Glogo

جهاز السعادة – فاطمة الكمالي

 ها أنا أدخل إلى المبنى الحكومي من الباب الذي يفتح من أرضية الغرفة مباشرة، كنت مسرعة، عليَّ أن أنتهي من إنجاز معاملتي بسرعة، فقد استأذنت للخروج من عملي لمدة عشرين دقيقة فقط. حمداً لله على اختراع الشبكات الأرضية السّريعة التي تربط بين الدوائر الحكومية تحت الأرض، فلقد وصلت إلى وجهتي خلال ثلاث دقائق فقط، لو أنني كنت موظفة عادية تعيش في الماضي، لنقل مثلاً في عام 2025، لاضطررت لأن أشقّ طريقي نحو هذه الدائرة بسيارتي، وكنت سأعتبر نفسي محظوظة لو أنني استطعت الوصول إليها خلال نصف ساعة! هذا طبعاً لو لم يصادفني ازدحام مروري في الطريق، كم كانت حياة الأجداد صعبة! هل حقّاً ذكرت «الازدحام المروري»؟ يا له من مصطلح غابر، لا يعرفه إلّا المثقفون والمهتمون بالتراث!

يجب أن أسرع، فالوقت يمضي، لا أريد أن أغضب المسؤول عنّي أكثر، فقد أغضبته بما يكفي ليوم واحد! وهو لكرمه سمح لي بالخروج من عملي لمدة عشرين دقيقة كاملة، كي أحدّث بيانات هويتي. يا له من رجل شهم! أحياناً أشعر أنه يوليني معاملة خاصة.

قبل أن يطلب منّي العمل على كتابة مقترحه قدّم لي هدية أنيقة، عبارة عن ثقّالة ورق زجاجية، تحفة من العصر القديم، من يستخدم ثقّالة الورق هذه الأيّام! لكنّي قدّرت لفتته اللطيفة، استخدمتها كزينة لمكتبي.

كم أنا فخورة بنفسي! أبدو هادئة جداً وسعيدة رغم المواقف الصعبة التي مررت بها اليوم، أولاً: تمّ خصم جزء من راتبي، ولا بأس في ذلك، لقد كان خطئي وعليَّ أن أتحمّله، ألم أتأخّر عشر دقائق كاملة عن الحضور للعمل في هذا الصباح؟

وثانياً: تمّ لفت نظري بطريقة غير لبقة من قبل مسؤولي المباشر؛ لأنّني ارتكبت بعض الأخطاء أثناء أدائي لعمل إضافي غير مدفوع الأجر ليلة أمس. لا مشكلة في ذلك أيضاً، فالخطأ خطئي مرّة أخرى، لقد أحرجته أمام رؤسائه عندما اضطرّ أن يعرض بيانات غير دقيقة في مقترحه بسببي، ليتني لم أنم في الساعة الرابعة فجراً، يا لي من كسولة! لو أنني صرفت ساعة أخرى من وقتي، وراجعت المقترح قبل أن أرسله له عبر البريد الشعاعي لربّما لاحظت الخلل في الأرقام، ولتداركت إسقاطه في هذا الموقف السيّئ! المسكين شعر بإحراج كبير بسببي، خاصّة أنّني وضعت اسمه في خانة مبتكر ومقدّم المقترح حسب طلبه.

لو أنّ موظفة عادية عملت قبل مئتي عام، ربما في عام 2022، وتعرّضت في أحد صباحات عملها لمثل هذه المواقف، لشعرت بالحنق والغضب. ربما أقامت الدنيا، ولم تقعدها كانت ستقول لمسؤولها شيئاً من قبيل: على أيّ أساس تخصم من راتبي أيّها الجاحد؟ لقد تأخّرت عن العمل عشر دقائق فقط، وذلك لأنّني ظللت ساهرة حتى الساعة الرابعة فجراً على صياغة مقترحك التافه، باذلة جهوداً استثنائية كي أضفي عليه جانباً ابتكاريّاً يسبغ عليه بعض الاحترام!

