حرّ شديد، رطوبة خانقة، ولا نسمة هواء، لا أحد جاء في هذا الصباح الرطب ليستغل العبرة، الخور صامت، تماماً في هذا اليوم القائظ، لا طير نورس يعبر ماء الخور، التيار وحده يسحب الأخشاب الطافية في حركة مستمرة، من مدخل الرأس إلى نهاية امتداد الخور، حيث يكون الخور بحيرة هادئة وراكدة ومحاطة بأشجار القرم ، تمتد بعد ذلك سباخ طويلة، تعبرها الجمال إلى أشجار الغاف والأعشاب البرية، حيث بداية الرمال الصحراوية.
صرخ خميس بن رباع، ما هذا اليوم الصامت اللزج، ما هذه الرطوبة والحرارة العالية.
قال بلهجته المعبرة عن حالة هذا اليوم المتعب .
شو هذا، فاطس ( بانيان )
رد عليه أصدقاء العبّارة الذين يشاطرونه الهم والتعب والعمل والذين أتعبهم انتظار الركاب الذين يستغلون العبرة من بر دبي إلى ديرة وبالعكس، حتى البانيان هذا العام لم يفطس، لقد انقطع كل شيء في هذا القيظ الشديد.
قال آخر:
ادعوا الله بالتوفيق، وبعد أن استغفر الله أن يمده بالصحة والعافية، والرزق الحلال مرّ يومهم كما كان،اعداد قليلة من الركاب عبرو إلى الضفة الأخرى من الخور، وبنفس العدد تقريباً عبر ركاب إلى الجهة المعاكسة. في المساء ربط العبّارة عبراتهم على حافة الخور وساروا في تكاسل إلى منازلهم ودعوا الله طلب أن يكون غدهم خيراً من يومهم هذا .
في الصباح التالي، حضر أصحاب العبرات في الصباح الباكر، أعدوا عبراتهم للعمل، وهالهم تجمع أعداد كبيرة من الهنود على حافة الخور وهم في حالة من الحزن والبكاء ونحيب حزين تطلقة السيدات ، بينما أسرع بعض الهنود إلى العبارة يطلبون حجز العبرات كلها لخاصتهم .
وبخبرة أصحاب العبرات القدامى الذين عاشوا حياة الخور والعمل فيه ، خمنوا أن حدثاً غير عادي أصاب طائفة البانيان، ولقد أكد ذلك النفر الذي جاء لتأجير العبرات جميعاً.
قال :
مات التاجر ( ترسيه) وأكبر المعمرين من طائفة البانيان، لقد أتعبه المرض ولم يستطع أن يسافر إلى بلدة الهند، حيث داهمه المرض بعد أن رحل آخر مركب غادر دبي قبل أسبوع.
فرح البحارة بيوم العمل هذا، حيث علمتهم تجاربهم القديمة ، أن موت البانيان يعني عمل عملاً طويلاً ودخلاً كثيراً، فهم سوف ينقلون أعداداً كبيرة من الهنود البانيان إلى نهاية الخور، حيث تعد هناك مراسم حرق جثة البانيان، سوف يحملون الكثير من الأخشاب لحرق الجثة، والكثير من الأدوات والمعدات التي تدخل في مراسم الجنازة وأيضاً أعداداً من الركاب المعزين في موت البانيان، ذهاباً وعودة، أما المحظوظ وصاحب الدخل الكبير ، هو ذلك العبار الذي سوف يحمل جثة البانيان في عبرته.
عاين الهندي العبرات جميعاً، اختار العبرة الجديدة والمعدة بصورة أفضل عن غيرها من العبرات، كانت عبرة العبار صنقور سبت، ركب معه المؤجر الهندي وجدف في فرح إلى سوق البانيان الذي لا يبعد كثيراً عن مرسى العبرات في بر دبي. لقد أعدت الجثة بعناية، حملوها إلى العبرة مشفوعة بكميات من عطور الورد الصندل والياسمين، وأيضاً كميات كبيرة من خشب العود وهي الكمية التي سوف تطرح على الجثة عند حرقها.
