Glogo

الغزال ذو القرون الذهبية – هند سيف البار

وقفَ (سعيد) أمام مدخل بيت صغير، مرتدياً نظارة طبية بإطار فضي، حاملاً بيده اليسرى حقيبة سوداء، تأمل البيت جيداً، الأتربة وخيوط العنكبوت تغطي نوافذه وجدرانه، مدَّ اصبعه السبابة وكتب اسمه على إحدى نوافذ البيت القريبة، وابتسم.

أخرج عدة مفاتيح من حقيبته، لكل مفتاح حمَالة مفاتيح مختلفة ومميزة، أحدها على شكل نجمة سوداء، وأخرى على شكل وردة تباع الشمس، وثالثة تحمل شكل أرنب أبيض، انتقى المفتاح الأخير وفتح به باب البيت، وفي لحظة دخوله باغتته نوبة عطاس، فوضع حقيبته جانباً وأخرج منديلاً أسود مطرزاً بأزهار مختلفة من جيبه، وغطى به أنفه وفمه وذلك باستخدام يده اليسرى، تقدم بخطوات واسعة نحو نوافذ البيت وفتحها جميعها لتجديد الهواء.

 ثم باشَر التجول في أنحاء البيت الصغير، دون أن يُزيح المنديل عن فمه وأنفه، متفحصاً كل ركن من الأركان، إلى أن وصل إلى دَرَج مُستقر بين حائطين، رفع بصره نحو نهايته، وبعدها بدأ الصعود عليه متكأً بيده اليمنى على الحائط، إلى أن وصل إلى قمته، وهناك وجد باباً خشبياً صغيراً، دفَعه ودخل إلى غرفة غارقة في الأتربة، اتجه نحو نافذة الغرفة لفتحها، وفي طريقه تطايرت الأتربة من حوله مع كل خطوة يخطوها، حذاؤه الذي كان لامعاً إلى حد بعيد، صار داكناً جداً.

 حاول فتح النافذة لكنه لم يستطع! فقد كانت عالقة بقوة، وضع منديله في جيبه واستعان بيده الأخرى في فتحها، سحبها بقوة دون جدوى، حاول مرة أخرى وجذب النافذة بشدة، فسمع صوت ارتطام شديد وشعر بالأرض تهتز من تحت قدميه، فاقشعر جسده بالكامل من شدة المفاجأة والخوف، التفت نحو مصدر الصوت بعيون متسعة جداً.

لمع إطار نظارته الفضي، بقي منتصباً مترقباً انقشاع أتربة الغرفة، عاد الهدوء إلى المكان، تبددت الأتربة، واتضحت معالم الغرفة التي كانت خالية من الأثاث.

لاحظ (سعيد) اختفاء الباب، ففهم على الفور ما حدث، أن مصدر ذلك الصوت لم يكن سوى باب الغرفة الذي هوى على الأرض بعد صموده لسنوات!

نزل الدَّرجات، وخرج من البيت متجهاً إلى صندوق كان قد أحضره معه، فتحه وأخرج منه أدوات تنظيف مختلفة، وفي أثناء انشغاله بإفراغ الصندوق، سمع صوت طقطقة حجارة، فرفع بصره نحو الجبل القريب، ورفع يده لحجب أشعة الشمس القوية من إيذاء عيونه، ومن خلال أصابعه تمكن من رؤية حيوان ما على الجبل، غزال؟ ربما لكن المثير للدهشة قرونه التي بدت وكأنها من الذهب الخالص! أغمض عيونه وفتحها مجدداً ولكن ذلك الحيوان اختفى! وكأنه تلاشى في الهواء.

تساءل: هل كان ذلك غزالاً؟ هل كانت قرونه ذهبية؟ أم هي مجرد خدعة بصرية سببها أشعة الشمس القوية المتوهجة؟

تقدم عدة خطوات باتجاه الجبل، وألقى نظرة متفحصة سريعة على أجزاء منه، ثم عاد إلى ما كان يقوم به.

بعد انتهائه من إفراغ الصندوق، وضع قناعاً واقياً من الغبار على فمه وأنفه وثبته جيداً، ثم شَرَعَ على الفور نفض الغبار، وتنظيف ومسح أرضية البيت والنوافذ وتلميعها، لم يتوقف لأي استراحة، استمر في التنظيف حتى حلول المساء.

تثاءب وتمطى والإرهاق بادٍ على ملامح وجهه وجسده، ها قد أنهى التنظيف أخيراً، مسح جبينه المتعرق بمعصمه، ثم خرج من البيت لإدخال الأثاث الذي كان قد أحضره معه.

أخذ نفساً عميقاً، ووضع يديه على وركه، وأجال النظر في قطع الأثاث أمامه، أريكته الزرقاء الضخمة التي لا يمكنه أبداً الاستغناء عنها والتي يفضل دائماً الجلوس عليها أثناء القراءة، وبجانبها ثلاجة صغيرة، وكرسي أزرق دوار مع طاولة، وسرير صغير، وحقائب مختلفة في الأحجام.

تقدم نحو الأريكة وحاول سحبها، لكنها لم تتزحزح من مكانها، فجلس عليها بعد أن قرر أخذ استراحة قصيرة لاستعادة قواه الخائرة، وبمجرد جلوسه استسلم للنوم دون أدنى مقاومة.

لم يضايقه أو يزعجه أحد أثناء نومه لساعات ولكنه عقد حاجبيه فجأة في ضيق، وما لبث أن فتح عينيه المرهقتين جداً، وجلس على أريكته قائلاً: توقف عن شدِّ شعري! يا للإزعاج.

تثاءب وتمدد، ثم تلفتَ حوله في حيره، امتلأت عيونه بالأسئلة، وقف وتقدم ثم توقف فجأة وتراجع بعد أن أدرك أنه كان يقف على حافة جبل، طار النوم من عيونه وتساءل: عجباً! كيف وصلت إلى هذا المكان؟ هناك من حملني إلى هنا! لا لا هناك من حملني أنا وأريكتي الضخمة أيضاً إلى هنا! هذا لا يُعقل!

بعد صَمْتٍ واستيعاب للموقف الذي وجد نفسه فيه، تقدم ونظر إلى الأسفل، ما رآه كانت بعض الأضواء الخافتة لمنازل صغيرة، نعم لقد رأى القرية الصغيرة النائية التي أتى لقضاء عدة أشهر فيها.

أطرق قليلاً، ثم قرر العودة إلى بيته، وفي اللحظة التي همَّ فيها بتفحص طريق النزول سمع صوت صرير أريكة مألوف، كان ذلك الصوت الخافت هو نفسه المحبب إلى نفسه الذي تصدره أريكته كلما جلس عليها.

اجتاحت جسده بالكامل قُشْعريرة من شدة الخوف.

تساءل في نفسه: هناك من جلس على الأريكة! وهو ليس أنا بالتأكيد، إذن من يكون؟

بلع ريقه بصعوبة، ثم التفت ببطء باتجاه المكان الذي استقرت عليه الأريكة.

لكنها لم تكن موجودة!!