ولربما أضافت أيضاً: الأرقام صحيحة تماماً، ولا خلل فيها، ولو كان في رأسك عقل لاستطعت أن ترى أنّ مقترحك عقيم ولا فائدة منه بدليل هذه الأرقام التي تصرخ في وجهك!

الأجداد المساكين، لم يكونوا محظوظين بامتلاك «جهاز السعادة»، هذا الجهاز الرائع الذي ما إن تمّ اختراعه قبل عشرة أعوام حتى تهافتت على امتلاكه جميع الدوائر الحكومية والخاصّة، فقد تمّ وضعه في كلّ قسم بلا استثناء. صار وجوده أهمّ من وجود المدير، بل أحياناً، أهمّ حتى من وجود الفرّاش! فهذا الاختراع الأنيق بشكله البيضاوي الذي يشبه لون الثلج يضفي جمالاً راقياً على أيّ جدار يلصق عليه، وأيّ موظف يمرّ بموقف سيّئ مع أيّ مسؤول أو زميل عمل، كلّ ما عليه فعله هو أن يتجه نحو ذلك الجهاز العجيب، ويضع يديه فوقه لمدة عشر ثوانٍ، وسيتكفّل الجهاز بامتصاص كلّ شحناته السلبية الغاضبة، ليحلّ محلّها الهدوء والسلام! نعم في عشر ثوانٍ فقط. إنّه من أعظم اختراعات عصرنا، فجميع الإدارات تحرص على اقتنائه مهما كانت التضحيات، لدرجة أنّ بعض الإدارات قلّلت من ميزانية تدريب الموظفين لتتمكّن من توفير عددٍ كافٍ من هذه الأجهزة في مبانيها!

أنا محظوظة لأنني استخدمت جهاز السعادة مرّتين خلال هذا اليوم، رغم أنّ التعليمات الإرشادية للجهاز تنصح الموظّفين بعدم استخدامه أكثر من مرّة أو مرّتين كحدٍّ أقصى في الأسبوع، إلّا أنّ المسؤولين والمديرين يشجّعوننا دائماً على استخدامه يوميّاً، فالتقليل من الشحنات السلبية للموظفين يُحسّن من بيئة العمل ويزيد الإنتاجية.

لا شيء سيغضبني اليوم، أنا في قمّة الهدوء والاسترخاء، وأتّجه مباشرة نحو مكتب موظّف الاستقبال الذي أمامي. يا لهم من بدائيين، ما زالوا يستخدمون البشر لاستقبال العملاء! بعض الوزارات لم يقتنعوا بَعْدُ بضرورة إدخال التكنولوجيا النفسية ضمن نطاق عملهم، لا أحبّ أن أزور هذه الإدارة بالذات، فمديرهم تقليديّ وذو عقل متحجّر! لا يؤمن بالتقنيات الحديثة، لدرجة أنّه عضو في جمعيّة «عيش إنسان» التي تحارب التكنولوجيا. يا لها من جماعة متخلّفة تعيق التطوّر!

وما العيب في استخدام الروبوت لاستقبال العملاء؟ على الأقلّ سيتعامل مع كلّ شخص حسب مزاجه بعد أن يقوم بمسح حالته النفسية. قرأت مرّة مقالة لمديرهم يصرّح فيها عن استنكاره الشديد لتقنيات الحالة النفسية، يظنّ أنّ مشاعر الناس تُعدّ من أعمق خصوصيّاتهم، ولا يحقّ لأيّ شخص أو آلة، أن يتعدّى على هذا الحقّ. هو وجماعته (عيش إنسان) يبذلون جهوداً حثيثة لإقناع هيئة حقوق الإنسان الدولية بإدراج تقنيات مسح الحالة النفسية ضمن الأجهزة التي تمثل تعدّياً فاضحاً على حقوق الإنسان!

يا للحماقة! وماذا سأنتظر من مدير بهذه العقلية؟! عن نفسي لا أمانع أبداً أن يتمّ استقبالي من قبل روبوت يقوم بمسح نفسيتي طالما سيؤدّي ذلك إلى معاملتي بطريقة لائقة تناسب مزاجي، بل على العكس، أجده تصرّفاً في منتهى الإنسانية.