سارت العبارات في طابور طويل إلى نهاية الخور، وصلت في المقدمة العبرات التي حملت الأخشاب والمواد التأمينية ومعدات حرق الجثة، سريعاً أعدت مصطبة عالية، بينما وصلت العبرة التي تحمل جثة البانيان متأخرة عن سائر العبرات، حيث إن المرافقين للجثة طلبوا من العبار صنقور سبت أن لا يستعجل في التجديف، وأن تسير العبرة الهوينا بالمتوفى الكبير، حيث لديه متسع من الوقت، ما زال الذين تقدموا الركب يعدون للنار ويزيدون الأخشاب حتى تصبح ناراً حامية وكبيرة يمكنها التهام البانيان (ترسيه) سريعاً.عندما وصلت عبرة الجثة استقبلها المعزون بالبكاء والحزن الشديد، حملوها إلى المسطبة الخشبية المعدة للحريق، رشوها بالعطور المختلفة، وضعوا اعداداً كبيرة من خشب العود فوق الجثة، عندما اكتملت مراسم الحرق حمل أهم عنصر في عائلة المتوفى مشعل النار الملتهب وأوقد النار في الحطب، اشتعلت النار سريعاً وصعد عمود نار إلى السماء مصحوباً بدخان الكاز، كانت كتلة كبيرة من اللهب أخذت ترعى وتنهش الجثة، تحلّق حولها أعداد كبيرة من الهنود البانيان، حتى أرمدت، نثروا رماد الجثة في الهواء وعادوا أدراجهم في صمت إلى العبرات المنتظره، حملتهم إلى حيث بدأت الرحلة على ضفاف خور دبي ثم تفرقوا في السكيك الضيقة في المنطقة على ضفة سوق البانيان، فرح العبارة بالمكاسب الكثيرة التي حصلوا عليها في هذا اليوم الذي مات فيه البانيان، حيث كانت الأجرة كبيرة تغني عن عمل عدة أيام قادمة، وأيضاً أعداد كبيرة من خشب العود ودهن العود والصندل التي غنمها العبار صنقور بن سبت والتي وزع بعضها على رفاقه العبارة ….
تفرق العبارة : وكلّ أخذ طريقه إلى منطقته التي جاء منها منذ الفجر، ولأول مرة يسيرون بفرح من كدّ وعمل هذا اليوم الذي أفرج الله عليهم بالرزق بعد أيام عصيبة قل فيها مدخولهم، حيث إن الحرارة الشديدة والرطوبة العالية جعلت الناس لا تفارق دورها ولا تغادر أماكنها الظليلة، إلا تحت الظروف الصعبة، حيث لا أحد يعبر من بر دبي إلى ديرة أو العكس إلا تحت الحاجة وضرورة العمل، لذلك تقلصت عملية العبور، اليوم فقط يشعر العبارة أنهم عوضوا أياماً مضت، لذلك ساروا في خطوات مريحة ومفرحة عائدين بالدخل الوفير إلى بيوتهم
كانت خطواتهم هادئة مطمئنة على رزق أيام قادمة لهذا عبروا السكيك والطرق بصورة الفاحص والمتأمل لطرقهم القديمة التي كانوا يعبرونها سريعاً وتحت ضوء خافت أما عند إطلالة الفجر والصباح الباكر أو بعد غياب الشمس والظلام المتسلل سريعاً، خاصة في الطرقات القديمة الضيقة، والممرات الصغيرة بين المنازل والمخازن القديمة التي تنبعث منها روائح عجيبة، أما رائحة التمر المخزون في تلك الغرف العتيقة أو روائح الأدوية الشعبية التي يحفظها الباعة في دكاكين كبيرة متلاصقة ومتراصة مع مخازن كبيرة تحفظ فيها أكوام كبيرة من أسماك العومة /السردين والغليون أو زعانف أسماك القرش التي تحمل خارج دبي لدول في الشرق كثيرة.
الآن فقط يتفحض هؤلاء العبارة طريقهم بدقة وتفكّر في حياة المدينة القديمة .