وفي الحيّز الذي كانت تشغله وقف ماعز ضخم بقرون شديدة السواد، التقت عيونهما، شعَر بوهن، وعجز عن تحريك ساقيه، لم يكن هناك أي مهرب، فكَّر سريعاً، الماعز من أمامه والمنحدر الجبلي من خلفه، لا مفر.

بعد دقائق من الحملقة، أبعد بصره إلى ما خلف الماعز الضخم، كهف؟ بفضل ضوء القمر المكتمل تمكّن من أن يلمح كهفاً، وطريقاً سالكة على يمين ذلك الكهف، أخذ نفساً عميقاً منتشياً بالأمل، ثم عاد للنظر إلى الماعز الذي لم يتحرك أبداً من مكانه، أما هو فقد خطى خطوة جانبية بحذر وبطء، فقد قرر الدوران حول الماعز والهرب عبر ذلك الطريق.

خطوة، خطوة، بدا لسعيد أن خطته تسير على ما يُرام، فالماعز لم يتزحزح من مكانه، والمسافة التي تفصله عن سبيل النجاة تقلصت كثيراً، عدة خطوات بعد وبعدها…

طرفت عيون الماعز فجأة! وخرج دخان كثيف من قرنيه، تحول ذلك الدخان إلى شرر، ومن ثم إلى نيران اشتعلت على طول قرونه ما لبثت أن تلاشت وحل محلها ذهب مشع، قادر على سلب أي لب، كانت درجة توهج ذلك الذهب تتزايد في كل لحظة إلى أن تحول إلى توهج خارق.

رفع (سعيد) ذراعه لحماية عيونه، وخطى إلى الخلف! فزلت قدمه وجحظت عيناه بعد أن أخفق في المحافظة على توازنه، وسقط! مدَّ يديه للتشبث بأي شيء، بأي أحد ولكن عبثاً.. واستمر في السقوط..

فتح عينيه، وعدل جلسته على أريكته الزرقاء لاهثاً غارقاً في العرق، وأشعة الشمس الحارقة تكوي جسده كياً.

تساءل: كابوس؟؟

سمع صوتاً: مرحباً سيدي، هل تحتاج إلى المساعدة؟

التفت إلى صاحب الصوت وقال: آه مرحباً.

وقف واتجه نحو الفتى قائلاً: نعم أنا بحاجة إلى مساعدة في نقل هذا الأثاث إلى الداخل.

ابتسم الفتى، وتقدم نحو إحدى حقائب السفر الصغيرة وسحبها من مقبضها إلى داخل البيت، ثم خرج راكضاً لسحب حقيبة أخرى بنشاط.

تقدّم (سعيد) وقال: هذه الحقيبة ثقيلة جداً، دعني أساعدك في نقلها.

تعاونا في سحب الحقيبة، وفي طريقهما لإدخالها إلى البيت سأل: ما اسمك أيها الفتى؟

أجابه: اسمي (حسن)، أعيش في ذلك المنزل هناك.

وأشار إلى بيت قريب.

قال: وأنا اسمي (سعيد)، أتيت لقضاء عدة أشهر في هذه القرية.

تركا الحقيبة في المنزل، واتجها لنقل بقية الأشياء.

أكمل (سعيد) كلامه: يُقال إن هذه القرية مسكونة بالجن، ولذلك قررت زيارتها والتأكد من ذلك.

لم يقل الفتى شيئاً، واستمر في دفع الكرسي الدوار نحو البيت.

قال (سعيد): هل سمعت عن القرية التي يُقال إنها مسكونة في الجزيرة الحمراء؟

انتبه الفتى وصاح: ماذا؟! قرية مسكونة في الجزيرة الحمراء؟؟

قال (سعيد): ركِّز معي أيها الفتى، لقد قُلت «يُقال» ولا يمكننا اعتبار كل جملة تأتي بعد هذه الكلمة على أنها حقيقة مُثبتة.

تعاونا في نقل الأريكة الزرقاء إلى المنزل.

وأكمل (سعيد) كلامه: يُقال إن سكان تلك القرية هجروها بسبب تزايد أنشطة الجن فيها، فيما أكّد آخرون أن سبب هجرها هو انتقال سكانها إلى مساكن أكثر حداثة.

صاح الفتى (حسن) وهو يحاول قدر الإمكان تجنب إسقاط الأريكة: أين.. أين سنضعها؟

قال (سعيد): هنا.

بعد أن وضعاها.

هتف (حسن) لاهثاً: لقد كانت ثقيلة جداً.

ردَّ (سعيد): معك حق، كان عليَّ تحذيرك قبل نقلها.

ابتسم (حسن) وسأل: والآن هل يمكنني مساعدتك في شيء آخر؟

أجابه (سعيد): لا، وشكراً جزيلاً لك.

اتجه الفتى للخروج من البيت لكنه توقف والتفت فجأة نحو (سعيد) قائلاً: عذراً، ولكن هل قلت شيئاً عن كون قريتنا هذه مسكونة.

ردَّ عليه (سعيد): يُقال لقد قلت يُقال إنها مسكونة، أنا كاتب مفلس أفكاراً، ولذلك قررت القيام بهذه الرحلة التي قد تُلهم وتحرك بحر أفكاري الراكد.

ثم اتجه وفتح إحدى حقائبه وبدأ إخراج عدد من الملابس منها قائلاً: لدي صديق يعاني مثلي من «إفلاس أفكاري» قرر مرافقتي إلى هنا، ولكنه غيّر رأيه في اللحظة الأخيرة واتجهَ إلى القرية الموجودة في الجزيرة الحمراء.

وقف واتجه لإفراغ حقيبة أخرى متسائلاً بصوت مسموع: أين وضعت الصابون؟

فتح حقيبة أخرى قائلاً: صديقي سمع عن شائعة تقول إن أم الدويس شوهدت هناك في القرية.

شهق الفتى متفاجئاً وقال: ماذا! شوهدت هناك!

التفت (سعيد) إلى الفتى لثوانٍ ثم عاد لإكمال بحثه في الحقيبة قائلاً: يُقال إنها شوهدت هناك، وصديقي من أكبر المعجبين بها وبقصصها، وبالتأكيد لن يفوِّت على نفسه رؤيتها شخصياً.

ابتسم بعد أن وجد الصابون وأدوات الاستحمام التي كان يبحث عنها، وقال: لستُ أرغب في رؤيتها، يكفيني كل ما سمعته عنها، شخصياً لا أحمل لها أي امتنان فقد كانت حاضرة بقوة في معظم كوابيس طفولتي، امرأة فاتنة جميلة، عيناها عين قط، ترتدي الذهب وأجمل الملابس، رائحتها عطر ومسك وعنبر، تجذب إليها الرجال وتُغويهم.. ثم تلتهمهم بعد أن تعود إلى هيئتها الحقيقية المفزعة.

سأله الفتى: هل تؤمن بوجودها؟

وقف (سعيد) ووضع أدوات الاستحمام على الطاولة، وأغلق نوافذ البيت الواحدة تلو الأخرى قائلاً: لا.