ها هو الموظّف يستقبلني الآن بابتسامته الهوليوودية المستفزّة! في عصر سابق كان مصطلح ابتسامة هوليوود يعتبر إيجابيّاً، أما الآن فهو مصطلح يدعو للسّخرية، فالروبوت يبتسم لك حسب حالتك النفسية، فلو وجدك سعيداً سيتحدّث معك وكأنّه يغني، ولو كنت حزيناً سيبتسم لك وكأنه أمّك! أمّا هذا الموظّف، يظهر لي ابتسامته المعلّبة التي تعبّر عن مزاجه. اللهم صبّرني يا ربّ!

أبادر:

– السلام عليكم.

الموظف بابتسامته العريضة:

– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، تفضّلي، كيف يمكنني خدمتك؟

لو كان روبوتاً لعرف من خلال عملية مسح الوجه، من أنا، ولماذا جئت، ولكن هذا؟ عليَّ أن أشرح له كلّ شيء:

– لديَّ معاملة تحديث بيانات الهويّة، أنا هنا لإجراء تحديث بصمة شبكية العين، وصلتني رسالة شعاعية من قبلكم تفيد بضرورة تجديدها اليوم، وفي هذه الساعة بالذات، لقد حضرت حسب الموعد الذي حدّدتموه.

الموظّف وقد وجّهه اهتمامه لجهاز الحاسوب أمامه:

– نعم بالتأكيد، شكراً لحضورك، امنحيني بعض الوقت لأراجع النظام.

أتذمّر وأتأفف في داخلي: «يراجع النظام، يا للبدائية!»

مرّت دقيقتان ونصف تقريباً، ما زلت أنتظر أن يجد هذا الموظف المحترم اسمي على نظامه! انظر نحو سوار حاسوبي المحمول الملتفّ حول معصمي لأرى كم الساعة، فقط ليفهم أنّني لست راضية عن هذا التأخير، لكن هل هذا المخلوق عديم الإحساس سيفهم؟! لو كان روبوتاً لالتقط الذبذبات الطفيفة المتغيّرة حول هالتي، ولعرف على الفور أنني بدأت أغضب، ولتدارك ذلك بعبارات لبقة لتهدئتي، عبارات، مثل: «سيّدتي العزيزة مؤسّستنا تعتذر إليك بشدّة عن تضييع وقتك الثمين، جارٍ النظر في طلبك، وسننجزه خلال خمس ثوانٍ، شكراً لانتظارك».

لكن هيهات! متى ستقتنع هذه الإدارات المتخلّفة أنّ البشر لا يصلحون كموظّفي استقبال!

الحمد لله أنني سحبت شحناتي السلبية مباشرة قبل أن أخرج من العمل، وإلّا لصرخت في وجهه! لكن لن أغضب، أنا هادئة، أنا هااادئة، أنااا هاااااادئة!

أسناني تصطكّ ببعضها بشكل لا شعوري، مرّت دقيقة ونصف، دون أن أحصل على أيّ استجابة من الأخ الجالس أمامي ببرود، وكلّما نظر نحوي، فتح فمه على آخره ليريني أسنانه القبيحة! استغفر الله العظيم يا ربّ، عليّ أن أسأله مجدّداً:

– عفواً، ألم تجد ملفّي بعد؟!

لا أصدّق، يضحك، ويتجرّأ على السخرية من كلامي:

– ياااااه، ملّف؟! يا له من مصطلح قديم! لقد أعدتنا للقرن الثاني والعشرين، تقصدين مصفوفتك الرقمية.

استشيط غيظاً، لا أصدّق. لقد سخر منّي، لأنّي استخدمت كلمة ملّف! يظنّ أنني بدائية، ولا يجد أيّ عيب في أنّ جهاز الحاسوب الذي أمامه هو أحدث تكنولوجيا متطوّرة مستخدمة في إدارته! مع ذلك أحاول أن أكون هادئة وأسأله بشكل مباشر:

– متى ستنجز معاملتي؟!

أجابني ببرود ولم ينس أن يبتسم:

– أنا مشغول بعمل شيء آخر، سأنتهي منه بعد دقائق قليلة وسأتفرّغ لك، هلّا استرحت على الكرسي الموجود هناك؟ سأناديك بمجرّد أن أنتهي.

