليل والمطر يرشق المدينة، والمدينة تبتلع أصداء خطواتي.. والمرأة تمشي بخطوات ثابتة.. قلت لها لا أريد.. ولكنها جذبتني وضمتني إليها بقوة.. وكنت مبللاً.. ورائحة صدرها تشبه التخثر.. وتقيأت على صدرها، ضحكت المرأة بصوت يشبه الرعد.. أنا أصيح والمرأة تضحك.. والمدينة صامتة.
«يا صمت، یا صمت المقابر في شوارعها الحزينة.. أعوي، أصيح، أصيح في لهف فاسمع في السكينة.. ما تنشر الظلماء من ثلج وقار». *
أمي تقول لي: الليل ليس له عيون والمرأة فتحت عينها، وأبصرتني وعندما التقيتها على ناصية الشارع.. خطوتها كانت رشيقة، تمشي وأنا أمشي في إثرها، عبر الأزقة تتسارع خطواتنا، ولأول مرة اقتفي أثر امرأة قالت: لا تخف، لا يوجد أحد سوانا، وعندما ضبطتها تتلصص علي أطفأت الأنوار
ومشيت.
في الفندق الذي أذهب إليه.. جلسنا، جلست بجانبها، جلست مرتبكاً أتحاشى النظر إلى عينيها، قلت لها أعطيني سيجارة، كانت رطوبة فمها تشبه اللزوجة.. شعرت بالغثيان.. وقبل أن تفكر بشيء وقبل أن تقول شيئاً… أعطيتها ظهري ومضيت.
وعندما كان المصعد يتحرك، وصدر امرأة يعلو ويهبط، وعندما شعرت بدوار وانطرحت أرضاً، قلت لها لا أستطيع قالت حاول. قلت لها: أنا حزين.. أنظري لا أستطيع المشي الريح هي التي تحملني.. فتحت لها فمي وقلت: أنظري إلى تلك الدوائر، أنها تعقد «بلعومي» كان العرق يتفصد من وجهي مسحت المرأة جبيني واقتربت منها.. مددت يدي إلى صدرها.. إلى صدر المرأة قلت لها: كي أزيل عنك أثر القيء، فتحت المرأة ثوبها ولم تقل شيئاً، صارت اليد أكبر شهقت المرأة وكان جلدها صقيلاً.. وقلت لها لا أستطيع وانطرحت أرضاً. وعندما أفقت حملت حقيبتي ومضيت. قالت المرأة: إلى أين.. ولم أقل شيئاً.
وعندما سألني الرجل: ماذا تريد؟ قلت له أريد المرأة. شد على يدي وقال: على بركة الله يا ولدي.. قلت: لا لا لا أريدها.. غمزت لي أمي وسكت، صرخ الرجل: بنات الناس «مو لعبة» قفزت وتبعتني أمي. جاء صوتها معاتباً عبر أسلاك الهاتف، كان رقيقاً نقياً، قلت لها: أريدك هكذا.. لا أريد لعواطفي أن تهرب مني.. غضبت وأغلقت السماعة كنت أريد أن أقول لها: أنا حزين وأحس بإغماء.. كنت أريدها أن تقرأ لي قصيدة المطر.. وأقول لها أنا تعبان..
وتفرد أصابعها في شعري وأحس بذلك الإغماء الجميل. كانت بجانبي وكان السيّاب حاضراً وفيروز أيضاً.. صوتها يعلو المكان.. «لما بغني اسمك بشوف صوتي علي». وأقول لها إنها فيروز. صوتها يشبه المطر إنه يغسلني كصوتك عبر الهاتف.. تعالي نستمع إلى صوت المطر.. وكانت تضحك عبر الهاتف تضحك.. وعندما لم تأت.. وعندما أغلقت السماعة، لم أنتظرها لم أنتظر كثيراً… حملت السيّاب معي ومضيت.
إضاءة: المقاطع التي بين الأقواس للشاعر بدر شاكر السيّاب
تـوق