تنهد الفتى بارتياح.

تقدم (سعيد) من الفتى وابتسم بلطف قائلاً: لقد قُلت يُقال إنها شوهدت هناك، وكما تعلم..

ابتسم الفتى وقال: فهمت فهمت.

قال (سعيد): هذا جيد، والآن أنا بحاجة إلى الاستحمام، إلى اللقاء يا (حسن) قد نلتقي مرة أخرى في أحد أنحاء القرية.

غادر الفتى، فاتجه (سعيد) نحو الباب، وفي اللحظة التي أوشك فيها على إغلاقه، تفاجأ بأحدهم يدفعه بقوة ويُدخل رأسه من طرفه، لم يكن ذلك الأحد سوى (حسن) الذي قال: نسيت إخبارك أن تتجنب الحديث عن الجن في هذه القرية، معظم السكان لا يحبذون الحديث في هذا الموضوع.

×××

وقف (سعيد) تحت دش الاستحمام، فشعَر براحة وانتعاش، ابتسم مهنئاً نفسه على فكرة الانتقال إلى هذه القرية واستئجار هذا البيت، إن قيامه بتنظيف البيت شخصياً قلَّل من مبلغ الإيجار الذي كان يتوجَّب عليه دفعه، حتى إن لم تكن القرية مسكونة، فذلك لن يقلل أبداً من سحرها في عينيه، هذا ما قاله لنفسه بكل رضى.

بعد انتهائه من الاستحمام، جفف نفسه بفوطه بيضاء كبيرة، ثم أخرج فوطة أخرى أصغر حجماً من الأولى واتخذ منها مئزراً وخرج من غُرفة الحمَّام الصغيرة واتجه إلى المطبخ، فتح ثلاجته وأخرج منها قارورة مياه.

أخذها معه متجهاً إلى الصالة وهناك ارتمى على أريكته الزرقاء، وشرب قارورة المياه كاملة حتى آخر قطرة، ثم عاد إلى التفكير.

لقد قال ذلك الفتى إن «معظم» سكان هذه القرية لا يفضِّلون الحديث عن الجن، معظمهم وليس جميعهم، عليَّ فقط إيجاد أولئك الذين لا يمانعون الثرثرة حول هذا الموضوع.

اتجه إلى إحدى حقائبه الكبيرة التي كانت مملوءة حتى آخرها بملابس رياضية، انتقى منها قميصاً أزرق وبنطلوناً رمادي اللون، ارتداهما، ثم وضع ساعة يد فضية حول معصمه الأيسر، وخرج من البيت.

رفع بصره نحو السماء التي كانت ملبدة بالغيوم، أخذ نفساً عميقاً شعر بعده بالنشاط، واتجه بعد ذلك عابراً شوارع القرية متلفتاً متفحصاً كل شيء من حوله، وأثناء تجوله لاحظ تجاهل سكان القرية مُعظم مظاهر التطور.

واشتغلوا في صناعة الفخار، كان أمام كل بيت جِرار، تختلف في جودتها من بيت لآخر، هناك جرار مصنوعة بمهارة فائقة، وأخرى بمهارات متوسطة أو بسيطة، هل يعتمد سكان هذه القرية على هذه الصناعة للحصول على لقمة العيش؟ بجانب الزراعة طبعاً، فالمزارع تحيط بالقرية وتختلف في أحجامها ومزروعاتها.

جلس لتفحص إحدى الجرار بعد أن جذبت الرسوم المنقوشة عليها انتباهه.

سمع صوتاً مألوفاً: ها نحن التقينا مرة أخرى.

التفت (سعيد) اليه وقال: حسن!

تقدم (حسن) وجلس بجانبه قائلاً: أحب هذه الجرة كثيراً، أحلم أن أصنع واحدةً مثلها يوماً ما.

سأله (سعيد): هل يشتغل الجميع هنا في صناعة الفخار؟

أجابه (حسن): نعم.

قال (سعيد): يبدو الأمر ممتعاً.

وقف (حسن) وقال بحماس: هل تود مني تعليمك طريقة صناعتها؟

وفي تلك اللحظة ارتفع صوت تحطُّم بعض الجرار، اندفع (حسن) و(سعيد) إلى مصدر الصوت، لكنهما لم يجدا شيئاً أو أحداً!

قال (سعيد): هذا محيِّر، صوت تحطم الجرار جاء بالتأكيد من هذا المكان، ألا توافقني على ذلك يا حسن؟

عقد (حسن) ذراعيه على صدره وانكمش على نفسه قائلاً: لست متأكداً من ذلك.

قال (سعيد): لست متأكداً من ماذا؟؟ إن صوت التحطم كان قادماً من هنا ولا شك!

قال (حسن) الذي لم يغيِّر من وضعيته: أنا لم أسمع شيئاً.

أدامَ (سعيد) النظر إلى (حسن) باستغراب ثم لمعت عيناه قائلاً: هل كان هذا من عمل الجن؟

لم يُجِب (حسن)، ولم تبدُ عليه أية رغبة في الخوض في هذا الحديث، فصاح بعد صمت: اعذرني أنا ذاهب لمساعدة جدي.

انطلق الفتى راكضاً، تبعه (سعيد) ببصره حتى غاب عنه في أحد المنعطفات، ثم تنهد قائلاً: على أية حال، الإصرار على إنكار وجودهم لن يقودك إلى أي مكان أيها الفتى، الجن يسكنون قريتك، إن تجاهل أمر كهذا ومقاومة الاعتراف به لن يرهق أحد سواك.

واتجه بعد أن أخذ جولة سريعة حول القرية إلى متجر صغير قريب لشراء بعض الطعام، وعند خروجه من المتجر سقطت قطرة مياه على خده، فرفع بصره نحو السماء، وبعد ذلك أسرع الخطى عائداً إلى بيته.

×××

بدأ (سعيد) تناول طعام العشاء الذي أعده بنفسه معتمداً على بعض المعلبات التي أحضرها معه في رحلته، وأخرى اشتراها عصر اليوم من متجر القرية.

اشتد هطول الأمطار في الخارج، فاتجه (سعيد) نحو إحدى نوافذ البيت، وقف يتأمل المطر بشرود، وبيده كان يحمل طبق حساء ذرة ساخناً، اهتزت نوافذ البيت، سحَب (سعيد) لنفسه كرسياً ووضعه مواجهاً للنافذة، جلس عليه وأكمل تناول حساءه الساخن فيما كان يراقب الأجواء في الخارج، وبعد دقائق من جلوسه رفع الملعقة نحو فمه لكنه توقف، أعاد الملعقة إلى الطبق ثم وضعهما جانباً.

اندفع نحو النافذة وألصق وجهه على زجاجها ليحصل على صورة أوضح، ليتأكد من صحة ما تراه عيناه، عدَّل نظارته الفضية.

