فتحت عهود مندوس جدتها بعد وفاتها بأربع سنوات. ورثت هذا الصندوق فقط لا غير، وأصرَّت يوم توزيع التركة أنها لا تريد شيئاً غير هذا المندوس بما فيه من مقتنيات جدتها عوشة. وجدته كما تركته قبل أربع سنوات، محملاً برائحة العود التي بقيت عالقة في مخور الجدة، وفي شيلة صلاتها، وبرقعها.
بينما دفنت عهود وجهها في قطعة قماطٍ بيضاء قاطعها صوت زوجها:
– وأخيراً سأرى ما بداخل هذا الصندوق!
– حاكت جدتي هذا القماط لطفلنا الأول، لم يتسنّ لها حتى رؤيته.
وضع يده على بطنها المستدير.
– دعواتها معنا، وهي التي حمت طفلنا هذا إلى هذا اليوم.
– انظر، حاكت حرف العين على زاوية القماط.
– ههه، هل كانت تتوقع أن نسمي الطفل عوشة إذا كانت فتاة؟
– أتذكر اليوم الذي نادتني فيه إلى غرفتها، وطلبت مني تحديد حرف العين على القماش الأبيض بالحبر لتتمكَّن من الخياطة فوقه. سألتها نفس السؤال فأجابت أن الطفل الأول يجب أن يسمى على اسم أحد كبار العائلة، كانت تزعم أن هذا يزيد من بركة الكبار في البيت. وبما أن جميع أسماء والدينا تبدأ بحرف العين بمحض المصادفة.
– آه، فهمت، ولكن صدقيني هي كانت تلمّح لاسمها، ههه.
– ههه، أعلم ذلك. جدتي كانت مليئة بهذه الكذبات البيضاء اللطيفة، دائماً ما تقول لنا شيئاً بينما تلمح لآخر.
– ما هذه الأشرطة؟
– احتفظت جدتي بأشرطة الكاسيت هذه لسنوات. كانت كبيرة العائلة، وكانت أول من تزوج من أخواتها. وانتقلت عائلة والدتها إلى البحرين بعد سنتين من زواجها بعد حصول أخيها على عمل مستقر هناك في الخمسينات.
– وكان يرسلون لها أشرطة أغانٍ؟
– لا!! لم تتعلم جدتي الكتابة والقراءة، ولا أمها، لذا كانوا يتراسلون عن طريق الأشرطة المسموعة. كانت تسجل جدتي صوتها باستخدام المسجل الصوتي القديم هذا، وتطلب من جدي إرساله مع أي شخص ذاهب إلى البحرين من معارفنا، وترجع لها أشرطة من هناك بنفس الطريقة.
– احتفظت بالمسجل الصوتي كذلك!
– إيه نعم، كانت أول هدية لها من جدي، يرحمه الله.
– هل تتوقعين أن الأشرطة والمسجل لا تزال تعمل؟
– لنجرب!
استخرج سالم سلك المسجل والجهاز من المندوس، واختارت عهود أحد الأشرطة لتضعه في خانة الكاسيت، وضغطت على زر التشغيل. بعد إصدار عدة أصوات مزعجة توحي بقدم الأشرطة بدأ صوت جدتها يتضح شيئاً فشيئاً:
– كيف حالك أمي؟ ………. وكيف حال أبوي؟ كيف … د… حميد؟ عنده وقت يرجع يتغدا والا ما تشوفونه إلا … الليل؟
…… أنا الحمد لله بخير، سميناه محمد وان شاء الله ربي يرزقه صبر و… أبويه.
أضافت عهود:
– تتكلم عن عمي محمد، ثاني أبنائها، يعني أنها لم ترسل هذا الكاسيت إلا بعد 5 أو 6 سنوات من انتقال أهلها للبحرين.
– الشريط فيه الكثير من التشويش، لا بد أنهم كانوا يعيدون التسجيل على نفس الأشرطة عدة مرات.
– أكيد، وهذا كل ما بقي من هذا الشريط. آه صوتها يرد الروح.
أخرجت عهود الكاسيت، وأدخلت الجهة الأخرى منه في الجهاز لتسمعه. خرج صوتٌ عميق به الكثير من الحشرجة.
– هذا صوت أمها، والأصوات في الخلف هذه أصوات إخوتها.
– كأنهم يغنون؟
– أغاني ليلة الحناء، أكيد سجلوا لها أصوات ليلة حنة خالتي، كانت يدوه عوشة في النفاس، ولم تستطع الذهاب.
خشخش الشريط حناجر النساء قبل أن يعلن استسلامه الأخير.
– لنجرب شريطاً آخر.
هكذا أمضت عهود بقية أشهر حملها وهي تسمع هذه الأشرطة، وتعرف طفلها على أصوات كل الرجال والنساء الأقوياء الذين لن يتسنى لطفلها مقابلتهم. مع كل شريط أحست بوخز في قلبها، كيف تكيفت جدتها مع فراق الأماكن؟ وتساءلت إن كان هذا هو الشعور ذاته الذي تشعر به الآن بفراق الأزمنة. الشوق هو ذاته، والبعد هو العدو الوحيد.