«ادخلوا مساكنكم قبل أن تطأكم أقدامهم»
قالت ذلك وهي تتعجل الخطى نحو الداخل، شخصت أبصارهم وهم يتلقون هذا الإنذار الخطر، صاحوا في صوت واحد:
- ما الأمر؟
ردت في اقتضاب:
- لا أدري، وكررت ذلك مراراً.
وقع الجميع في حيرة من أمرها، وسادت لحظة سكون.. جاء صوت أحدهم ليكسر من حدة الوجوم والترقب..
- هل سنبقى طويلاً في الداخل؟ وهل سيتوقف عملنا؟ وماذا عن القوات؟
دارت تلك الأسئلة لتعصف بالرؤوس الصغيرة، تبحث عن أجوبة شافية..
في عتاب ممزوج بقلق.. قالت إحداهن:
- ها هي أحلامك يا أم صخر في طريقها إلى أن ترى النور، لقد بقيت طوال الأشهر السابقة تقصين علينا رؤياك المرعبة…
ردت أم صخر في صوت لا يخلو من نبرة متسائلة:
- أليس من حقكم عليّ أن أنقل ما أراه؟ الحيطة واجبة، والحذر مطلوب، هل أنا مخطئة؟ أفدنا يا شيخنا الجليل..
- أنت محقة، ولا لوم عليك.
ثم أكمل حديثه:
- سننظر في الأمر فلعل هناك خيراً.
والتفت إلى الخفير منادياً:
- أسرع وآتنا بالخبر اليقين. عجل في خطاك، تلطف، حتى لا يشعر بك أحد.
- أمرك يا شيخ.
انطلق خارجاً وغاب عن الأنظار.
بدأت الأشياء تكبر وتتسع… تقبل وتدبر، ومعها كبر الهم.. وضاق الحال بالشيخ ورفقته، وشعروا بوطأة الأمر وصعوبته، أطرق مفكراً، وقد أحس بالدنيا من حوله تضيق… وتضيق، والمكان يزداد كآبة ووحشة.. مرت الدقائق مسرعة لاهثة كمرور الموت الخاطف للأحياء…
أدرك ضرورة تجميع قواه ومن معه… وامتصاص الصدمة المؤلمة.
كانت لحظات صامتة، التزم خلالها الجميع أماكنهم.. وقافلة الليل تجري سراعاً، وسط خيط من سواد مظلم مخيف غطى وجه المدينة الغارقة في الذهول.
- ماذا يدور في الخارج؟
- أصوات… اهتزاز …
- ترى متى يعود الخفير؟
- تأخر كثيراً…
كثرت التساؤلات… وقطار الانتظار يشق دربه بلا هوادة مسرعاً في اتجاه أول محطة تستقبله، صفارة
الإنذار تعلو مقبلة نحوهم.
- سقطنا في الفخ..
- فخ؟!
أجاب وهو يرتجف.
- شيء مخيف.
- ماذا تقصد؟
- تكلم.
- أتقول الحقيقة؟
- ……………………..
- ماذا تقول؟
- ………………………..
- لا، لا يمكن أن يحدث هذا.
- إنك تلعب بأعصابنا.
لزم الصمت برهة، وسرح بعيداً…. ثم تكلم مـتـابـعـاً حديثه:
- ليت الساعة تقوم…
- …. الساعة؟
- نعم الساعة…. بل القيامة.
- ها هي أحلامكم تحتضر، تسقط مصروعة في قاع نفوسكم المخدوعة، بانتصارات موهومة… لتصلب في فضاءات مشحونة بشرارات قاتلة تكوي روحكم المسلوبة.
- كفى، حسبك ذلك……….
- إنهم يتدفقون نحونا، لا أستطيع وصف ما رأيت… لقد غص حلقه بالكلمات… كان يرتعد خوفاً، فقد تملكه جزع عظيم، جلس منزوياً تتصاعد أنفاسه وتهبط، تدفق سيل الاستفسارات المتلاحقة من كل الأفواه…..
- دعوه يسترد أنفاسه.
- اتركوه يهدأ.
- لا داعي للقلق.
امتثلوا جميعاً لطلب الشيخ، وما أن استقر به الحال وهدأت نفسه حتى اعتدل في جلسته، وشعر بشيء من الاطمئنان، إلا أن نبرة صوته جاءت لتكشف عما بداخله من اضطراب وخوف.
كان الصبح قد أخذ يزحف بطيئاً ثقيلاً، وهو يرسل ومضات من نور خافت واهن للوجوه المرتقبة الحذرة… قال في لهجة لا تخلو من قلق:
- عليكم بالسكينة… وجهوا دعواتكم للسماء… لا تتحركوا إلزموا أماكنكم… دعوني أستطلع الأمر بنفسي.
خرج دون انتظار إجابة، وقد شيعته نظراتهم الوجلة… غاب الشيخ طويلاً، وامتدت الساعات ثقيلة عصيبة، وقد أخذت الأصوات في الخارج تزداد ارتفاعاً وضجيجاً، فإذا بالقلوب تخفق، والأرض تهتز… والسماء ترسل إشارات الخطر، والدخان الكثيف يعلو ليغطي سماء المدينة.
- من يذهب في أثر الشيخ؟
- من يجرؤ على ذلك؟
- الحصار محكم…
سَنُدَكُّ تحت أقدامهم… ولن نرى النور فيما بعد.
ودار النقاش طويلاً، واحتدم الكلام، اكتوت الصدور بحرارة انتظار عودة الشيخ المهيب.
***
الشارقة ۱۹۹۱م
أحزان ليل
شيخة الناخي .. من المجموعة القصصية (رياح الشمال)