كان هناك في الخارج جسم ضخم غير واضح، حاول (سعيد) معرفة ما يكون لكن دون فائدة، لا توجد أية إضاءة كافية، وفجأة لمع برق أضاء القرية الصغيرة لعدة ثوانٍ، تلك الثواني كانت كافية تماماً لسعيد ليتمكن من رؤية ذلك الشيء الضخم، شهق وابتعد عن النافذة قائلاً: هل التقت عيوننا قبل قليل؟؟

تساءل: ما كان ذلك؟ رجلٌ كهل يحمل على ظهره حملاً ثقيلاً! هل كان عارٍ؟ لا، لا أظن ذلك صورته ما زالت في عقلي! كان شبه عارٍ لفَّ حول خصرة خرقة قصيرة بالية يستر بها عورته، هل كان إنسياً أم جنياً؟ هل عليّ إلقاء نظرة أخرى؟؟ كلا لن أفعل! ماذا لو كان واقفاً تماماً أمام نافذتي الآن ينتظرني كَيْ.. كَيْ أُعاود النظر.

بعد قشعريرة سريعة قال: حان وقت النوم.

اتجه إلى سريره دون الالتفات نحو أية نافذة، واختبأ تحت غطاء سريره حتى غط في نوم عميق.

في صباح اليوم التالي وبعد تناول طعام الإفطار وقف أمام النافذة وبيده كوب من الشاي قائلاً: أتيت إلى هذه القرية بحثاً عن الجن، وفي اللحظة التي رأيت فيها أحدهم اختبأت في فراشي مرتجفاً، هاهاها.. آآآه كم أنا جبان!

احتسى بعضاً من الشاي وأكمل: لكن ذلك كان مُفاجئاً.

تنهد: لن أهرب أبداً من مواجهتهم في المرة القادمة.

اتجه إلى طاولته، وفتح دفتراً كان قد أحضره لكتابة أي فكرة تخطر على باله، أي فكرة تساعده على كتابه قصة جديدة تخرجه من الركود الأدبي الذي يعاني منه، ذلك الكهل حرّك شيئاً ما في روحه جعله يشعر ببعض الانتعاش.

كتب عدة ملاحظات، ثم تأكد من عقد رباط حذاءه الرياضي جيداً، وبعدها اتجه نحو الثلاجة وأخرج عصير برتقال وبدأ شربه بواسطة قشة بيضاء، واتجه خارجاً من البيت، وهناك وقف منبهراً فقد استقبله أجمل وأكبر قوس مطر يراه في حياته.

ضجت القرية بالحياة والنشاط، توافد الزوار من شتى البقاع لشراء ما أنتجته مزارع السكان، أو ما أبدعته أصابعهم.

ابتسم (سعيد) واختلط بالباعة وتفقد بضائعهم وتبادل الحديث معهم، ولم يتطرق أبداً إلى موضوع الرجل الكهل أو موضوع الجن بشكل عام، كان حريصاً على تكوين علاقات جيدة مع أهل القرية.

وفي أثناء تجوّله حاول التقاط كل كلمة يتفوهون بها، كل ما كان يريده هو إيجاد شخص يمكنه تبادل الحديث معه حول الجن متى شاء.

سمع صوتاً يصيح به طالباً منه التوقف.

فانصاع له دون تفكير، وبعدها التفت إلى صاحب الصوت للاستفسار عن السبب، لكنه تخشًّب في مكانه بعد أن جحظت عيناه!

لاحظ عدد من السكان ردة فعله فانفجروا ضاحكين، أما هو فقد ظل في مكانه، يتأمل الرجل الكهل الذي تغطي التجاعيد وجهه وكامل أجزاء جسده، والذي كان يحمل على ظهره جراراً، كم كان عددها؟ لا يعلم ولكنه خمن أنها عشرة.

قال الرجل الكهل: قريباً من هنا توجد بئر عميقة قديمة! أمطار ورياح الأمس سحبت الحجارة والأخشاب التي وضعناها حولها، كن حذراً أيها السيّد.

لم يكترث (سعيد) لما قاله الرجل حول البئر، كان لا يزال غارقاً في تأمل هذا الكيان الغريب الواقف باستقامة أمامه والأخاديد تغطي كل جزء من أجزاء جسده.

التفت الرجل الكهل إلى شخص آخر، وأعاد عليه نفس الكلام الذي قاله للتو لسعيد.

تقدم (سعيد) نحو الرجل الكهل بعد أن استعاد رباطة جأشه ووضع يده على كتفه قائلاً: عذراً سيدي، هل تسمح لي بطرح سؤال؟

التفت الكهل بكامل جسده نحوه قائلاً: تفضل.

ثم سعل بقوة.

قال (سعيد) في نفسه: أكاد أقسم أنني رأيت بعضاً من الأدخنة والأتربة تخرج من فم هذا الكهل فيما كان يسعل!

رفع الكهل عيناه نحو (سعيد) قائلاً: تفضل، هات سؤالك.

اقترب (سعيد) منه وهمس في أذنه: بصراحة هل أنت جني أم إنسي؟

عقد الكهل حاجبيه لثوانٍ، ثم انفجر ضاحكاً، ضحكته كانت عميقة جداً وغريبة، اهتزت الجرار التي كان يحملها على ظهره مع اهتزاز جسده أثناء الضحك، فخشيَ (سعيد) من أن تتحطم كلها!

وفي تلك الأثناء سمعا صوتاً: جدي.. جدي..

نظر (سعيد) إلى صاحب الصوت في دهشة وقال: من؟ حسن!

ابتسم (حسن) وقال: صباح الخير، جدي هذا هو الشخص الذي حدثتك عنه، سعيد يسعدني أن أعرفك على جدي، أفضل صانع فخار في العالم.

قال الجد: ما رأيك يا سعيد في أن تقبل دعوتي لك لتناول طعام الغداء في بيتنا؟

اندفع (حسن) وسحب (سعيد) من ذراعه قائلاً: بالتأكيد سيقبل.

اتجه الثلاثة إلى منزل الجد، (سعيد) لم يقل شيئاً ولم يعترض حتى وتبعهما بصمت.

×××

أخذ (سعيد) جولة في أنحاء منزل الجد برفقة (حسن)، انبهر بالجمال والانفراد الذي تتسم به الجرار التي قام الجد بصنعها، هناك جرار بنقوش معقدة جداً ومتشابكة بأشكال مدهشة، وأخرى بنقوش بسيطة لكن لا شبيه لها، وجرار كثيرة غارقة في الألوان والرسومات المذهلة لحيوانات وأزهار وجبال وسماء وبحر ….

قال (سعيد): يبدو لي أن جدك احترف هذه المهنة تماماً.

ردَّ عليه (حسن): لقد سبق وأخبرتك أنه أفضل صانع فخار في العالم.

سأله (سعيد): أين المكان الذي يصنع فيه جدك الفخار؟

أشار (حسن) بيده إلى (سعيد) كي يتبعه، وقاده إلى غرفة وحيدة مستقلة تقع خارج البيت.

قال (حسن) قبل دخول الغرفة: جدي يقول دائماً إن هذه الصناعة محفورة في قلبه وعقله وذاكرته.

دخلا إلى غرفة الفرن الخاصة بتصنيع الفخار.