يستحيل أن تواجه مثل هذه الوقاحة واللامبالاة من روبوت! ألا يعلم هذا الموظف المهمل أنّ الأولويّة للمتعاملين؟ كيف يجرؤ على تعطيلي كلّ هذه المدة، وما زال يطلب منّي الانتظار؟!

جميع الشحنات السلبية التي أفرغتها من جسدي قبل أن آتي إلى هنا صارت ترجع إليَّ مجدّداً، أشعر بها تجري في شراييني تسمّم دمي. بدأت يداي ترتجفان من الغضب، والدم يصعد لوجهي فتحمرّ وجنتاي، وترتجف شفتاي من شدّة الغيظ، وصارت عيناي ترمشان لا إرادياً، لكنني إنسانة متحضّرة، أحاول أن أتنفّس بعمق كي أسيطر على مزاجي الذي أفسده هذا الأحمق بوقاحته وعدم كفاءته.

عليّ أن أُخرِج هذه الشحنات السلبيّة من جسدي، لقد وصلت لمستوى عالٍ لا أستطيع أن أسيطر عليه، أحتاج لاستخدام «جهاز السعادة» الآن، أضبط ما أستطيع أن أضبطه من سلوكي، وأحاول أن اختار مصطلحاتي بأقصى قدرٍ من الهدوء تمكّنت من تصنّعه، وأسأله:

– عفواً، هل لديكم «جهاز السعادة»؟ أظنّ أنّني بحاجة ماسّة لاستخدامه الآن وعلى الفور.

هذا الموظف السيّئ لا يُصدّق! لقد كسر ضحكة وقحة أمامي وهو يقول:

– هاهاهاها …. «جهاز السعادة»؟! هنا؟! لا يا سيّدتي، نحن لا نعترف بهذه التفاهات في إدارتنا، لكن لا تقلقي، لقد انتهيت من عملي، سأتفرّغ لك الآن، قفي أمام هذه الشريحة لنقوم بنقل مخطّط شبكية عينيك للنظام.

أنظر نحوه والشّرر يخرج من عيني، وكلّ جسدي يرتجف بشدّة. أفقد السيطرة على نفسي تماماً. أصرخ في وجهه مثل وحش كاسر:

– كيف تسمح لنفسك أن تعاملني بهذا الأسلوب الوقح يا قليل الأدب، يا عديم الاحترام؟ على أيّ أساس تقلّل من شأني؟ ألم تدرس أيّ شيءٍ عن خدمة العملاء؟! إذا لم تكن تعرف كيف تنجز عملك، أتركه لروبوت، فهو بالتأكيد سينجزه بشكل أفضل منك. ما هذه الإدارة المتخلّفة؟ في أيّ عصر تعيشون؟!

الحمد لله، اختفت الابتسامة الهوليوودية الحمقاء عن وجهه أخيراً. ينظر نحوي بذهول ولا يتكلّم، لكنّه يسحب بعض المحارم الورقيّة الموجودة على طاولته، ويمسح بها وجهه، يبدو أنّني بصقت عليه قليلاً عندما كنت أصرخ! لقد صار أكثر ميلاً للهدوء، هل هذه ابتسامة تظهر على شفتيه مجدّداً؟! كيف يجرؤ على الابتسام وأنا في هذه الحال؟! لا أصدّق. ما هذه الإدارة الغريبة؟!

صوت يناديني من خلفي، يبدو أنّه كان ينادي عليَّ منذ مدّة، لكن من شدّة غضبي أصبت بالصمم. كنت أثبّت نظري على الموظّف الذي أمامي. صار ينظر خلفي، ويؤشّر بسبّابته على شيء ما، يحاول أن ينبّهني كي ألتفت لأرى الشخص الذي ينادي عليّ.