صنقور بن سبت كان ممتلئاً بالحيوية والحبور بعد أن حصل على مردود جيد ورزق كبير وغنم كميات من البخور والعود وأشياء كثيرة لا حاجة له فيها ولا يستخدمها وهي خاصة بالهنود وحياتهم اليومية أو ممارسة طقوسهم ولا تصلح في حاجيات العربي في المدينة، قطع الطريق من تجمع العبرات وسار عبر السوق، تجاوز سوق الأدوية وعرج سيراً مع السكيك الضيقة حتى دخل منطقة سكة الخيل عاين بعض الحوانيت العتيقة التي تحتوي على بعض الأقمشة قام بشراء ما يحتاجه للأطفال والعائلة، مرَّ على بائع الحلوى العمانية وأخذ طاسة كبيرة من الحلوى ثم عبر الطرقات التي توصله إلى فريج المرر هناك صادف الكثير من أبناء الحي الذي يقطنه قدم التحيات والسلام بفرحة العائد غانماً وكاسباً شيئاً ثميناً. في ذلك اليوم البهيج كانت المنازل من المباني العتيقة المبنية من حجارة البحر وبعضها دخل إليه الطابوق الذي للتو يعمل به في المدينة وبعض البيوت من سعف النخيل والآخر تجمع بين غرفة من الحجارة والكثير من خيام سعف النخيل والصنادق الخشبية، على الرغم من أن منطقة ديرة لم تزل تحبو إلى المدنية التي تودع للتو البناء العتيق، ولكن صنقور بن سبت يراها نجمة زاهية وعروساً على الرغم من صعوبة الحياة وقلة العمل فيها بعد أن هجر حياة البحر وصراع الأمواج والصيد أو صراع الإبحار نحو المراكب الكبيرة التي تأتي محملة بالركاب العابرين من موانئ الخليج العربي والهند وصعوبة الإبحار إلى مركب سفار كبير يرسو بعيداً عن المدينة وليس بالسهل التجديف أو الإبحار إلى هناك، حيث يحتاج لقوة الشباب وهي التي غادرت صنقور منذ زمن ولم تعد لديه مقدرة غير التجديف في الخور، حيث المياه الهادئة والخفيفة، أما العبار فرج سالم فعاد يعبر من الرأس إلى المرسى المقابل في بر دبي ربط عبرته بتأنٍ وسار عبر السوق القديم، مرّ على باعة الأدوية الشعبية الذين بادلوه التحية، دخل سوق الظلام القديمة، حيث تكتظ الدكاكين على الطرفين وتتم تغطية ما بين هذه الدكاكين بأخشاب وجريد النخل حتى تطرح ظلالاً يحتمي بها المارة والسائرون عبر السوق من حرارة الشمس، أخذ طريقه إلى سوق البانيان الذي أغلق أبوابه وعبر السكيك الضيقة إلى منطقة مكاتب الحكومة ثم عبر منطقة الفهيدي في سير هادئ، متجاوزاً مقبرة أم هرير ودلف إلى منطقته، وأمام مشاهدة الخور الذي تفصله عن المساكن منطقة سباخ يملأها ماء المطر أو فيضان الخور في الأيام التي تعصف فيها رياح الشمال ويندفع البحر إلى أن يصل إلى منازلهم.
نشر البشارة ، لأهله وأولاده بأن رزق اليوم كان وافراً وأنه سوف يلزم المنزل طوال هذا اليوم للراحة والسمر معهم .
أما خميس بن عتيق فإنه سار معاكساً لرفيقه فرج بن سالم قاطعاً منطقة العبرات في بر دبي وميمماً جهة الغرب عبر منازل عتيقة بعد السوق ثم دخل، منطقة الغبيبة وعبر جنوباً إلى منطقة الرفاعة.
سار محاذياً لأشجار العسبج وجدار المقبرة القديمة ، قطع الرمال بصعوبة حتى منطقة بداية بساتين النخيل وصل إلى الحي الذي يقطنه فرحاً ومزهواً بيومه وبحظه الجميل ، حيث حصل على رزق يوم ظن أنه يوم رديء ممتلئ بالحرارة والرطوبة، كان يحمل معه مجداف عبرته الذي يحتاج إلى تجديد حباله وصيانته بعد أن اهترت تلك الحبال القديمة وقرر هو الآخر أن لا يغادر منزله وأن يكرس ذلك اليوم لأهله وأطفاله وتجهيز ما تحتاج إليه عبرته من مجاديف جديدة.
مضى ذلك اليوم مع حرارته ورطوبته وتعب تجديف البحارة حاملين جثة بانيان للحرق وأفواجاً من الهنود المودعة للميت العزيز عليهم ، كان يوماً متعباً للجميع رطباً ولزجاً مملوءاً بالعرق والدخان وعويل الناس تحرق ميتها ليسعد في آخرته، ولكن ذلك التعب تحوّل إلى رزق جديد عند العبارة الذين صدقت عبارتهم: موت لهذا حياة لذلك …
* قاص من الإمارات