عبد الرضا السجواني

الخذلان

«سترون ما أنا فاعل، سأخلقها لكم خلقاً آخر…!»

ثم أردفَ:

«سترون ما أصنع بها، وأنا أبعثها لكم بعثاً جديداً. ستسيل بين جوانبها أودية الاستغراب! وأنتم إزاء جنة من النخيل والأعناب، والزيتون والرمان!!»

«وستندهشون من تهافت الناس والأهالي عليها تهافت الجراد. لاحتضانها بنظرات الإعجاب والذهول، في هذا التألق الوارف!».

شعّت هذه العبارات في ذهن «مرزوق»، وهو يطلق لفكره العنان متذكراً، ومسترجعاً شريطاً طويلاً من الوعود والمعاهدات، المذابة تحت هجير شمس الصيف المتلظية. وهو في وقفته الصاغرة، التي يسيل العرق فيها من جسده كله، وفي طياته الحزن مكتملاً، تندهش له الشمس مقطبة الجبين.

وهي كما هي، بل أكثر نزقاً مما كانت عليه في السابق من التدهور. وحفرٌ غائرة في جسدها، ممتلئة بمياه الأمطارِ. وحصى جبلي متسمر على جهة القلب منها. طال وقوفه قليلاً، فطافت على مخيلته صورة مرآها يوم أن وقف عليها مواعـداً (اليوم يومك يا أرض..) فلا تبتئسي.

جاءها وكله غبطة، يحمل في صدره فرحة طال انتظاره لها زرعت للأرض أملاً! وعلى ظهرها ينتشر نبات الحنظل، يزحف بتشعب، كخيوط عناكب تنسج بيوتها على الرمال.

ولكن، ومنذ أن خذله ابنه «عاصي» وهو لا يعرف بأي وجه يقابل الأرض به!

تنفس الصعداء، مالئاً رئتيه بالهواء، المتسمر بمحاذاة الأرض وعلى أديمها.. يشخص في اندهاش متواثب، تُسوره الكآبة في كل صورها!

في يومٍ ما:

وقف متوسطاً الأرض، متأملاً.. أو معايناً يحدوه الأمل: «اليوم، سنعقد اتفاقناً في تألقك. لتلبسي أبهى أثواب عرسك المخضرة، تتوزع عليها أنضر اللآلئ المتلونة، هذا هو يومنا الموعود».

أخذها في صدره، بنظراته المتقاطرة حناناً وعرفاناً، زارعاً في حياتها أملاً، ومستقبلاً أفق أحلامه بضياء لألاء يتدفق بالابتسام: «سيـصـل حبيبك «عاصي» اليوم، فأطلقي أجنحة سعادتك مرفرفة، فافرحي، وإن شئت فامرحي!». سحبٌ رابضة في ترصد، تضفي أحاسيسَ متلونة من الجمال ونسائم تدغدغ الجسد، فتبث فيه حيوية، فينز عن قشعريرة.

وشمس في غياب، مدونٍ لأكثر من يوم، بأعذار قد تجيزها السماء.

ودنيا جديدة مظلمة، قد تثير التوجس، فتستيقظه من تحت لحاف الأناة المتكاتف بأواصر هدأة المكان. والذي تتدثر به منطقة «البثنة» (1) المنكفئة في عالم وداعتها المعهود.

وأُمنية، هي مزيج من عذابات منتـفـضـة، ونبض يكمن في أحشائه، مشاعر ألم، لروح تروحُ وتغدو مترقبة، في تريث يرتدي الصبر منذ زمن.

 

  • البثنة: منطقة تابعة لإمارة الفجيرة.

 

أُمنية قد تصلبت عروقها في قلب «مرزوق». تلفيها تائهة بين الأحجار الجبلية، والجداول المنسابة في رقة، تُسبح لها العصافير بزقزقتها الدائمة. ويناجيها خرير الماء المتسلل من بين الأحجار متمنياً لها النور. في شتاءات عدة، أمطرت فيها السماء خيراً وفيراً، تنعمت به الأدواح، وارتوت الأرض متجشئة. وجرى ما زاد عن حاجتها منساباً على أديمها. وهامت عليها الدواب طربة، من أغنامٍ ونعاجٍ وجمال…، مستبشرة بالكلأ، الذي أخذ يبرز من تحت الأرض، مُضفياً حياة نضرة أخرى.

و«مرزوق» يكتوي بحسرته، فتنبعث منه تنهدات حرى، أثارت انتباه الجبال، فخافت عليه منها. وهو يرى أرضه.. زهرة قلبه وهي جرداء تلتحف بالخلاء الموحش، الذي يُطبِق السكون عليه بصدره. والأرض لا حيلة تحيكها، اتقاء من حرارة الشمس، وتدثراً من برودة الشتاء الصحراوي القارس. ولا من يذود عنها تلك الحشرات بالحيوانات الشرسة، التي لم تفتأ تصنع لها بيوتاً في جسدها. تحفر متخندقة في داخله. وتهيم لاعبة عليها إذا ما طاب المقام لها فوقها. أو إذا ما اشتدت الحرارة بداخل جحورها.

وصمتٌ ينزُّ عن خوف كريه، يحتل موقعاً له، يُطبق على أنفاس الأرض، الآخذة بالذوبان المتدرج، عن سيادة عتمة الجدب والنضوب.