تقدم (حسن) نحو دولاب وقال: يقوم جدي بوضع الطين فوق هذا الدولاب الذي يدور، وفي أثناء دورانه يقوم بتشكيل الطين من الأعلى ومن الأسفل إلى أن يقوم بصنع الشكل الذي يريده.

وقف (سعيد) أمام الدولاب ليلقي نظرة أقرب إليه.

أكمل (حسن): جدي يقوم بنفسه بإحضار الطين من الجبل والأماكن القريبة، الطين الذي يستخدمه في صناعة الفخار، هل رأيت الجرار التي يحملها على ظهره؟ إنه يذهب بها خالية نحو الجبل، ثم يعود بها وقد امتلأت بالطين الأحمر والأخضر والأصفر التي يخلطها معاً لاحقاً لصناعة الفخار.

قال (سعيد) بانبهار: هذا مذهل! مذهل حقاً ومدهش! لا بد وأنك فخور بجدك.

قال (حسن): بالتأكيد كل الفخر.

×××

 

جلس الجميع حول مائدة الغداء، والدا (حسن) وجده ومعهم (سعيد).

كان الجميع صامتاً، والطعام لذيذاً والجو لطيفاً وهادئاً لكنه لم يستمر كذلك طويلاً فقد كسر (سعيد) ذلك الصمت قائلاً: أشكرك أيها الجد الكريم على هذه الدعوة، ولكنك حتى الآن لم تُجبني على سؤالي.

رفع الجد بصره نحو (سعيد) وقال: عن أي سؤال تتحدث؟

ردَّ (سعيد): ذلك السؤال، أممم.

أدار بصره حول أفراد العائلة، كان متردداً هل لا بأس بإعادة طرح سؤاله على مسمع الجميع؟ (حسن) لن يعجبه ذلك وسيغضب بالتأكيد، فعاد إلى الصمت.

وبعد انتهائهم من تناول الغداء، أخذ الجد (سعيد) معه إلى غرفة الفرن.

جلس الجد أمام الدولاب وبدأ العمل قائلاً: سمعت الكثير عنك من (حسن)، هل تظن حقاً أن هذه القرية مسكونة بالجن؟

قال (سعيد): لقد قلت يُقال، يُقال إنها مسكونة.

سأله الجد: ما هي الحكايات التي سمعتها عن قريتنا؟

أجابه (سعيد): في الحقيقة أنا لم أسمع أية حكاية، ولكن مكان القرية النائي والقريب من الجبل جعل الجميع يظن أنها مسكونة.

قال الجد: أنا لا يمكنني نفي أو تأكيد ذلك، لكني أعرف الكثير من الحكايا، هل تريد مني سردها لك؟

أشرق وجه (سعيد) وقال: وهل ستفعل ذلك؟

قال الجد: نعم، سمعت من (حسن) أنك مفلس أفكاراً، ولذلك قررت مساعدتك بهذه الحكايات التي قد تنعش ذهنك، يُقال إن هذه الحكايا حدثت في قريتنا.

أدار الجد الدولاب وبدأ العمل وسرد القصة في آن واحد.

يُحكى أيها الضيف العزيز، أنه في صباح أحد الأيام وجد السكان خيوطاً من الرمال تمتد على طول طرق القرية، تلك الرمال أثارت زوبعة من الأسئلة حول كيفية وصولها إلى هذه القرية النائية، وما سبب كونها منثورة على خط مستقيم وليست مبعثرة في المكان.

انتشرت الشائعات والتخمينات حول حقيقة تلك الرمال.

قال أحدهم: إن الكائن الذي يقف خلف وجودها ذئب وحيد حزين، شكله لا كالذئاب، يغطي جسده الرمل بدلاً من الشعَر يقطع الشوارع بلا هدف، وتتناثر الرمال تحت قدميه في كل خطوة يخطوها.

نفى ذلك شخص آخر قائلاً: ذئب؟ هذا هراء وتأليف، يقال إنه رجل مُسِنٌ جداً، أكبر رجل في هذا العالم، شعره فضي طويل جداً، يسحبه خلفه أثناء سيره، وذلك هو سبب وجود كل تلك الرمال على شوارعنا، نعم الرمال تعلق بشعره ثم تسقط على شوارعنا.

ضحك شخص ثالث: ذئب؟ هاهاها رجل مُسِن؟؟ هاهاهاها، هذه مجرد آثار لمرور شاحنة كبيرة مخصصة لنقل الرمل، وبسبب خلل ما تسربت منها الرمال، والنتيجة خيوط من الرمال تمتد على طول شوارعنا.

رد عليه أحدهم: وما الذي تفعله شاحنة كهذه في قريتنا النائية البعيدة؟ لا يوجد بناء حديث يُقام هنا.

لم يجادل أحد، واكتفى الجميع بالصمت، وتفرقوا عائدين إلى بيوتهم.

وفي صباح اليوم التالي استيقظ السكان ليجدوا خطوطاً جديدة من الرمال تمتد عبر شوارع قريتهم مما يعني تضاعف كمية الرمال، وتكرر الأمر في اليوم الذي يليه.

اجتمع أهل القرية للتشاور عاجزين عن معرفة الشخص المسؤول.

لكن فتى يُدعى (علي) قال إنه يعلم سبب وجود هذه الرمال، وشرح للسكان كيف أنه بقي مستيقظاً طول الليل والتقى برجل من الرمل يمضي ودموعه الرملية لا تتوقف عن الانسكاب. سأله عن سبب بكائه فأجاب أن أحد سكان هذه القرية قام باختطاف ابنه، ولذلك هو يأتي كل ليلة إلى هنا باكياً لاستجداء المختطف وجعله يُعيد ابنه إليه.

تبادل أهل القرية النظرات، هناك من بدا عليه الاقتناع بقصة الفتى، وهناك من لم يصدقها من الأساس، لكن لم يسخر أحد أو يعلِّق لأنهم جميعاً كانوا بحاجة إلى تفسير لوجود تلك الرمال، هم بحاجة إلى تفسير حتى لو لم يكن منطقياً.

أكمل الفتى (علي) كلامه: أنا متأكد تماماً من أن الاختطاف لم يكن مقصوداً، هل جمع أحدكم رملاً من مكان ما وأحضره إلى هنا؟

قال أحد السكان: كنت في رحلة إلى قرية بعيدة جداً تقع قريبة من صحراء واسعة، أعجبني لون تلك الرمال فملأت قارورة بأكملها منها وأحضرتها معي إلى بيتي.

وبعد صمت أكمل: هل تلك الرمال التي أخذتها لم تكن سوى…

قال (علي): ربما.. أعطني القارورة، دعنا نتركها هنا في الشارع هذه الليلة ولنرى ما سيحدث.

في صباح اليوم التالي اختفت القارورة، وعادت الشوارع نظيفة وخالية تماماً من أي رمل، إذن يا (سعيد) ما رأيك؟ هل كان ما قيل عن رجل الرمل حقيقة؟ هل استعاد ابنه ورحل؟

هتف (سعيد): يا لها من قصة! من الجيد أن رجل الرمل ذاك لم يؤذِ أي أحد من السكان.

