عندما وقعت عيناي عليها شعرت بالريبة. كنت دائماً أتوجّس من ذوات المخالب والأنياب. شعوري ناحية هذه الكائنات يرتبط بذكريات ماضية، لكنّها أصرت على إبقائها معنا في البيت. أختي الصغيرة سلمى توسّلت إليّ كثيراً عندما أبديت رفضي. طلبت من أمّي أن تتحالف معها. بالطبع كانت سلمى الصغيرة في البيت، ولها الحقّ في أن تتدلّل.
بلسان طيّب وقلب رحيم قالت أمي:
– هذه قطّة أليفة لا خوف منها، وهي ليست نجسة، الكلاب هي النجسة، أمّا هذه فلا خوف منها.
وجدت نفسي حيال طرفين عنيدين، لكنّني لم أبد موافقتي، هززت رأسي، وقلت:
– هذه جريمة ترتكبانها في حقّ البيت وأهله، وسوف أبلغ والدي عند عودته.
ابتسمت أمي، وغمزت لسلمى، وكأنها تريد أن تقول: لا عليك منه، فوالدك يستنكر الأمر. كنت شاكّاً في الأمر، فوالدي يكره القطط ليس لأنّها ذات مخالب، وإنّما هو يكرهها لأنّها قذرة، تأكل الفئران والحشرات الأخرى. إذاً، موقفه سيكون سلبيّاً معهما. لن يتوانى عن الرفض واستنكار وجود القطّة في البيت. رأي أبي هو الأمل. موقفه سيحسم الأمر. صوتان مقابل صوتين، وأمي لن تستطيع قمع صوتي طالما اقتنع أبي برأيي. كنت قلقاً متحفزاً لطرح القضية، حتّى لو رفض أبي سوف أناضل من أجل أن ينتصر رأيي. هذه القطّة يجب أن ترحل من بيتنا، عيونها تشي بشرٍّ مبيّت، مخالبها الحادّة أشعر وكأنّها تنغرس في عنقي. وقفت أمام أبي وكانت أعصابي مشدودة، أمّي وأختي تتأهّبان للردّ، الانتفاض، تحويل القضيّة على أنّها مسألة بسيطة لا تستحقّ كلّ هذا التوتر. بالفعل تدخّلت أمّي. لم تدعني أكمل حديثي لوالدي. أخذته في جانب منفرد، قصّت عليه القصّة، وعاد أبي مبتسماً، هزّ رأسه..
– هذه القطّة صغيرة، ولم يقترب فمها من فأر أو حشرة، نظيفة، وما زالت أسنانها غضّة..
سردت المبرّرات..
– سلمى صغيرة، ووحيدة بحاجة إلى شيء تلعب معه، هذه القطّة ستكون أنيساً لها..
ربّت على كتفي..
– لا تجزع، عندما تكبر القطّة سنطردها من البيت. أنا أيضاً لا أحبّ القطط لكن الكبار منها.
تعقّدت المسألة، وصرت طرفاً يواجه ثلاثة أطراف، أبي فصل في القضيّة، ولم يدع لي مجالاً للمعارضة، لكنّه لم يستطيع انتزاع موقفي. مكثت هكذا والقطّة ذات المخالب الهاجس الوحيد الذي يشغل ذهني، أفكّر في أمرها وحال البيت كيف سيكون عندما يشتدّ ساعدها، وتستحوذ على رضا الجميع.
صارت سلمى تقدّم لها الطعام بيدها، وتحمّمها في حمّام المنزل الوحيد، وتنام معها على فراش واحد. أغاظني هذا السلوك، شعرت بالامتعاض والتقزّز. شكوت الأمر لأمّي، ولم تعرني انتباهاً، بل قالت:
– ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء..
رفعت شكواي إلى أبي، وكان ردّه أشد فتوراً، قال لي:
– طالما هي لا تعضّ ولا تلمس القاذورات فلا داعي للقلق، دع البنت تتسلّى بها وتفرح معها.
مكثت القطة في البيت، تتمرّغ على فراش أختي، وتشاركنا الطعام والشراب. كبرت القطّة. وذات يوم وجدتها خارجة من أسفل سرير أختي، لمحت بطنها وقد بدا على غير عادته في الأيّام السابقة، كرشها مندلق وكأنّه مصاب بورم. سألت سلمى عن السبب، فأجابت في لهجة فرحة:
– قطّتي في شهرها الأخير، بعد أيّام سوف تقدّم للأسرة أبطالاً صغاراً..
دهشت لأمر سلمى، وسرّ انشراحها لهذا النبأ المفجع. قلت في سخرية:
– وماذا ستفعلين بالأبطال؟ هل ستجنّدينهم في خدمة الوطن؟
امتعضت من سخريتي. قالت في حدّة:
– وما ضرّك أنت بالقطّة ومن ستخلّفهم؟ ألم يبتّ أبي في الأمر؟
تذكّرت كلام أبي.. تذكّرت، فبادرت بالسؤال:
– وهل ستطردين القطّة الكبيرة لتحتفظي بالصغار؟
أجابت في سرور:
– أجل، سوف أرعاهم كما فعلت مع أمّهم إلى أن يكبروا ويتوالدوا.. وهكذا.