 

وذهنُ «مرزوق» يسافر إلى البعيد، يمتطي الهواء، محلقاً في أُفق أيامه الأولى من شبابه، متصفحاً أوراق ذكرياتٍ، قد خُطّت على تلك الأحجار الصلدة، المترامية في عدة جهات من المنطقة. يوم أن كانت قوته في شدة تلك الأحجار وصمودها. وهو يزرع أرضاً له، يحرثها بإرادة لا تفتر. ثم ينثر بذوره متشققة الأرض ببزوغ نبت تلو نبت، يطل في بهاء.. فيأخذ في سقيها من البئر الوحيدة. وإذا ما قدم المطر، فهي تنتعش طرباً، فتأخذ في النمو بحبو متسارع، ولكن المطر اليوم يهطل في أنين، تمتزج به دموع مبرقة، يسكبها على الأرض الجرداء، فتتخلل الشقوق الغائرة. تسرد حكاية حزنٍ قد طال بقاؤه!

غير أن ابنهُ اليوم، ليس هو بالأمس! في انتعاش الأرض واخضرارها بساعديه، وفي عزيمته الفائرة. يحرث الأرض فيرويها بقطرات عرقه، وإذا ما انهمك أكثر، زادت القطرات من التساقط ثم يأتي يوم يستغرق في نوم هانئ، والأرض في أشجارها الشامخة، تفرش له بساطاً من خيراتها، ومما تجود به من فاكهة وخضروات لكنه، باعها مجبراً من قبل ذاته، وفي ألم قد شب في صدره بعدئذ. بعدما أغرته تلك الفتاة بجمالها الأخاذ، والتي أصبحت أماً لـ «عاصي» بعدئذ. باع الأرض ليتزوج بثمنها، وفي دواخله ذنب قد تولد، وأخذ يكبر ويكبر! وقد اتجه هو إلى ممارسة عمل آخر ليس لصيقاً بذاته.

أصابه الحماس، فنذر شباب «عاصي» للأرض، واهباً إياها من صميم قلبه. هكذا عاهد الأرض، منتظراً طوال السنوات الفائتة، ريثما ينتهي «عاصي» من دراسته. ليقدم وهو أكثر استعداداً لهذه المهمة، وفي عقله المستنير.

وقَدِمَ «عاصي» من الخارج، وهو يحمل بيده شهادته، وفي رأسه تكتنز عدة اتجاهات.. وانهمك في عمله الجديد في إحدى الدوائر… والتهى في وقته الإضافي، بعشقه المغرق بالمباريات… والمطاط المتكور…!

وعندما أعاد الأب على مسامع ابنه وللمرة الألف، مسؤوليته تجاه الأرض، وأمله في زراعتها أجاب في تهرب:

–  سآتي لك بخبير حاذق، وسترى صنيعه. إنه عالم في النباتات!

– لا أريد أن يمس الأرض أمثاله.

علّق الأب على كلام ابنه في احتجاج.

اعطهِ الفرصة يا أبي، واختبره مرة وسترى بعدئذ.

  • كثيرون قد سلموا أراضيهم للغرباء.. في حسن نية، وفي عدم اكتراث، فما ترعرعت الأرض وما تألقت! وتزايد إلحاح «عاصي»

لأبيه في اقتراحه الأخير، كَمُتَكٍ للفرار من هذا الحمل

إلى أن أذعنَ الأب مُجبراً، بعد أن عدّد «عاصي» مزايا الخبير، وعلمه الواسع في تحويل الأراضي، إلى جنانٍ خلابة.. ما رأت بمثلها عين!

وفي يوم، والوقت ضحى. وإذا بأطفال الجيران يتدافعون إليه وهو في مخدعه:

  • لقد جاء الخبير.. لقد جاء.
  • إنه يحمل حقيبة جميلة في يده.

استقبله «مرزوق» وهو فرحٌ. فلقد فُرجت أخيراً، وسينتزع عن الأرض معاناتها، ويضفي على وحشتها بهجة، تتغنى بها الأطيار صبح مساء.

فترة لم تطل كثيراً، والخبير «خان» منهمك في إجراء تجاربه على الأرض. يحفر فيها إلى عمق ما، ثم ينتقل إلى مكان آخر منها فيحتفر حفرة أُخرى أعمق، وهكذا، ويطلب تزويده بمواد معينة يُعفرُ بها أوصال الأرض، ويطليها ملهباً مشاعرها، ويضرب بالاستعانة بأشخاص لهم نفس هندامه، بمعاول قاسية في صدر الأرض وقلبها، وهي تئن وتنتفض..، ويسيل منها ما يسيل ويختلط بالتراب!

تراكمت الأيام بعشوائية، كتراكم الحصى بالرمال، المنتزعة من جسد الأرض المُئنْ، محاولاً «خان» في دهاء متخابث، إطالة مدة بقائه. إلا أن «مرزوق» سرعان ما يشتم رائحة العفن المختمر في رأس الخبير، فيقوم بإبعاده عن الأرض.

في خفة متهادئة، أخذ «مرزوق» يداعب الأرض برأس عصاه المهترئ، وهو ينظر إليها في استحياء مُغطى بكثير من أدثرة التأنيب. وفساد قد عم كل الجوانب والزوايا بكفي العبث.

والمطر في زخاته، كمن يبث تعازيه القلبية.. الدامعة. في كل قطرة تعانق سطح الأرض مخترقة فؤادها وأوردتها. فهل جاء مضمداً.. أو ساقياً..، بعد سكون نبضها …؟!

نوفمبر 1991 م.

الخذلان

عبد الرضا السجواني من المجموعة القصصة (الرفض)