قال الجد: كان رجل الرمل ذاك ينوي دفن أهل القرية جميعاً بدموعه، نعم كان قد عزم على إغراق القرية بالرمال، لكن تخلصهم من تلك الأزمة سريعاً ساهم في إنقاذ أرواحهم.

صاح (سعيد): يا إلهي!!

وقف الجد بعد أن أنهى صناعة قطعة من الفخار منقوشة بأزهار ناتئة جميلة، وسأل: في رأيك هل كانت حكاية رجل الرمل حقيقية؟

أجابه (سعيد): أعجبتني القصة كثيراً، وأنوي تصديق حدوثها.

ابتسم الجد وقال: حسن لا يُحب الاستماع إلى حكايات الجن بعكسك.

ضحك (سعيد): هاهاها، لاحظت ذلك.

قال الجد: سأحكي لك المزيد في الغد إن أردت، أنت دائماً مُرحَّبٌ بك في بيتنا.

ابتهج (سعيد) واندفع وصافح الجد بحرارة قائلاً: شكراً جزيلاً لك، أنا ممتن لك كثيراً.

×××

خرج (سعيد) من منزل الجد مبتهجاً، وأخيراً وجد شخصاً يمكنه التحدث إليه حول جميع الأمور التي يُفضلها، وفي طريق عودته إلى البيت، لاحظ لمعاناً ما في الجبل فالتفت نحوه لكن ذلك اللمعان اختفى أو بالأصح قفز واختبأ خلف الصخور.

وقف (سعيد) في مكانه وعيناه نحو الجبل قائلاً في نفسه: الغزال ذو القرون الذهبية! هذه المرة أنا متأكد تماماً مما رأيت، سأسأل الجد عنه في زيارتي القادمة.

أكمل طريقه نحو البيت وهناك وجد الفتى (حسن) مستلقياً على عشب أخضر قريب، فانضم إليه، تبادلا الحديث حول الفخار وطريقة صنعه وبيعه، وتوافد الناس غير المنقطع إلى قريتهم لشراء ما أبدعته أناملهم، لم يتطرق (سعيد) إلى موضوع الجن، فذلك بالتأكيد سيضايق (حسن) ويجعله ينسحب من المكان.

وبعد أن افترقا، عاد (سعيد) إلى بيته، واندفع على الفور نحو دفتره لتدوين كل ما سمعه من الجد، ثم أضاف بعض الأفكار التي قفزت فجأة إلى عقله، استمر في الكتابة متجاهلاً آلام أصابعه حتى انتهى أخيراً.

وقف فخوراً بنفسه وألقى نظرة سريعة على ما كتبه، ثم اتجه إلى الاستحمام.

وفي المساء هطل المطر مجدداً، أعدَّ لنفسه كوباً من الشوكولا الساخنة وجلس على أريكته الزرقاء ليقرأ كتاباً، كانت ليلة باردة ومثالية بالنسبة لسعيد الذي يحب كثيراً القراءة في أجواء كهذه، الرياح لا تكف عن الهبوب، وقطرات الأمطار تواصل النقر على النوافذ دون انقطاع، استمر في القراءة حتى غلبه النوم.

×××

 

في اليوم التالي استيقظ على صوت طرقات على باب بيته، فنهض متثاقلاً نحو الباب وفتحه، وهناك وجد (حسن) واقفاً يحمل بيديه طبقين من الطعام قائلاً: أرسلني جدي لأوصل لك هذا الطعام.

قال (سعيد) الذي ما زالت آثار النوم بادية على وجهه وصوته: آه هذا كرم منه، شكراً لك يا حسن.

دخل (حسن) ووضع الطعام على الطاولة قائلاً: جدي يدعوك إلى الغداء في بيتنا اليوم، هذا ان لم تكن مشغولاً.

رد (سعيد): سأقبل الدعوة بكل امتنان.

ابتسم (حسن) ولوح له بيده قائلاً: نلتقي لاحقاً إذن.

وخرج راكضاً نحو بيته.

تثائب (سعيد) قائلاً: يااااه أنا جائع جداً.

اتجه للاستحمام وبعد ذلك تناول طعام الإفطار الذي أحضره (حسن)، ثم جلس على أريكته لإكمال القراءة.

بعد ساعة أو أكثر قليلاً، أغلق الكتاب، ووضعه جانباً، ثم اتجه ووقف أمام نافذة بيته ونظر عبرها إلى الخارج، كانت القرية نشيطة ككل صباح، السكان والزوار والطيور، الجميع يبدون سعداء.

لمعت عيناه وكأنه تذكر شيئاً، وقال: منذ انتقالي إلى هذا البيت تجاهلت تلك الغرفة الواقعة أعلى الدرج!

فاتجه إليها وارتقى الدرجات المؤدية إليها، وفتح بابها الصغير ودخل، سارَ إلى نافذتها قائلاً: سأحاول فتحها مجدداً.

بعد محاولات تمكن أخيراً من فتحها.

أخذ (سعيد) نفساً عميقاً: وقال هذا أفضل، حان وقت تجديد هواء هذه الغرفة التي قد استخدمها يوماً ما.

بعد مكوثه فيها لدقائق خرج، ونزل الدرجات بعد أن قرر زيارة الجبل القريب، وفي أثناء نزوله التفت إلى الغرفة القابعة أعلى الدرج باستغراب قائلاً: هذا غريب جداً! من الذي أصلح ذلك الباب؟؟

اتجه إلى حقيبة ظهر كان قد وضع فيها بعض الأطعمة والمشروبات، تفقَّد أربطة حذائه الرياضية وتأكد من أنها معقودة جيداً، ثم ارتدى الحقيبة وخرج متجهاً إلى الجبل.

قال لنفسه: هل سألتقي الغزال ذو القرون الذهبية؟

صعد الجبل، واستمر في الصعود إلى أن سمع صوت (حسن) يناديه من الأسفل: مرحباً هل تسمح لي بالانضمام إليك.

لوح له (سعيد) بيده صائحاً: تعاال يوجد مكان منبسط هنا سنجلس عليه ونتحدث، سأنتظرك هنا.

جلس (سعيد) بعد أن نزع حقيبته، انضم إليه (حسن) بعد فترة وجيزة.

قال (حسن): لماذا قررت الجلوس هنا؟ هل تعبت من التسلق؟ أنا في العادة أتسلق الجبل حتى تلك النقطة هناك.

وأشار بيده إلى أعلى الجبل.

عدّل (سعيد) نظارته وثبَّت عيونه على النقطة التي يشير إليها (حسن) قائلاً: تقصد بجانب تلك الشجرة غريبة الشكل؟

ضحك (حسن) وقال: هذا صحيح.

صاح (سعيد): هذا مدهش حقاً.

قال (حسن): أنا معتاد على تسلق الجبال مع جدي، فالوصول إلى القمة أمر هيِّن بالنسبة لي.

سأله (سعيد): هل التقيت غزالاً في رحلاتك هذه؟

باستغراب رد (حسن): غزال؟ لا أبداً.

