(الحياة ليست مثاليّة لكن شعرك يمكن أن يكون ذلك)
لا أدري أين وقعت عيناي على هذه العبارة، ولكنني أجدها تترجم شاعرية أسطورة مشط أمّي..!
أراه هناك شامخاً متربعاً على قمّة رفّ عائم من زاوية غرفة نومها، مائلاً بغرور على مسندة بزوايا ذهبية بارزة، وإلى جانبه مرآة كبيرة مثبّتة في الجدار، وإلى أسفلها تسريحة بسيطة بأدراج مزدوجة، لا يسعك إلا النظر إليه بخجل في خلسة ولهفة كلّما سنحت لك الفرصة. فارس هندسي غريب معقوف إلى الداخل، أسنانه حديدية واسعة متفرّقة، مثاليّ وممتلئ بالكمال.. كان له حرمة الوصال من لمسه أو تحريكه!!
*
أمي امرأة قوية لا تتصف قراراتها بالعشوائية. وجهها شاحب تكسوه بعض الرقة، ونظراتها دائماً ما يتطاير منها الشرر. لا أعلم، ولكن يبدو أن هناك لحظات صفاء تسري في عروقها، ويسكن السلام روحها، عندما ترفعه من غمده بخفّة، وتتلمسه للحظات كسيف ساموراي، ثم تربته بانحناءة دافئة من أعلى الرفّ بانسيابية نحّات منهمك. كان الفضول يبلغ بي قمّته منذ طفولتي الباكرة…! إذ يبدو أن هناك قواعد وأصولاً لابد من اتباعها لتحقيق الهدف المرجوّ من يومها! تجلس في وضعية الفراشة، وكأنها على موعد غرامي مع هذا المشط، تعلوها ابتسامة منخفضة تبرز لمعان خدها العنيد، فعندما تمرر يدها على رأسها يظهر صورتها الجانبية كظلال لوجهها بانعكاس لون المشط البرونزي اللامع، تستحضره كرقصة تانغو محرمة. تريح شعرها على فخذها بالمشط الذي نقع بالمخمرية الملكية المزهوة بالقرنفل وزيت السمسم وحبة البركة.. نعم، تماماً كما أقول لكم.. مزيج منقوع مسبقاً يليق بعظمة وحضرة هذه الأسطورة! بداية تخرمش أسنانه فروة رأسها مخرجاً حشرجة مختنقة، وكأنه مصاب بإنفلونزا حادة. تقرأ عليه المعوذات مختومة بالكرسي والفاتحة. مع كل ضفيرة تنسل من يديها، كنت أحس بصرير يتعب لي أذنيّ، ولكنني أسمع تمتمة تخبرها بعد فكّ كل تشابك:
– لن يكون هناك قلق بعد الآن يا أميرتي، خذي بطول شعرك ووجهيني إلى نهايته بدقة السهم للتصويب، أعدك بلملمة شتات أطرافه وملئه بقطرات ندى. ستزهر حقوله حباً وسلاماً. ستغدين مشرقة، ولن نطيل وقتنا هذا أكثر من اللازم!
كانت عيناي حريصتين على اختطاف حنان يديها المرنتين على رأسها.
هناك بريق جريء متلألئ بالانسجام، يظهر تمرد شباب امرأة حين تقذف بشعرها من الأسفل الى الأعلى، ومشطها يتغزل على أوصال خط رقبتها المترامي الأطراف، ويظهر حمرة أذنيها كقيثارة غرست على جانبي رأسها، مع صوت حفيف هادئ يعزف بأصابع يدها يخبرها بأن الأمور كلها على ما يرام..
بدت معظم أجزاء شعرها مستسلمة ومنقادة لمشطها بتماسك محكم..
– أومّيي.. ما سر هذا المشط؟
صوت يزمجر بعنفوان آسر..
السيدة المحترمة لا تبوح بأسرارها..
شعر أمّي كصفرة الفجر المعتمة عند ولادة شمسه، كثيف يتراقص على ظهرها، ذو أخدود أبيض في المنتصف، تشدّه بضفيرتين غليظتين. هكذا عهدته منذ ولادتي. وحدها أمي تملك من الصبر والحب ما يكفي لتجعله مستقيماً، هكذا!! كل استقامة منه تحكي كيف كان يومها وقتَ تعرّجه. أبي يحدّق بها بافتنان. تلك النظرة الخاطفة لها فقط تغمر روحها سحابة صيف بأمطارها. دائماً يطلب ودّها به، وإذا ما أراد أن يثير حفيظتها في شيء يهمّه يستحضر موضوع المشط! ويصفه بأنه جالب للحظّ، وأن يومه سيمرّ بخير حين يلامس رأسه قبل أن يخرج إلى عمله!!
تردّ بلا مبالاة كعادتها، وبغنج لا تشاركنا إيّاه حتى في أوقاتها العادية معنا:
– حاول.. وسترى؟!
بدت كلماتها غريبة عليّ آنذاك! كنت صغيرة ولم أع وقتها..
باتت شديدة الحساسية والملاحظة لكل حركة فيها أثر فرشاة شعر في العالم. عيناها تتسعان عجباً من كل فتاة من أقربائنا في كل مناسبة دعينا لها..
– وربة..