التفتّ أخيراً بعد أن استوعبت ما يقصده، لأجد رجلاً يحاول أن يعتذر إليَّ بكلمات لم أسمعها في البداية بسبب غضبي، بجانبه سيّدتان، إحداهما تحمل طبقاً عليه فوطة مبلّلة بماء بارد، والسيّدة الأخرى تحمل صينيّة عليها كوب من عصير الليمون بالنعناع البارد. تساعدني السيّدة الأولى على أن أمسح وجهي بالفوطة. أهدأ قليلاً. أقف أمامهم مثل قطّة مبلولة، غاضبة ومحرجة في الوقت نفسه!

صرت أسمع الرجل الآخر الآن بشكل أوضح، كأنه يقول:

– نعتذر إليك بشدّة عن هذا الموقف السيّئ الذي تعرّضتِ له. أرجوك تفضّلي إلى مكتبي لتستعيدي هدوءك قليلاً.

خرج صوتي مرتجفاً ومتعباً من الصّراخ:

– أنا هادئة، ولا أحتاج لمساعدتكم.

تفاجأت من نفسي. بالكاد أستطيع الكلام. رضخت لطلبه. ها أنا ذا أتبعه إلى مكتبه، السيّدة التي تحمل صينية العصير تتبعنا أيضاً. أجلس على كرسيّ مريح. تناولني السيّدة عصير الليمون بالنعناع، ثمّ تخرج. العصير منعش بحقّ، لقد هدأت لدرجة كبيرة.

أنظر للرجل الجالس خلف مكتبه، كأنّني رأيته من قبل. نعم تذكّرته، إنّه مدير هذه الإدارة، الرجل ذو العقلية المتحجّرة، والعضو في جمعيّة «عيش إنسان» المتخلّفة!

فقط أشرب عصيري بهدوء دون أن أتحدّث، يبادر هو بالكلام:

– الحمد لله أنّك هدأت قليلاً، هل تعلمين أنّ الموظف الذي أخطأت بحقّه يمكنه أن يقاضيك بسبب التعدّي عليه بالكلام المهين أثناء تأديته لعمله؟

نعم بالطبع، فأنا المخطئة بنظرهم. كلامه مستفزّ، لكن بشكل غريب لم أشعر برغبة بالصّراخ عليه، قرّرت أن أجيبه بهدوء من موقف قوّة:

– هذا القانون كان سارياً قبل عشر سنوات يا سيّدي الفاضل، أمّا في وقتنا الحالي وحسب التعديل على القانون الإداري، إذا طلب المتعامل «جهاز سعادة» ولم يحصل عليه، عندها لن يكون مسؤولاً عن أيّ تصرّف يصدر منه طالما لم يكن جنائيّاً، وحسب ما أذكر، طلبت «جهاز السعادة»، ولم يتم توفيره لي، لأنّكم لا تملكونه، ولا بد أنّ إدارتكم قامت بتوقيع وثيقة تنازلت فيها عن حقوقها بسبب امتناعكم عن توفيره، وفي النهاية أنا لم أقم بإيذاء موظّفكم، لقد فقدت أعصابي بعض الشيء! لأنّه تعامل معي بعدم كفاءة، حتى لو كنت مخطئة إلى حدٍّ ما، سأكسب أيّ قضية قد ترفعونها ضدّي.

يبتسم نحوي بهدوء ويجيب:

– لسنا مهتمّين برفع أيّ قضيّة عليك يا أختي، أنا فقط أرغب في فهم سبب تصرّفك بهذا الشكل العدائيّ، فالموظّف لم يخطئ في حقّك، ولم يقصّر في أداء مهمّته.

استفزّني كلامه، أردّ عليه بحماس:

– موظّفك يا سيّدي العزيز، لم يعطني الأولويّة، جعلني أنتظر بينما كان يؤدّي عملاً آخر، كما أنّه لا يمتلك مهارات موظّف الاستقبال، فلم ينجح في تهدئتي، بل على العكس، صار يسخر منّي، ويغيظني بكلامه!

