Glogo

أنت الأهل وكل الأحباب – شيماء الحوسني

استيقظ فزعاً، فهو لا يرى إلا البياض الناصع، أخذ يصرخ بكل ما أوتي من قوة، والفزع يشد حباله الصوتية: هل مت؟.. هل قُبِضت روحي؟.. لا لا.. لا أريد أن أموت الآن.. فأنا لم أكمل الثانية والعشرين بعد.. لا أريد أن أموت.. لا أريد.. لدي خطط وأحلام لم أنفذها بعد.. وبعنف أخذ يحرك يديه في الهواء يمنة ويسرة، فنُفِض الغطاء عن عينيه، وعادت إليه الحياة التي كانت على وشك أن تفارقه، أراد أن يحرك جسده لكنه لم يستطع، انتبه بعدها للأصوات التي يضج بها المكان، وكأن حاسة السمع قد عادت إليه للتو، كان الهلع يصبغ الحديث الدائر في أركان المكان، فالأصوات قد استحالت في عقله للغط مبهم ومزعج، فبعضهم يبكي على عزيز له قد جرح أو مات، وبعضهم يهرول بين الأسرَّة كالمجنون يبحث عن قريب له قد فُقِد، وحالات أخرى يذوب لها القلب كمداً.

أحس لتوه وكأنما الإحساس عاد إليه بالتدريج، التفت ليده التي كانت قد غُرزت فيها إبرة موصولة إلى كيس في داخله محلول كالماء لا لون له، فبدأ بالتأمل حوله وهو يتساءل: أين أنا؟ ما الذي جاء بي إلى هنا؟ كيف وصلت؟ وما الذي حدث؟ قُطِعَ حبل أسئلته، عندما أزاح الستار الذي كان يحيط بالسرير المتهالك الذي ينام عليه شاب كانت ملامح الإنهاك من كثرة العمل قد بانت عليه، سأله مستغرباً: من أنت؟ وأين أنا؟ فرد عليه الشاب بوجه بائس، وابتسامة مصطنعة كان قد رسمها: أنت في المستشفى، وأنا الممرض المسؤول عن حالتك، وحمداً لله على إفاقتك سالماً. باستغراب سأله: ممرض؟ مستشفى؟ ما الذي حدث؟

أجابه وهو يتفحص الكيس: ضربنا الزلزال على حين غرة، والحمد لله.. لقد نجوت.. ردد معي الحمد لله.. ثم ربت على كتفه.

كان الممرض يكلمه بهدوء شديد، ويطلب منه أن يبقى هادئاً فإصابته بليغة، ولأنه كان كثير التململ والصراخ تحلق حوله ممرضون وأعطوه حقنة منوم ليسكن جسده، ودموعه وأسئلته عن أسرته التي لا يعلم عنها أي خبر!

مع فجر اليوم التالي، كانت الأصوات تعلو نتيجة ضحايا قد أدخلوا المستشفى للتو عُثر عليهم بين أنقاض المباني، فاستغل الفرصة وهرب في خضم الضوضاء والانشغال الذي اعترى كادر المستشفى، وقصد بيت العائلة الذي أصبح أثراً بعد عين، فلم يتعرف عليه إلا بعد أن سأل أحد سكان الحارة ممن رآه واقفاً مع فريق الإنقاذ، ورأى صورة جده بين أكوام الحطام قد اكتست بلون الفقد.

عندما حل عليهم الخراب كانوا أربعين شخصاً قد تجمعوا في بيت العائلة؛ لحفلة خطبة أخيه، توجه كالمجنون للبيت ينادي ويصرخ، رآه أهل الحي فتحلقوا حوله ليصبروه. قال له رجل عجوز وهو يحتضنه ويضع يده على رأسه مربتاً: لا نعرف ما نقول لك يا جلال، فمصابك جلل يا بني، أنت رجل، وعليك أن تتحمل، ثم قال وهو يحاول كبت دموعه: الله يرحمهم جميعاً يا بني.. البركة فيك..

رفع جلال رأسه وسأل الرجل العجوز وعيناه خائفتان من الحقيقة: هل ماتوا كلهم يا عماه؟ لم يجب الرجل بل أجابت دموعه وأصوات التنهيدات من الحاضرين، ودعاؤهم لأهله بالرحمة.

بدأ يبحث بين ركام البيت كالمجنون، أُدميت يداه، وبدأ الرجال حوله يحاولون إيقافه ولكن لا فائدة، إنه يبحث في كل ناحية وصوب، عله يجد أحدهم لا يزال يتنفس الحياة فيسعفه، قال له أحدهم: إن جميع من في البيت قد نُقِلوا جثثاً إلى المستشفى. وقال له آخر وهو يحرك رأسه أسفاً على الحال التي وصل لها جلال: أنا شاهد على ثمان وثلاثين أخرجتهم ومن معي من تحت الركام.

وردد على سمعه أكثر الحاضرين عبارات، مثل: أكثر أهل المنطقة نُكبوا في بعض أفراد أسرهم يا بني.. كثير من الناس لاقوا المصير المؤسف.. لكنه أمر محزن أن يتجمع أربعون في منزل فيهبط عليهم فجأة.. مهما كان أليماً فهو أمر الله ويجب استقباله بالتسليم.. كان الله في عونك يا جلال..

فقد الأمل، وخارت قواه، فوقع على الأرض وهو يرى أنه أصبح مثل غصن قد قطع من أمه الشجرة، فغدا غريباً لا أهل له ولا بيت، فحيناً يتمتم بكلمات لا يفقهها، وتارةً يحثو التراب فوق رأسه، والرجال من حوله كلٌ يصبره بكلمة أو بقبلة على رأسه كتعزية. ويشد أزره عسى أن يستطيع تجاوز الحالة البائسة التي اعترته، فتمدد فوق الركام، وأغلق عينه، وهو ممسك بكلتا يديه بما تحته من أنقاض، كأنه يترجى القدر أن يخلصه من ألم الفقد، وأن يتوقف نبض الحياة فيه.

وفي خضم الحزن الذي اعتصر فؤاد جلال، وبعد محاولات عدة ممن حوله ها هو ذا يمشي بمساعدة اثنين منهم. ومع أنهم سمعوا ما يشبه بكاء طفل إلا أنهم لم يعيروه اهتماماً؛ فقد اعتادوا على صراخ الأطفال، لقد أنقذوا للتو أعداداً كثيرة من تحت الركام.. فمنهم من استردته الحياة ومنهم من لفّته عتمة الموت.

ولكن الصوت كان يقترب منهم في كل مرة، أبصروا شاباً يحمل طفلاً يهرول ناحيتهم، الطفل كان قد غطاه اللون الأبيض المائل للرمادي، الشاب يصرخ: هذا الطفل قد نجا من تحت ركام بيت عائلة جلال.. هذا الطفل الناجي الوحيد من العائلة بعد جلال..

عندها وقف جلال على رجليه بعد أن كان الرجال يساعدوه على المشي غير مستوعب ما سمع، وكأنما عاد إليه شيء من روحه التي انتُزعت منه، منذ سمع صوت الطفل عرفه.. إنه صوت مألوف لديه.. ولذلك اختطفه بكلتا يديه، والطفل تشبث به كالغريق المتشبث بقشة، وكأنه قد عرفه أيضاً أو عرف فيه رائحة عائلة لم يبق منها غيره!

على امتداد الأيام لم يحس جلال بدفء الحياة، ولكنه كان يعوّل على ما يراه من براءة في عيني حسن في خفض صخب الذكرى، كلما تراءت له صورة أحد من الذين طواهم الزلزال!