قلت:
– هذا يعني أنّك فتحت جمعيّة للرفق بالحيوان في هذا البيت، وينقصك الآن أن تعلٍّقي شعاراً عريضاً على باب المنزل، أليس كذلك؟
صاحت بي زاجرة، مهدّدة:
– لا تسخر منّي، وإلا فسوف أخبر أبي.
أجل ستخبر أباها، وسوف يقف في صفّها ضدّي، كما فعل في الماضي. القطّة أصبحت فرداً من أفراد الأسرة، وكلّ ما يحيق بها من ضرر، يعتبر ضرراً بالأسرة.. هكذا أرادت سلمى أن تفهمني..
في صباح يوم مشؤوم خرجت القطّة ساحبة خلفها أربع قطط صغيرة تزحف في فناء المنزل كالجيش الغازي، أمّهم تبحث عن طعام، وصوت المواء يملأ أرجاء المنزل. لم أستطع الوقوف مكتوف اليدين، تجاسرت، تقدّمت نحوهم، شعرت بقوّة عنيفة تدفعني ناحية أحدهم، أمسكت به، وفي لمح البصر وجدت يديّ الممدودتين بين فكّي القطة. سحبت يدي. كان الدم يتدفّق من يدي كالنهر، اشتدّ حنقي، أمسكت بنعالي، قذفت به القطّة، هربت، وقبل أن أستردّ أنفاسي وجدت يد أمّي مطبقة على زندي، تهزّني بعنف، ترشقني بالسباب..
– ماذا فعلت بالقطّة المسكينة؟ أنت إنسان مشاغب، لماذا تعبث بالصغار؟ سوف أعلم والدك بالأمر..
وكانت سلمى تصيح بصوت وئيد، تجري في زوايا المنزل، تبحث عن القطّة الهاربة، وسبابها يلاحق أذني، ركضت نحو صندوق الأدوية ركضاً، أخذت زجاجة المايكركروم، داويت الجرح، ربطته، وكلّما وخزني ألم الجرح صرخت:
– سوف تندمن على هذه القطّة، القطّة ستكون نذير شؤم في هذا البيت..
ابتسمت أمّي هزءاً بكلامي، وقالت سلمى:
– هذه قطّتي ولا أريد أحداً أن يتدخّل في شؤونها، إذا أردت السلامة فلا تلمسها.
شعرت بالألم، أنا واحد من أفراد هذه الأسرة، أرى الخطر أمام عيني فلا أستطيع السكوت، ضميري لا يساعدني على الصمت، هؤلاء يرون الأشياء بأفق ضيّق، عيونهم لا ترى أبعد من مكان أخمص القدمين، سوف أناضل حتّى أكشف الحقيقة. هذه القطّة اللعينة يجب أن ترحل عن البيت، لا مكان لها في وسطنا.
عندما وصل الخبر إلى والدي وجاء ليؤنّبني، قضى وقتاً طويلاً وهو يسرد الحكم ناصحاً واعظاً. لم ألتفت لحديثه، ما كان يقوله محض عاطفة خادعة، تقترب من المنطق. بعد أيّام كبرت القطط، وانتشرت في المنزل، صارت تصول وتجول في المنزل كأيّ فرد من أفراد الأسرة. وكلّ ما يحويه المنزل أصبح حقّاً مشروعاً لا تنازع عليه القطط، تدخل المنزل، تشاطرنا الطعام، تأكل كلّ لذيذ وغالٍ، وأمّي لا تردّ نفساً، وفي أوقات كثيرة عند عودتي من خارج المنزل متأخّراً، أجد أنّ الطعام المخصّص لي قد نفد. كانت أمّي تشعر بالضيق حيالي، لكنّها لا تبدي هذا مباشرة، فهي لا تريد أن تتراجع عن قرار اتّخذته، وعندما أحتجّ تعدني في الوجبة التالية على أنّها ستوفّر لي أضعاف ما خسرته، لكنّ الأمر بدأ يتكرر فشكوت الحال لأبي، فكان يوصي أمّي بألا تتكرّر هذه المسألة.
ومرّت الأيّام، فكان أبي يعود من العمل ولا يجد ما يأكله، فثار غضبه، وأصبح يملأ البيت زعيقاً ورفضاً لهذا التصرّف، حتّى إنّ أمي عانت من نفس الأمر، وكذلك سلمى. أصبحت القطط المالك الحقيقيّ لزاد الأسرة، أمّا نحن فكنّا نتلقّف النفايات، وأحياناً لا نجدها، ففي كلّ شبر من البيت نجد قطّة تنام أو تأكل أو تتبوّل، فثار أبي، ثمّ أمّي، وتلتهما سلمى، لكنّ الأمر أصبح مستحيلاً، فالقطط الصغيرة التي كنت أستسهل مقاومتها، أصبحت وحوشاً ضارية لا يجسر أحد على مواجهتها. حينها قلت للجميع:
– ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.