يقول لي المدير وهو محتفظ بنبرته الهادئة، وكأنّه كان متوقّعاً منّي ما قلته:

– موظّفي لم يكن يحاول أن يسخر منك، بل كان يبذل جهده في أن يكون ودوداً معك ويضحكك، أعترف بأنّه فشل في ذلك، لكن هذا لا يقلّل من كفاءته، فهو غير ملزم بإعطائك الأولويّة طالما أنّه لم يتجاوز الوقت الذي تمّ تحديده لك لإنجاز معاملتك، وحسب علمي، الوقت الذي نخصّصه لمسح شبكية العين مدّته خمس دقائق، وموظّف الاستقبال لم يؤخّرك أكثر من ثلاث دقائق ونصف أو أربع دقائق على أكثر تقدير، وعمليّة المسح لن تأخذ أكثر من نصف دقيقة، هذا يعني أنّه كان متوقّعاً منه أن ينجز معاملتك قبل المدّة المحدّدة بنصف دقيقة تقريباً، لم يكن هناك داعٍ للغضب!

بدأت أفهم وجهة نظره، ربّما بالغت قليلاً في ردّة فعلي، أشعر بإحراج شديد الآن، كم أتمنّى لو أنّهم يملكون «جهاز السعادة» هنا، أريد أن أخرج وأعود إلى إدارتي كي استخدمه مجدّداً!

لاحظ صمتي الطويل وتابع كلامه:

– لا تقلقي، فموظّف الاستقبال لا يشعر بالإساءة، فهو محترف في عمله، ويعرف جيّداً كيف يتعامل مع تقلّبات أمزجة المتعاملين. لو كان روبوتاً لحوّلك مباشرة للتحقيق بسبب العنف، لكنّ البشر يتفهّمون، ويعذرون، اطمئنّي فأنت لا تواجهين أيّ مشاكل معنا، سنقوم بإنجاز معاملتك الآن، ويمكنك أن تنصرفي لعملك، ونعتذر عن تسبّبنا بأيّ إزعاج أو تأخير لك.

أشعر بالارتباك الآن، وتتجمّع الدموع في عيني. لم أذكّره مجدّداً بشأن القانون الذي يمنع أيّ جهة من مقاضاتي بسبب إساءتي لأيّ موظف بشري أم إلكتروني، طالما طلبت استخدام «جهاز السعادة» ولم يتمّ توفيره لي. خرج صوتي مهزوزاً عندما قلت له:

– أنا أعتذر بشدّة، رغم أنّه من السيّئ إنجاز معاملة مدّتها نصف دقيقة في خمس دقائق كاملة، لكنّ معك حق، فموظّفكم لم يتجاوز المدّة المحدّدة، هذا يعني أنّ الخطأ خطئي، كان عليّ أن أكون أكثر صبراً وتفهّماً، سأتوجّه للموظّف لأعتذر إليه بنفسي، فأنا حقّاً لا أدرك كيف فقدت أعصابي بهذا الشكل!

تفاجأت من تغيّر ملامح المدير، وكأنّه كان ينتظر منّي التصريح بمثل ما قلت. ابتسم لي وقال:

– بل نحن من نقدّم اعتذارنا إليك، فقد تعمّدنا استفزازك، كي تشهدي بنفسك سلبيّات استخدام «جهاز السعادة». واضح أنّك أدمنت استخدامه، وصرت غير قادرة على التحكّم بمشاعرك من دونه.

رغم أنّني سمعته بشكل واضح عندما قال لي إنّ موظفه تعمّد استفزازي، إلّا أنّني لم أشعر بالغضب، هل يفترض بي أن أغضب؟ ينظر في عيني مباشرة، ويسألني:

– كم مرّة تستخدمين «جهاز السعادة» خلال الأسبوع؟

أُخفض نظري نحو مكتبه، وأجيب بشيء من الخجل:

– استخدمته مرّتين اليوم.

يضع يده على رأسه من الصدمة، ثمّ يحاول أن يتمالك ردّة فعله، أستطيع أن أرى بأنّه يبذل جهداً كبيراً كي يبدو هادئاً أثناء حديثه معي:

– أختي العزيزة، مرّتين في اليوم كثير جدّاً، أظنّ أنك وصلتِ لمرحلة خطيرة من الإدمان. سأخبرك بسرٍّ. نسبة جرائم العنف في تزايد مخيف، وحسب الدراسات السرّيّة التي تقوم بها جمعيّة «عيش إنسان» تبيّن لنا أنّ معظم مرتكبي هذه الجرائم ممّن يستخدمون «جهاز السعادة» بمعدّل أربع مرّات في الأسبوع، وأنتِ استخدمته مرّتين في يوم واحد، وأكاد لا أجرؤ على سؤالك عن معدّل استخدامك الأسبوعي لهذا الجهاز الخطير!