قال (سعيد): غزال بقرون ذهبية.

اتسعت عيون (حسن) وصاح: ماذا؟ هل أخبرك جدي عن ذلك الغزال؟ أنا لا أعرف عنه شيئاً.

ربَّت (سعيد) على ذراع (حسن) قائلاً: اهدأ لا داعي لكل هذا الانفعال.

وبعد صمت، فتح (سعيد) حقيبته وأخرج منها بعض الأطعمة والعصائر التي تقاسمها مع (حسن)، مرَّ على جلوسهما عدة ساعات قضياها تارة في الحديث عن مواضيع عشوائية وتارة أخرى التزما فيها الصمت غارقين في تأمل القرية والسماء.

قال (حسن): هيا علينا العودة، أنا متأكد من أن جدي في انتظارنا.

×××

في منزل الجد وبعد تناول طعام الغداء.

أشار الجد إلى (سعيد) كاليوم السابق أن يتبعه إلى غرفة الفرن، وهناك جلس الجد يعمل على صناعة قطعة فخار فيما كان (سعيد) يجول بنظره على قطع فخار مرتبة على رفوف الغرفة.

أشار إلى إحدى القطع قائلاً: المرسوم هنا هو رجل الرمل الذي حدثتني عنه أليس كذلك؟

رد الجد وهو منهمك في تشكيل قطعة الطين التي بين يديه: نعم.

سأل (سعيد): وهل كل صورة هنا تتحدث عن قصة ما؟

أجابه الجد: نعم.

اختلفت الصور المرسومة على الجرار وتنوعت ألوانها فبعضها بدت كئيبة جداً وقاتمة وبعضها الآخر بدت مشرقة وبهية، كانت هناك صورة لامرأة تحمل بيدها نصف جرة، وصورة لقطة غارقة في التفكير، ورسمة لبئر غريبة الشكل تتدلى فوق رأسها دلاء عديدة، والرسمة الرابعة استوقفت (سعيد) الذي قال: أليست هذه ترمز إلى أم الدويس؟ ما شأنها بقريتكم؟

رد الجد: يُقال إنها شوهدت هنا، لكن لا حوادث أو قصص تُذكر عنها في قريتنا.

صاح (سعيد) بعد أن أخذ إحدى الجرار من الرف واتجه بها إلى الجد قائلاً: غزال بقرون ذهبية؟

قال الجد: نعم، هل سمعت بقصته؟

قال (سعيد): ليس بعد، هل بإمكانك اطلاعي عليها؟

قال الجد: بكل سرور، اسحب ذلك الكرسي إلى هنا واجلس عليه، أجل ذلك الكرسي، أحسنت والآن استمع إليّ، يُحكى أيها الضيف الكريم عن غزال بقرون ذهبية يعيش في الجبال، رشيق وسريع لم يستطع أحد الإمساك به، وإن دوى صوت طلق ناري فإنه يتوارى عن الأنظار لأيام، كان الجميع يودُّون الحصول على قرونه اللامعة، لكن أحداً لم يستطع الفوز بها، فأطلقوا الشائعات حوله.

اختلفت الشائعات ولكن شائعة واحدة فقط أقنعت الأغلبية، وهي أن ذلك الغزال لم يكن سوى جني! حتى إن لحقته ووصلت إليه لن تتمكن من القبض عليه، وذلك لأنه سيختفي في الهواء بكل بساطة.

وقد يظهر ذلك الغزال في مكان معيّن ولافت للأنظار، فينجذب إليه صياد طامع في قرونه، وفي اللحظة التي يصل فيها إليه، يبدأ الغزال في التحرك والابتعاد، فيستمر الصياد بملاحقته، وأثناء الملاحقة يتظاهر الغزال بالتعب لحث الصياد على متابعة المطاردة دون استسلام، حتى ينتبه، لكن بعد فوات الأوان إلى أنه وقع ضحية لألاعيب هذا الغزال الذي كان يقوده طول الوقت إلى الفخ.

ذلك الغزال يتظاهر بالتعب لبث الأمل والحماس في أرواح مطارديه، تلك هي طريقته في استدراج ضحاياه.

صاح (سعيد): ماذا ضحاياه؟!

أكمل الجد: تقول الشائعات إن أحداً لم يرجع من أولئك الذين استمروا في ملاحقته، واختفت جميع آثارهم، وبسبب ذلك تخلى الكثيرون عن فكرة مطاردته.

سأل (سعيد) باهتمام: وما الذي حلَّ بذلك الغزال الآن؟

قال الجد: لا أعلم، ثم ما رأيك بأمر ذلك الغزال وهل تُصدق كل ما قيل حوله؟

قال (سعيد): نعم، فلا يوجد أي تفسير آخر لاختفاء مُطارديه.

ابتسم الجد وقال: أما أنا فلا أصدق شيئاً مما قيل، وأعتقد أن هناك من أعياه التربص بالغزال وأنهكته طول المطاردات وكثرة الإخفاقات، فقرر نشر تلك الشائعات، فإن لم تكن تلك القرون من نصيبه فهي لن تكون من نصيب أي أحد آخر إلى الأبد.

قال (سعيد): هل تقصد أن ذلك الغزال مسالم؟

قال الجد: من بين الشائعات التي أطلقت حول ذلك الغزال والتي لم تقنع الكثيرين، هي أن ذلك الغزال وحيد يبحث عن صُحبة، يبحث عن صديق! لكن جميع من التقى بهم حاولوا الغدر به من أجل قرنيه، أنا أميل إلى تصديق هذه الشائعة.

لم يقل (سعيد) شيئاً، وبدا غارقاً في التفكير.

وفي تلك اللحظة دخل (حسن) قائلاً: هيا يا جدي أرجوك لقد وعدتني.

ابتسم الجد وقال: سعيد، حسن يود تعليمك طريقة صنع الفخار، ما رأيك؟

التفت (سعيد) إلى (حسن) ثم إلى الجد قائلاً: سيسعدني كثيراً تعلُّم هذه الصنعة الجميلة.

تبادل الجد و(سعيد) المقاعد وانضم إليهما (حسن).

مضى الوقت سريعاً، وحلَّ الليل، وقف (حسن) والجد على عتبة البيت، لتوديع (سعيد) الذي قال: شكراً جزيلاً لكما على كل ما بذلتماه لتعليمي.

قال الجد: بإمكانك إتقان الصنعة إن تدربت عليها يومياً، عليك تعلم بعض المهارات التي تنقصك، أنا واثق من أنك ستتعلم سريعاً.

قال (حسن): أنا مسرور لأنك تمكنت من صنع جرتك الأولى.

ضحك (سعيد) ونظر إليها قائلاً: حسناً هي ليست جذابة ولكنها جيدة كمحاولة أولى، ممتن لكما.

عاد (سعيد) إلى بيته وقبل أن يدخل التفت وألقى نظرة سريعة نحو الجبل، وبعدها ولج إلى بيته واتجه دون إبطاء إلى دفتره وكتب كُل ما سمعه اليوم من الجد، وفتح صفحة جديدة وكتب عليها طريقة صنع الفخار وابتسامة لطيفة على شفتيه.