تشعر بالضيق وتستوحش الناس، لا تستهويها كثرة الأحاديث. لكن شيئاً ما في هذا المشط يعمل عمل السحر على رأسها. كان قادراً على العبث بخصلاتها وتلويحها في الهواء عدة مرات قبل أن يعود ليسقط بهدوء على جبينها، ثم بعدها بدقائق يسمح لها بأن تستنشق عبيره بنفس عميق تتنفس به الصعداء، وبخبرة صحبتها الطويلة له تدرك ما إذا كانت بحاجة إلى المزيد من الخلوة معه، وكأنه يذيب كرة جليد!
كثيراً ما استللت سيفي في وجهه لشأن يخصني، وأنال منه هزيمة تقذفني بها باب غرفتها! كان لديه كل الوقت ليحظى بها لوحده، وتجد سلوتها معه. كم وددت مشاركتها تلك اللحظات، وأن تخصّني بتمريره على خصلاتي النديّة والشغوفة بيدها وهي تحمله بأنس وسرور! ولا تعود إلى تجهّمها مرّة أخرى.
مرور المشط على شعرها طاف بي إلى خيالات بحياة جميلة وددت أن أعيشها، أدركت حقيقة عدم وجودها بعد ما كبرت. كنت أتأملها وأنا مستلقية حاملة ذقني بجوارها، وأرى عالمها كبيراً لطفلة بريئة مثلي، وبأنه لا توجد هموم بعد أن تدخل يدها إلى شعرها، وحين أراها مشرقة تبادلني النظر:
– ماما، هل يمكنك تمسيد شعري؟
– دقيقة..
رمقتها بشيء من الذهول!
– هه..
تمرّ الساعة ثم لا شيء. كنت أريد اقتناءه ولو قليلاً. كنت أريد ان أشعر بالقوة مثلها. كنت لا أعرف ما يحدث حولي. كنت أختنق بالبكاء حتى تنتبه لي، وتربّت على شعري كما تفعل هي، كي أبدو مثلها!
تسحب يدي بقوّة لأكفّ عن العبث (بملكية المشط)، وتجرجرني كسجين أساق إلى مصير مجهول مرددة:
– هذا الألم ستتجرّعينه مضاعفاً حتى تذيقك الحياة حلاوة تجبر بها روحك سكينة وطمأنينة.
تمر أربعون سنة من عمري لطالما وصفتني بها بالهشّة! عجباً، ترى من أين لي هذه الصفة؟! بالمناسبة، هكذا تعرفت على حقيقة المشط الأسطورية، لكنني اليوم أشد حرصاً على ألا أبالغ في اعتيادها، فقد تسقط مني قطرات من الحياة، ولا أريد إهمال تفاصيلها المجهولة، فلا أجني من ورائها إلا إبرة تخدير تمسح عن يومي وجه الأيام والساعات. أريد أن تروي أحضاني وقبلاتي كلّ من يمضي على قارعة خطّ طريقي القصير. قد يمضي اليوم، ويلقي بظلاله عليّ، ولكن سأمهّد له الدرب حتى لا ألجأ إلى مشط أمي.
تحركت مقلتي في فتور باتّجاه خطواتها المتعرّجة البطيئة. كانت ترخي جسدها جلوساً نحوه بهدوء وحذر شديدين..
– أوف أوف ياااا الله يا ركبي..
ممسكة به متراقصاً في أصابعها الرفيعة يكاد لا يسكن من فرط اهتزازها. عالمها لم يعرف يوماً تقلّب دوران الشمس والقمر، فقد بان بياض شتائها. مشوشة معظم الوقت، تأتي بزيت الزيتون الدافئ، وتعتدل في جلستها، وتقوم بتمريره بلا مبالاة، حيث يمر على الشعر بلا نهاية، ثم تأتي بخاتمته على عجالة، وتتطلع إلى نفسها باهتمام بالغ، فلم تكن هناك من طريقة أخرى.. كانت غائبة في حاضرها، وكأنها مع أكبر اكتشاف قامت به في حياتها، ترى تساقط خريف عمرها الواحدة تلو الأخرى.. تكرر نغمتها المعهودة:
– لابد من أنها بفعل ذرّات الطحينة البيضاء تلك. كم أمقتها! الله يأخذها.. بدأت تتمكّن منّي وتسلبه واحدة تلو الأخرى.. بالأمس كان يتراقص خلفي واليوم أتلفته تلك الرمّة القذرة..
لم يعد يريحها فارسها البتّار لمحاربة هذا العدوّ الذي يفتك بما تبقى منه.. تتوقّف لحظة لتلقي نظرة على ما تجمّع به، وتأخذ جذوة منه، وتسالني:
– هل تعلمين من اتّصل بنا اليوم؟ من؟ اللي ما يتسمّى؟ مرة تشكو الحال ومرة تبتسم! وأقول لها ماذا أيضاً؟
ثم تعود لتكرر نغمتها المعهودة:
– أوّل شعري لوين، والحين وين! طالعي كله راح..
والآن بعد فترة عاد وحيداً على رفّ حزين يترقّب من يمسك به بحنان مرة أخرى. لم يعد قادراً على زرع بذور أمل يطيّب به خاطرها، فهي تحاول بذل مجهود يظهر منها الوهن واللطف، تحاوره، وكأنّما قد فرغ النفس من صدرها.
– أستميحك عذراً أيّها المشط، فهي لن تستعين بك اليوم! فهي اليوم ستودّ أن أغزل يدي على شعرها، وأحنو عليها كما كنت تفعل! سأعيد لي دفء حديث أحضانها وأنا أستلّ خصلاتها عن جبينها، فقد آن لها أن تستريح..