يُعدّل من جلسته ويتابع:

– إنّهم لا يفصحون عن هذه المعلومات، فالمديرون سعداء بالسيطرة على مرؤوسيهم باستخدام هذا الجهاز، خاصّة وأنّه يحقّق لهم نتائج إيجابية في زيادة الإنتاج، وهم بالتأكيد فخورون برفع كفاءة موظّفيهم، ولكن ما الثمن الذي تضطرّون أنتم لدفعه في سبيل ذلك؟ هل تعلمين أنّ هذا الجهاز يتسبّب في إصابة مستخدميه ببلادة المشاعر؟!

أقاطعه مدافعة عن نفسي وعن «جهاز السعادة»:

– على العكس، بل إنّه يخلّصك من المشاعر السلبية، ممّا يجعلك ترى العالم من منظور أفضل، ويجعلك تفسّر مواقف البشر بإيجابيّة.

ينظر المدير نحوي بشيءٍ من الشكّ، ويقول:

– إذاً لماذا لم تتمكّني من تفسير موقف موظّف الاستقبال بشكل إيجابي؟

أردّ عليه بحماس:

– ­­لأنّكم لا تملكون «جهاز السعادة» في إدارتكم، وهذا خطؤكم وليس خطئي.

يبتسم مرّة أخرى ويخبرني:

– وماذا لو لم تستخدمي «جهاز السعادة» لمدة أسبوع؟ هل ستقتلين موظّفي لأنّك ظننت بأنّه يسخر منك؟

بدأت أفرك ملابسي بقبضتي، رأيت المدير وهو ينظر ليدي، وكأنه فهم بأنّ مشاعر الغضب عادت تتملّكني مجدّداً، يخبرني بنظرة حانية في عينيه لم أستطع تصنيفها:

– لا بأس بالمشاعر السلبيّة، إنّها جزء منّا، لا تحاولي أن تتخلّصي منها، فقط حاولي استيعابها وتفهّمها، عندها ستتمكّنين من السّيطرة عليها دون استخدام الجهاز، هذا ما كنّا نفعله قبل عشر سنوات، وعلينا أن نستمرّ بفعله الآن دون الحاجة لاستخدام الأجهزة، لسنا بحاجة لجهاز سعادة كي تخبرنا كيف نشعر.

يتابع بحماس، بعد أن لاحظ استرخاءً على ملامح وجهي:

– صدّقيني أنتِ قويّة بذاتك. هذه الأجهزة مؤامرة كبرى تهدف إلى تجريد البشر من مشاعرهم، ومع كثرة الاستخدام لن تستطيعي تمييز المشاعر الإيجابية من السلبية. ستصابين بحالة من التبلّد، وقد ترتكبين أشنع الأفعال دون أن تشعري بوجود خطأ ما.

الدموع تتجمّع في عيني مرّة أخرى. أنظر نحوه. هو يعرف كلّ شيء. يعرف تماماً بِمَ أشعر. يخيفني، لكنّه يفهمني. أنقل له هذه المشاعر:

– كيف لم ألحظ ذلك؟ معك حقّ، هذه الأجهزة سيّئة جدّاً. أرجوك، اسمح لي أن أذهب لموظّف الاستقبال كي أعتذر إليه. لم أكن على طبيعتي عندما أهنته.

تنفرج أساريره عن ابتسامة انتصار. لقد كسب معركته معي. أقنعني. ما زال يواسيني بكلماته التشجيعية وهو يمشي معي، لنخرج من مكتبه سويّاً، ونتّجه نحو موظّف الاستقبال. أشعر بخجل شديد وأنا أنظر تجاهه. ما إن رآني أنا ومديره نقصد مكتبه حتّى وقف واستقبلنا بوقار، وتلك الابتسامة الهوليوودية المقزّزة مجدّداً مرتسمة على وجهه، لكنني لن أغضب منه الآن. لقد فهمت الحقيقة. «جهاز السعادة» هو من يستفزّ مشاعري. لا شيء خطأ في ابتسامته المستفزّة. ها هو يساعدني على مسح بصمة عيني. يخبرني بلطف:

– لقد تمّ تحديث بياناتك، تسرّني خدمتك.