×××

في اليوم التالي استيقظ (سعيد) مبكراً جداً، وجهَّز حقيبة ظهره وخرج مرتدياً إحدى بدلاته الرياضية، واتجه نحو الجبل، ناوياً البحث عن الغزال ذي القرون الذهبية، والمسح على ظهره والهمس في أذنه: يمكنك اتخاذي صديقاً لك.

ابتسم ورفع بصره نحو الجبل، سمع أصوات خطوات قادمة من خلفه.

فالتفت وقال: الجد!

ابتسم الجد الذي كان يحمل الجرار العشرة على ظهره: صباح الخير.

قال (حسن): نحن ذاهبان لجمع بعض الطين، هل تودُّ مرافقتنا؟

ابتسم (سعيد) قائلاً: سأرافقكما في يوم آخر، أنا مشغول جداً الآن.

قال (حسن): هل تريد مني مساعدتك في شيء ما؟ هل تودُّ تسلق الجبال؟ أنا أعرف جميع الطرق السالكة.

قال (سعيد): أشكرك يا (حسن)، ولكن..

صاح (حسن): جدي هل تسمح لي بمرافقته أرجووك.

ابتسم الجد قائلاً: نعم.

هتف (حسن): شكراً جدي.

ثم أشار إلى الجبل قائلاً: سعيد، اتبعني سنبدأ التسلق من هناك هيا.

ركض (حسن).

شكَر (سعيد) الجد قبل اللحاق بحسن.

وأثناء صعودهما قال (حسن): عليك أن تكون متيقظاً كي لا تنزلق قدمك.

قال (سعيد): سأفعل.

بعد أن قطعا مسافة.

قال (حسن): كن أكثر انتباهاً الآن فالأمطار الغزيرة التي هطلت مؤخراً غيَّرت وهدمت الطرق السالكة هنا.

تقدم الاثنان لعبور منحدر بسيط، لكن قدم (سعيد) زلت فجأة وشعر بنفسه يسقط نحو الأسفل لكن يد قوية تشبثت به وسحبته إلى الأعلى، رفع (سعيد) بصره نحو (حسن) الذي كان متشبثاً به بقوة بإحدى يديه، فيما كانت ذراع يده الأخرى محاطة حول شجرة قريبة بجهد خارق، مغمضاً عينيه بقوة.

استعاد (سعيد) توازنه وتمكن من التشبث بالصخور من حوله والصعود.

جلس لاهثاً: يا إلهي! كان ذلك مرعباً، أشكرك على إنقاذي.

قال (حسن) والإعياء بادٍ عليه: كان ذلك مخيفاً.

التقطا أنفاسهما وبعد ذلك التقت نظراتهما فانفجرا ضاحكين.

أكملا رحلتهما، سأل (حسن): هل تبحث عن شيء معين؟ أنت تتلفت بإفراط.

قال (سعيد): نعم، آسف لأني لم أخبرك من البداية.

نظر (حسن) إليه باستغراب.

قال (سعيد): أنا أبحث عن الغزال ذي القرون الذهبية.

اتسعت عينا (حسن) قليلاً، وبعد صمت سأل: وما الذي تريده منه؟؟

أجاب (سعيد): سأتحدث إليه قليلاً.

صاح (حسن) فجأة بغضب: هل تبحث أنت الآخر عن قرونه!

اندهش (سعيد) من التغير المفاجئ في مزاج الفتى، وقال: صدقني، أنا لا أنوي إيذاءه! سمعت قصته من الجد، فقررت مصادقته.

قال (حسن): ماذا؟؟ تريد مصادقته؟

هز (سعيد) رأسه بالإيجاب.

ابتسم (حسن) وقال: سأقودك إلى كهفه.

صاح (سعيد): ماذا! أتعرف مكانه!

قال (حسن): اتبعني.

وبعد أن استمرا في التسلق لساعة أو أقل، أومأ (حسن) إلى كهف كبير وقال: ها قد وصلنا.

تقدم (سعيد) ودخل إلى كهف شديد الظلمة، وتبعه (حسن).

قال (حسن): لا تقلق أنا أعرف هذا الكهف جيداً، استمر في السير في خط مستقيم، لا تخف، أنا سأسير أمامك.

سأل (سعيد): هل أنت متأكد من أن الغزال مختبئ هنا؟

لم يجبه (حسن)، ولكن استمر في السير.

سأل (سعيد) مجدداً: هل اقتربنا؟

قال (حسن): هل تعلم، ذلك الغزال أراد دائماً أن يصير صديقاً لك، أظن أنك لاحظت ذلك.

قال (سعيد): التقيته عدة مرات، لكني لم أفهم الشيء الذي يريده.

قال (حسن): ها قد وصلنا، عليك أن تعلم أنك من أفضل أصدقاء ذلك الغزال.

صاح (سعيد): يا إلهي!! ما الذي حدث كيف وصلنا إلى هنا؟

رفع بصره إلى السماء، ثم اتجه وألقى نظرة إلى أسفل المنحدر الذي كان واقفاً على قمته، فوقعت عيناه على القرية التي أتى لقضاء عدة أشهر فيها وقال: عجباً يا حسن هذا الكهف الغريب أعادنا إلى نقطة البداية.

التفت إلى (حسن) لكنه لم يجده، فاندفع لتفقد الكهف الذي خرج منه لتوه، كان كهفاً صغيراً لا يؤدي إلى أي مكان، امتلأت عيونه بالأسئلة، ما الذي حدث؟

نزل من الجبل واتجه إلى بيته، فتفاجأ تماماً عند رؤيته للأثاث الذي كان قد أحضره معه لا يزال في مكانه في الخارج ولم يتم إدخاله أبداً.

تلفت حوله في صدمة، لست أفهم شيئاً!

اقترب من (سعيد) شخص ما يجري مسرعاً، قال (سعيد) لنفسه: آه إنه صديقي الباحث عن أم الدويس! ما به؟ إنه يبدو وكأنه جاء من تلك القرية البعيدة إلى هنا ركضاً على الأقدام! ما الذي حدث له؟ لا أستطيع فهم وتفسير هيئته! هل التقاها أم لا! هل هو غاضب أم مبتهج؟

تجاهل (سعيد) كل تلك التساؤلات ونظر إلى الجبل قائلاً: الماعز الضخم الذي رأيته في تلك الليلة لم يكن كابوساً؟ هل أخذني إلى قريته؟ هل طلب منه الغزال ذو القرون الذهبية ذلك؟

كان صديق (سعيد) يتكلم عن رحلته بلا توقف، لكن بال (سعيد) كان في مكان آخر تماماً، كل ما سمعه كان جملة: «لقد مضت خمسة أيام متى تنوي إدخال الأثاث إلى البيت؟».

لم يبعد (سعيد) بصره عن الجبل باحثاً عن الغزال، عن (حسن)، وهناك وجده أخيراً، غزال رشيق بقرون ذهبية يومئ له برأسه ثم يقفز متوارياً عن الأنظار.

النهاية