أنظر نحوه بإحراج وأقول له:

– أرجو أن تسامحني. لقد أخطأت في حقّك.

يرد عليَّ وهو يغمض عينيه بشكل استعراضيّ، ويزيد من تلك الابتسامة المنفّرة التي كنت أظنّ أنّها لا يمكن أن تتوسّع أكثر:

– اعتذارك مقبول.

أشكره، وأشكر مديره، وأخرج من إدارتهم البدائية. لا أستطيع أن أفهم مشاعري الآن، لكن عليّ أن أصل إلى إدارتي بسرعة، فقد تأخّرت، وها أنا الآن أدخل مكتبي. مديري أمامي يبتسم لي، ينتظرني ليخبرني شيئاً ما:

– لقد تأخّرتِ، استأذنتِ لعشرين دقيقة، وغبتِ لمدّة خمس وثلاثين دقيقة. أرجو أن تقدّري موقفي إذا ضاعفت خصم راتبك لهذا اليوم. صحّحي الأرقام على مقترحي، وبعد ذلك تعالي لمكتبي كي تشرحيه لي بالتفصيل. لن أقبل بأن أُحرج أمام رؤسائي مجدّداً. ابذلي جهداً أكبر هذه المرّة.

لا أفهم ماهية شعوري الآن. هل أنا غاضبة؟ حانقة؟ نادمة؟ خائفة؟ لا أفهم. أنظر حولي بذهول، ويقع نظري صدفة على «جهاز السعادة». هذا الجهاز السيّئ الذي يتسبّب في إرباكي دائماً. أقترب منه وأنا أشعر بكره كبير نحوه. لن أستخدمه مجدّداً. سأتعلّم كيف أتقبّل مشاعري السلبيّة، سأضع يدي عليه لفترة بسيطة. لمدّة عشر ثوانٍ فقط، عشر ثوان و… نعم. أشعر بالسعادة الآن. كيف يمكن لأحدٍ أن يصف هذا الجهاز بالسيّئ؟! إنّه معجزة هذا العصر. أنا سعيدة الآن. سعيدة جدّاً. عليَّ أن أسرع بتعديل الأرقام على مقترح المسؤول عنّي. لن أخذله مجدّداً.

لقد انتهيت من تحديث جميع الأرقام. عليّ الآن أن أذهب لأشرح له كيف يفسّر تفاصيل مقترحه لرؤسائه. عليَّ أن أفهمه كيف يبيّن لهم جدوى تنفيذ مقترحه العبقريّ الذي سهرت عليه ليلة أمس. إنّه ذكيّ جدّاً. مسؤولي رجل عبقريّ. ذكاؤه مخيف أحياناً. ربّما عليَّ أن آخذ ثقّالة الورق الزجاجيّة معي، كي أخفّف من حدّة ذكائه قليلاً. أدخل مكتبه. أشعر ببعض الخوف، فرأسه كبير بسبب ذكائه الحادّ. ربّما يحتاج للمساعدة.

أخرج من مكتبه الآن بعد أن شرحت له كلّ شيء حول مقترحه. لقد عانى من صعوبة الفهم قليلاً بسبب ذكائه المفرط، لكن سوّيت بعض الأماكن في رأسه باستخدام ثقّالة الورق الأنيقة، واستوعب الأمور بشكل أفضل. عليَّ أن أغسل يديّ الآن. سائل أحمر لزج ملتصق بهما. لا أتذكّر متى وسّختهما بهذا الشكل! غسلت يديّ، وغسلت ثقّالة الورق. نشّفتها جيّداً، وأعدتها لمكانها على مكتبي. أنا فخورة جدّاً بنفسي، فكفاءتي لا حدود لها.